الرأي

عصفور .. موت كاتب

ميسون عبد الحميد

لاشك أن التعصب من أخطر الإشكالات القديمة والمعاصرة في ذات الوقت، وإن كان الاهتمام بدراسة أسبابه وطرائق علاجه لم يبد بشكل كاف إلا مؤخرا وذلك في أعقاب الحرب العالمية الثانية .
والتعصب بحق وصمة في جبين الإنسانية، بماهو قائم على الكراهية والازدراء والتمييز، هو ضد الإنسانية بما ينبغي أن تقوم على الحب والتعاون والتسامح.
ومما يدعو للأسف حقا أن القدر الأكبر من تاريخ الإنسانية سجلا للتعصب والعداء بين الجماعات، وواقع الأمر الذي يدعو للتساؤل أن أغلب الأفعال الوحشية التي ارتكبها البشر بسبب التعصب لم تكن على يد مجرمين أو مجانين وإنما قام بها أفراد عاديون لصالح جماعتهم ضد جماعة أخرى، وفي ذلك يشير تاجفيل (1984) إذا اعترفت أنني في الأسبوع الماضي قتلت شخصين من أجل مصلحتي الخاصة أو مصلحة أسرتي، فلن يختلف اثنان من المجتمعات التي نعرفها على أنني مجرم، أما إذا اعترفت بأنني تسببت في قتل ألفين من البشر لصالح جماعتي الدينية أو السياسية أو الاجتماعية أو العنصرية أو القبلية أو الوطنية فأقل مايمكن قوله إنه في إطار بعض المجتمعات سيكون هناك خلاف على مدي أخلاقية سلوكي أما في بعض المجتمعات فقد لايكون اللوم على هذا السلوك مطروحا أصلا.
إذا كانت تلك النظرة السائدة، فليس غريبا إذا أن يستمر التعصب وتتزايد أعداد ضحاياه. من هنا ارتفعت صيحات التحذير من قبل الكثيرين الذين حررتهم المعرفة من قيود التعصب ثم دائما فإن واجبنا أن نعارضه في شتى الصور ولم يكن المسرح بمعزل عن ذاك التصدي لهذا الخطر ففي مسرحية عصفور للكاتب والممثل محمد السني دفع الله رد الله غربته تصدي واضح وصريح . ولابد لي أن أشير إلى أن مسرحية عصفور هي فائزة بجائزة التأليف المسرحي لجائزة محمود محمد صالح التي ينظمها مركز عبدالكريم ميرغني الثقافي وأعدها وأخرجها في إطار حوارية النص والعرض المخرج عطا شمس الدين بكاست تمثيل مميز من الممثلين السودانيين المحترفين تقوم المسرحية على ثلاث شخصيات أساسية مثلها كل من الممثل رفعت السر وعاطف قنطيري وإيهاب بلاش.
حيث تحكي المسرحية عن مأساة شاب ساهم في قتل كاتب مع شخصين تلقوا أوامر عليا بقتله. تحسرالشاب كثيرا وحاولوا تصحيح ذلك الخطأ مع شركائهم ولكنهم اختلفوا فيما بينهم ثم لقوا حتفهم الثلاثة عن طريق رجل خفي .
النص ينتمي إلى تيار المسرح التعبيري حيث حملت الشخصيات أرقام م1 وم2 م3.
يناقش بطرح عالي الأسباب التي تؤدي إلى التطرف حيث خلق المخرج عطا شمس الدين ماضي لكل شخصية عبر مونولوج طويل حيث عكست المونولوجات اضطراب الشخصيات الثلاث التي قامت بقتل الكاتب عصفور الكاتب، قدمت المسرحية تسع لوحات منتهجة تيار المسرح الملحمي أولها استفسارية عبارة عن هذيان حول مبرر قتل عصفور واتهامه بالزندقة.
م1: زنديق، زنديق، زنديق سوف أكتبها بدمه على جسده.. زنديق
م2 :كتبناها
م3 لاتفرك يدك
م2 ذبحناه. ذبحناه.. الدم
باقي المناظر سعت لتفجير أسئلة مباشرة حول مصادر التطرف وسرد تاريخ التعصب من قبل الممثلين داعما ذلك بعرض مشاهد قصيرة من فيلم عبر بورجكتر عاسكا حالة الدمار والحروب مع وجود شخصية راقص يرتدي زي راهب يقدم عرضا متوازيا مع الدمار مما يوحي أن هذا الراقص أو هذا الفنان تحول إلى جزء من منظومة هذا الدمار وهو يشبه لحد بعيد أحد الشخصيات الموجودة على خشبة المسرح المتطرفة (الشخصية التي قام بأدائها الممثل ايهاب بلاش الشخصية التي جسدت في لحظة ما أقوى المضامين الفكرية حيث تتحدث عن العدالة والحقوق كمعادل موضوعي لخواء الشخصية التي تحمل تلك الأفكار المتطرفة بتكنيك المفارقة)
م1: إنها الأوامر
م3 نحن نقتل بدم بارد
م2نحن القتلة
سأقتلك أيضا لتواطؤك معه.. عصفور قتله الكلمات
تأتي هذه العبارة في لحظة المواجهة مابين الشخصيات الثلاث التي قتلت عصفور (القتلة) وهي نفس الشخصيات التي تحول منها اثنين إلى متطرفين مبررين خيارهم للتطرف على الوضع الراهن المتفشي من عنصرية – وفقر- وهجرات غير شرعية وموت في البحر ونازين جدد ومعسكرات من الأطفال اللقطاء كل هذا وغيره كان مبررا لوجود المتطرفين.
حيث خلص العرض وبمزيد من الأسى فإن المعطيات الراهنة التي نشهدها اليوم في المشهد السياسي لا تزال تؤكد استمرار بل اطراد حوادث التعصب في السودان والشاهد على ذلك جرائم الإبادات الجماعية التي شهدتها البلاد في ظل النظام المباد
وفي النهاية ليس من شك أن تحقيق المعرفة بالتعصب يزيد كثيرا من فهمنا لما يحدث في عالمنا المعاصر من تخريب وتدمير وقتل وحروب وإبادة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى