عصا الأبنوس المتأففة

بخيلاء معلنة إلى درجة الافتضاح، ها هو (النذير) يتحسس خطواته على الأرض، يمشي على الأرض مرحاً، فتوة الشباب، نجاح في مجال التجارة عن طريق وسائل متقدمة في (الفهلوة)، جلابية السكروتة، عمة التوتال ستة أمتار، اجتهد كي تخرج لفة عمته من دائرة المتشابهات، فكان أن وصل إلى هذا الوضع، كان يحس بالزهو تجاهها. خرج من المنزل يسبقه عطر نفاذ، يحمل في يده اليمنى عصا من الأبنوس يلوح بها ويضعها على الأرض منسجمة مع إيقاع خطواته ومع كل تلك الخيلاء، مركوب النمر، الساعة الأوميقا تزين معصم يده اليمنى، الخاتم الذهبي الكبير يشع بين أصابعه تلك الممسكة بعصا الأبنوس، يده اليسرى تتأرجح أثناء مشيته المختالة وبحركة لاإرادية يتحسس بها الشال المخطط بالأزرق الموضوع على كتفه.
يمشي (النذير) على الأرض مرحاً، مرفوع الرأس، ينظر إلى الأمام بثقة متناهية، خرج هذا المساء من المنزل قاصداً مكتبه التجاري في السوق، قبلها سيمر على سوبر ماركت (نذيركو) كي يتابع الأمور، وبتأفف له من الكبرياء ملامح، يمارس زجره مع العاملين كهواية من هواياته الممتعة. عادة ما يخرج (النذير) كل مساء راجلاً، يترك عربته ناعمة الخضرة، عادة ما يصرح أنه يحب (لون زينب). هذا المشوار المسائي يفضله (النذير) كي يستعرض تلك المشية ذات الخيلاء الفاضح، يحب أن يراه الناس وهو يقدل، إنه يعرف تماماً إنه يقدل (فوق عزو).
بعد مروره على سوبر ماركت (نذيركو) يدور حول الجهة الأخرى من السوق متفقداً مطعم (ميادة) الفاخر، (ميادة) هي ابنته الوحيدة، يجلس هناك على كرسي وثير لا يجلس عليه أحد غيره. صادف مرة أن وجد أحد العاملين مسترخياً على ذلك الكرسي، فما كان منه إلا أن فصله عن العمل، يجلس هناك مستمتعاً بتنافس إداريي المطعم الناعمين جداً في خدمته، يوصي بتجهيز وجبة عشاء فاخر ترسل إلى منزله لأن والي الولاية الجديد مدعو للعشاء معه. (النذير) يخطط دائماً لاستئناس أصحاب الوظائف الحكومية الكبيرة، ولا يتوانى مطلقاً في دعوة الصغار منهم خاصة أولئك الذين يتم على أياديهم تصريف تلك الأمور التي تفتح السكك. وقبل أيام قليلة كان قد استأنس ضابطاً إدارياً مسؤولاً عن التموين. نظر إلى ساعته، كانت قد تجاوزت الثامنة مساء بقليل، يمشي قادلاً، يتحسس خطواته على الأرض بعناية خاصة، يفكر في فتح محل يقدم ساندوتشات البيرجر بعد أن تلمس نجاح الحلواني الشرقي. سيقابل هذا المساء بمكتبه مسؤولاً كبيراً في الجمارك الذي كان قد استأنسه بمجهود مقدر تجاوز الخمس دعوات مختلفات اختلاف الوجبات الثلاث، إضافة إلى دعوات أخريات ملتبسات إلى درجة السرية. سيقابله الليلة ويحسم معه بعض تلك الأمور التي ستشكل قفزة نوعية في جدلية الربح والخسارة، يحسم الأمر معه بالضربة القاضية التي هي بمثابة شيك على بياض.
مختالاً وقادلاً (تنغرس) عصا الأبنوس على الأرض متقدمة خطواته المتباهية، عرج (النذير) على الزقاق الذي توجد فيه تلك المخازن الكبيرة المهيأة لابتلاع كل شيء في داخلها، زقاق قذر رفع من درجة تأففه، عطره النفاذ الغالي الثمن امتزج برائحة عفونة متأصلة في الزقاق، الكتابات المحذرة على الحوائط من مغبة التبول مثل: (ممنوع البول يا حمار) فقدت وظيفتها وانمحت بعض حروفها وتلاشى البعض منها. ارتبكت قدلة (النذير) في هذا الزقاق، هب أحد خفراء المخازن من رقدته على العنقريب متهيئاً لاستقبال هذا القادل المختال الأعظم. قبل أن يصل (النذير) إلى حيث وقفة ذلك الخفير، لمح أو وقعت عيناه على قط يبعثر بين كومة من القاذورات، وبكل ذلك التأفف المتعالي المثار بتلك العفونة المتأصلة في المكان، قذف (النذير) بعصاه الأبنوس نحو ذلك القط الذي تفادى تلك العصا وركض هارباً. وصل (النذير) إلى حيث يقف ذلك الخفير وطلب منه أن يحضر إليه تلك العصا من بين تلك القاذورات، لكن عاد الخفير معلناً لـ (النذير) أنه لم يجد تلك العصا، قذف (النذير) بزجرة حادة في وجه ذلك الخفير ليعود مرة أخرى للبحث عن تلك العصا ذات الشحنة المتأففة التي حاولت أن تضرب ذلك القط. بحث الخفير دون جدوى، ترك (النذير) تعاليه وفقدت خطواته تلك الخيلاء ليشارك الخفير في البحث عن تلك العصا، طال البحث، وحين انتبه (النذير) إلى أنه يبحث بين كومة من القاذورات عن عصاه تلك ارتبكت تماماً هيبته أمام الخفير، الأمر الذي أضاف إلى ذلك الخفير المرتبك أيضاً مما يحدث أمامه عدداً لا يستهان به من الشتائم تلك التي كانت تحاول إعادة الهيبة إلى ذلك الشاتم المتعالي المختال.
ترك (النذير) البحث عن عصاه الأبنوس، تحرك من ذلك المكان، ولم يستطع أن يواصل كرنفال قدلته تلك بدون العصا التي اختفت تماماً، لذلك عاد إلى المنزل. ليستكمل أدوات تلك القدلة وترك الخفير يبحث دون جدوى عن عصا الأبنوس. في ظهيرة اليوم التالي بينما كان (النذير) يجلس على مكتبه الفاخر، جاءته السكرتيرة، وبدلال له أهداف خفية أخبرته أن شخصاً يريد أن يقابله. دخل ذلك الشخص على (النذير)، كان ذو هيبة واضحة، لم يره (النذير) من قبل، يرتدي عباءة لها من لون السمن درجات، كان الشخص ذا بهاء غريب، وسيماً ممشوق القوام ويشع من عينيه بريق غريب. بعد السلام، مد الرجل الهيبة تلك العصا -عصا الابنوس- المتأففة وبنظرة حادة في عيون النذير قائلاً:
-دي عصايتك؟
كان (النذير) مشدوهاً ببهاء ذلك الشخص الذي نظر مرة أخرى عميقاً في عيون (النذير) قائلاً:
-دي عصايتك؟
=أيوه.
قالها (النذير) بوجه مخطوف وزائغ النظرات:
-هاك دي عصايتك، أوع تاني تعمل كده.
ارتجفت دواخل (النذير) تجاه ذلك التحذير الغريب، وبيد مرتجفة أمسك بالعصا وأحس أنه أمام كائن غريب، وبصوت مرتجف تساءل (النذير):
-انت منو؟
ضحك ذلك الشخص في وجه النذير، ومن بين هدير تلك الضحكة قال:
-أنا الكديس الحاولت تضربو بالعصاية دي.
جمدت أطراف (النذير) ولم تقو حتى على الارتجاف، وقبل أن يخرج ذلك الشخص القط من مكتب (النذير)، اقترب بوجهه من وجه (النذير) المخطوف بالخوف، وقال بصوت كثيف التهديد:
-أوعك تاني تعمل عملة زي دي، مفهوم؟