“عبر الممرات التي..” قصائد سودانية تصارع البنادق(2)
الناقد – بشير أبوسن
الشاعر هنا يتحدث عن بلاده، ولكن الكلمات جاءت مليئة بآثار الشجن، وكأنه يقول “إن بلاده هي هذه التي يقول، وليست تلك التي يعيش”، ويرى أن السبب في حدوث هذا التناقض هو “شيء سمّه ما شئت”، كما يخبر عنوان القصيدة التالية للقصيدة السابقة، وهذا الشيء كان كابوساً غريباً: “كان كابوساً من الإسفنْجِ/ يمتصّ الملامحَ/ والسماحاتِ التي قمنا على أكنافها/ منذ انشغال النهر بالموج الغريب”.
عمر محمد نور نجح في إحداث تفاعل مثمر بين طاقات اللغة العربية وما تحتويه عبقرية اللهجة الدارجة في السودان
ولغة عمر خلال الديوان تجيء مستغرقة في الحنين، مشتاقة إلى حياة نشأ في أكنافها الشاعر بريئاً، ويظل منجذباً إلى هذه البراءة دائماً. وهناك تعليل نرى من الضروري ذكره في هذا السياق، فكثير من قصائد هذا الديوان كتبها عمر وهو بعيد عن بلاده جغرافيَّاً، إذ يعمل عمر محمد نور منذ عام 2016 حتى الآن أستاذاً للغة العربية في جامعة يانقشو في الصين، وهذا الشعور ستجده جلياً حين تقرأ قصيدته “من الشرق للقلب” التي تحمل بصمات عمر الشعرية من العنوان ذاته. وكذلك عند التوقف عند قصيدته “لي باي” التي تقوم أساساً على إقامة حوار مع “لي باي”. وهو شاعر صيني من أسرة تانغ الملكية (701 – 762)، تتحدث هنا الذات الشاعرة عن حكمة هذا الشاعر الصيني الجليل، وعن مدينته، وبعدها تدخل إلى تجربتها هي، المثقلة بالحنين إلى عوالم أخرى غير عوالم “لي باي” هذا. يقول عمر وهو يشعر بغربة تكاد تفتك به: “لــي باي”/ يا سورَ الصينِ الأعظَمَ/ في تاريخِ الصينِ/ ويا أسطورةَ كلّ زمانْ/ أنا مثلُك يا “لي بايْ”/ أحنّ إلى (سُوكي)/ لحفيفِ النّيمِ/ ورائحةِ النيلِ الأزرقْ/ لمراكبَ من أشواك السمكِ البُلْطيِّ الفحْلِ/ القادمِ من رحمِ الخزّان”.
و(السوكي) هي مدينته الصغيرة على ضفاف النيل الأزرق، في مدينة سنار التي وردت كثيراً في أشعاره. ونجد هنا حميمية الصورة، ورغم أنها صورة مألوفة، إلا أنّ زمان تنزّلها ومكانه يجعلان منها أداة مهمة في عكس الحالة النفسية للشاعر. والقصيدة هذه طاغية العذوبة، كانت الذات الشاعرة مستسلمة لحنينها، مستغرقة فيه، وهي تشكو القيد، تتمنى وتريد أن تعود إلى أحبابها، فلو أنها تُطلق لصاحت: “…وصحتُ بأعلى صوتي:/ عدْتُ إليكمْ / من أبناء الأصفرِ/ من أحفادِ النهرِ الأصفرِ/ حيث تنامُ الشمسُ/ على الأبوابِ/ ويجري سحْرُ اللهِ بكلّ مكان”.
و(يانقشو) تلك المدينة الوادعة، لا تفتأ تذكّره ببلاده، فنجده يتدفق أشواقاً لا حد لها، صوراً تلدها صور، وأطيافاً تبعثها أطياف، اقرؤوا معي هذا المقطع: “أتذّكر أم درمانَ/ وهي تعوم في طلحٍ لطيفِ الموجِ/ من غاباتِ قيسان المشلّخةِ احتفاءً/ بالبناتِ العائداتِ من البياضِ الزيفِ/ بعد تغرُّبٍ مثلي/ على رملِ المدائن والمدارات التي/ أنّتْ وحنّتْ/ لالتقاء الصَبّ بالنبع الوسيمْ/ يانقشو تذكّرني بلادي/ كلما انسربتْ فقاقيعٌ من المطرِ المُدلّل/ عبر ثقب نوافذ الليل انحدرتُ/ إلى الصّعيدِ/ لمحتُ برقاً حافياً/ وسمعتُ صوتَ أبي/ ونحنحةً للصٍّ لم يجد شيئاً/ فأهدى صاحبَ البيت اعتذاراً/ ومضى في حالهِ/ ولقد أقلع من ذنبٍ عظيمْ”.
هذه صور لا تحفظها سوى ذاكرة فنان، يتقطع حنيناً ونداء وحباً
والحب يتخلل كل قصائد الديوان، هو طين هذه القصائد التي نفخ فيها عمر من روحه الشاعرة، وللأنثى حضور لافت، لا تحتاج عناء لتعثر عليها. فهو عندما يحنّ إليها، ويذكرها بصفات محددة. فهي تغني ولا تغني إلا له، وحين يذهب بباله يلتقيها: “يقول لها وهيَ تحصي له ردّة الطرفِ/ والتأتآت التي في الكلام:/ خذي هذه الأغنيات الخريفيّة الوسم/ قد صُغتُها عِينةً عِينةً/ كي تُلائم طقسَ اللقاءِ/ الذي أرتجيهِ/ على قُبّة القلبِ”.
وهنا عشق صريح حار، وهيبة من المثول بين يدي الجمال، تأمل قوله: “تماماً كما ينتقي الفجرُ/ أنْقى خيوطِ البداياتِ/ كان انتقائي لعينيْكِ/ من جملة الأسهمِ الجارحة”.
ويناديها عمر في قصيدة هي من أقدم قصائد الديوان، الذي جاءت قصائده من أزمان مختلفة، ولكن معظمها حديث، يناديها كما يليق بعاشق شجاع: “تعالَي كما يشتهيكِ المحبُّونَ/ ملآنة بعصيرِ الأنوثةِ/ في هيبةٍ واستقامةْ/ تعالَيْ لنكتبَ في أوجهِ الغائبينَ/ بأنَّا الْتقيْنا وأنّ الأُلى أوسعوكِ احْتفاءً/ برمّتهم كاذبون/ فوحدي أنا مَن يقولُ الحقيقة/ وحدي أنا مَن يذِيبُ القتامة”.
ممرات نفسية
يحمل اسم الديوان عبارة “عبر الممرات التي..” وهي عبارة غير مكتملة الدلالة من النظرة الأولى، وقد وردت العبارة مرتين في الديوان، غير أنها تجيء لتحمل دلالات مكتملة. يقول عمر في قصيدته “على قبر فرح ود تكتوك”: “أنصِتْ لنا يا أيّها التاريخُ/ للطّار المُبَوّخِ تحت نارِ المادحينَ/ وهم يسوّون المدائحَ/ في ليالي الصيفِ/ والحيرانُ يحتطبونَ/ واللوحُ المُدلّى بين كفّيْ ذلك المخصوصِ/
وهو يقول قولتَه/ فتجري حكمةً عبر الممراتِ/ الزّمكانيّةِ الأضلاعِ تحملُها النسائم”.
هو مقطع كما ترون ذو خصائص شعرية متشبعة بالسودانوية، الصورة هذه تكاد تخص وجدان أهل السودان وحدهم، ولكن الذي يهمنا هنا أن الممرات ارتبطت بالحكمة، عبرها تنساب الحكمة، وهي ممرات نفسية، ولا نرمي بعيداً إن قلنا إنما هي ممرات حكمة الشعر في تدفقه البطيء من منابع الإلهام إلى مصبّ الذات الشاعرة. فشاعرية عمر شديدة الحساسية للزمان والمكان، ويمكن للقارئ أن يتتبع طغيان الإحساس بالمكان وتفاصيله وجمالياته في قصائد الديوان. وهذا المعنى يؤكده السياق الذي وردت فيه العبارة ذاتها في مقطع آخر، ففي قصيدة “باحثاً في سرة الأمواج” التي تصف تأثر روح الشاعر بالجمال من حوله، الجمال الذي تبثه مدينة يانقشو، وإثارتها لطاقات الشعر في أوصال عمر.
يقول الشاعر: “يانقشو إذا مطرٌ تغشّاها بليلٍ ما/ أرَتْكَ قصيدةً كُتبت على غمّازتيها/ هيأتْكَ وهيّأتْ لكَ رحلةً/ عبر الممرّاتِ التي توحي لمرتكِـبِي زيارِتها/ بأنّ يداً مباركةً هنا/ مرّت على النُزْل القديمْ”.
كل ما يفعله عمر بقصائده وتجربته الشعرية المستمرة الإثمار، إنما هو نوع من الوفاء والبر ببلاده أولاً وأخيراً
وهنا الممرات أيضاً تدل على الطرق التي تسلكها القصيدة من لحظة تكوّنها في غياهب العقل الباطن حتى ارتدائها موسيقى الكلمات، وفي الحالتين ترتبط ممرات الشعر عند عمر بمسحة الرضا والمباركة والارتياح.
تقرأ الكتاب فتجد شعراً يغمرك بالأمل، وسرعان ما تعتريك نشوة، وتضيف إلى تجاربك تجارب، ويصيب ذهنك شرود جميل، تنكره لكنك تحبه. فصور عمر الشعرية ليست خاصة به تماماً، يشركك فيها، ويجعلك تحس بثرائك النفسي. وهو شعر شديد الاقتراب من القارئ السوداني، يتوسل عمر إلى ذلك باللغة والصور والأخيلة، وكل ما أُطلِع عليه في وجدان أهل السودان، خاصة وأن عمر نور يجيء من منطقة تتداخل فيها الأعراق وتتفاعل فيها الثقافات بانفتاح. وهي قصائد تعتني بالموسيقى اعتناء مطرِباً، والسودانيون ميالون إلى الطرب. ثم إن القارئ غير السوداني يجد عوالم مدهشة ساحرة، تنتمي لهذه الرقعة الكبيرة من الشعر الخام: السودان.
إذا كنتَ تعرف عمر نور عن كثب، زميل دراسة أو رفيق صبا، أو جمعتكما دروب الشعر وعذاباته، إن كنت من أولئك الذين ينادونه بـ (السناري)، نسبة إلى مدينته، عندها ستجد أبعاداً أخرى في شعره مضاءة بشخصيته الفريدة. سيذكر الناس النشاطَ الثقافي الذي كان يصنعه من العدم، هو ورفاق قليلون، يوقظون ربات الشعر في النفوس. يقيم المنتديات، يجمع الشعراء على اختلاف مزاجهم، يرحب بالبادئين رحلة الكتابة، لطيف الملامح، محبوباً، واسع الابتسامة، يعمل كنحلة نشِطة. يلاقي في سبيل ذلك ما يلاقي، في بلاد محكومة بالسوط وأعقاب البنادق، لذلك فهذه القصائد تجد دروباً ممهدة إلى نفوس كثير من القراء.
وربما نستطيع أن نقول، ونحن نحاول أن ندعك تختلي بالكتاب، إن كل ما يفعله عمر بقصائده وتجربته الشعرية المستمرة الإثمار إنما هو نوع من الوفاء والبر، ببلاده أولاً وأخيراً. فعندما يحنّ عمر فهو يحن إلى بلاده، وعندما يحب فهو يحب وطنه، وعندما يمدح فهو يمدح أبناء بلاده وبناتها، ويغضب لمآسيها ويثور مع الثائرين. وكتاب “عبر الممرات التي..” ينقل لنا نواحي محدودة من تجربة عمر، فثمة قصائد لم تنشر بعد في كتاب، وثمة ديوان كامل هو “من وادي المطاميس” استثمر فيه عمر قدرات اللهجة الدارجة في السودان، ولا تزال بلاده هناك ماثلة بكبريائها، نازفة حيناً وضاحكة حيناً. وعمر هو عمر، سريع الاشتعال، حاد الموهبة، وافر الاستجابة.