صفحات متخصصةقضايا فكرية

عبد العزيز الصاوي : تجديد الحزب الشيوعي ، ضروراته وصعوباته

(عبد العزيز الصاوي)

تجديد الحزب الشيوعي : ضروراته وصعوباته

عبد العزيز حسين الصاوي

الثابت الوحيد في حياة المجتمعات هو التغيير، والتجديد يعني الاستجابة الناجزة له تطويرا لحياة البشر. مدي جذرية التجديد بمعني إعادة النظر في الجوهري من مكونات تركيبة الحزب كأداة لتفعيل مشاركة المواطنين في الشأن العام، تعتمد علي عمق المتغيرات. وفي حالة الحزب الشيوعي ، وكافة الحركات والتيارات السياسية- الفكرية السودانية الحديثة ، تتعاظم الحاجة للتجديد ويرتفع منسوبه بالنظر لاجتماع عمق المتغيرات الى تأخر مواجهتها. علي المستوي العالمي المتغير الرئيسي هو الانهيار السريع والكامل للنموذج السوفيتي عام 1989. فبالرغم من الاستقلالية النسبية التي حافظ عليها الشيوعيون السودانيون عن الاتحاد السوفيتي، إلا ان تداعياته فيما يتعلق بصلب النظرية الماركسية كمشروع منافس للراسمالية في توفير حاجات الانسان المادية والمعنوية باتت موضع شك كبير.علي المستوي المحلي المتغير الرئيسي هو دخول أزمة  التطور الوطني مرحلة تصدع وحدة البلاد  بانفصال الشطر الجنوبي واحتمالات اندلاع حرب اهلية نتيجة  اهتراء نسيج العلاقات بين – السودانية وتراكم المظالم التنموية، بينما يبدو هدف تأسيس نظام ديموقراطي مستدام، لابديل غيره لتلافي هذاالمصير، أبعد مما كان عليه في أي يوم من الايام.

لايصح الاستنتاج بناء علي هذه المقدمه، إن الحزب بقي عاجزا كليا عن الاستجابة للمتغيرات أو أن اسباب القصور ذاتية بحتة. فعلي الصعيد النظري تخلي الحزب عن مفاهيم ماركسية اساسية مثل دكتاتورية البروليتاريا والمرحلة الشيوعية هدفا لتطور المجتمعات وغدا، بصورة عامة، اكثر تسليما بأن هذا التطور يخضع أيضا للارادة البشرية وعوامل متعلقة بالبنية الفوقية اكثر من التحتية، مثل الثقافه، وليس فقط لحتميات وأنساق نظرية مشتقة من الماركسية الكلاسيكية بتفسيراتها اللينينية النظرية والتطبيقية، أو من الواقع الطبقي لمجتمعات اخري. في هذا السياق نلاحظ ندرة الحديث حتي عن الاشتراكية في الادب السياسي الشيوعي راهنا رغم تكرار ظهورها في ( مشروع التقرير السياسي المقدم للمؤتمر السادس )، واتساع رؤيته للتحالفات الجبهوية تجاه الانظمة الدكتاتورية بمقياس الهدف المشترك مرحليا مجردا عن تقييمات طبقية سلبية للاطراف الاخري او تاريخها، كما كان عليه الحال سابقا.

مرحلتا الصعود والانحسار

السر وراء المستوي العالي لنجاح المرحلة التأسيسية للحزب الشيوعي بما تجلي في استمرار تصاعدي لفعاليتها تجاوز عقدين من الزمان ( 50- 70 )، ينكشف من خلال كونه تم في ظروف ذاتية وموضوعية معاكسة رأساً لهذا النجاح.  اسلوب العمل ( الانتقائية في العضوية والسريه )  والماركسية كفكر ( المادية الجدلية ) ومصطلحات ( الصراع الطبقي، البورجوازيه الخ..الخ..) كانت مسائل مستجدة تماما علي النشاط السياسي والفكري المحلي.  وإلى قلة الخبرة لدي شباب حديثي السن، كانت هناك ايضا حقيقة الضعف الكمي والنوعي للطبقة العاملة، عماد النظرية والعمل الشيوعيين وقتها، والفئات الاجتماعية والوسطية الحديثه، مجال انتشاره الطبيعي التي لم تكن تتجاوز 4.5% من مجموع السكان. لماذا إذن كانت البيئة السودانية قابلة لاحتضان هذا المخلوق ( الغريب ) ومده بأسباب الحياه رغم انتفاء او ضعف المقومات الموضوعية؟

عشية الاستقلال وغداته بدت الشيوعية- الاشتراكية الخيار الاوحد أمام نخبة عشرينيات العمر السودانية. ففائض تشوقها للمشاركة في بناء دولة الاستقلال بحكم السن والتعليم المتميز لم يجد لدي نخبة جيل صناع الاستقلال الاكبر سنا ما يستوعبه إذ كانت جاذبيته لهم تتضاءل وهو يعافر لتسيير حكم برلماني يفتقر الى التأهيل اللازم لادارته. من هنا كانت الجاذبية المضاعفة للخيار الاشتراكي الذي داعب خواطرهم وتطلعاتهم بأصداء رنينه العالي من كافة أرجاء المعموره  واعداً بمجتمع العدل والكفاية وتعزيز كفاح الشعوب الناهضة للتحرر السياسي والاقتصادي، مقابل  مجتمع الاستغلال الرأسمالي المناقض لكافة هذه المعاني بقديمه البريطاني المتسلط علي بلادهم وحديثه الامريكي القادم . التفاعل بين قوة التوق وجاذبية المناخ والنماذج الاشتراكية الطالعة بقوة حينذاك كانت كافية لتوليد قابلية لدي النخب الشبابية السودانية بالذات لاحتضان الوافد الجديد وتزويده بعناصر ذات مواهب قيادية فكريا وسياسيا وتنظيميا شكلت في حد ذاتها عاملا إضافيا للنجاح، مما حقق تغلباً حاسماعلي العوامل المعاكسة.

بخط غير سميك للغايه يمكن تقسيم تاريخ السودان الحديث الى مرحلتي ماقبل وبعد الاستعمارالبريطاني بمقياس الانتقال من البدوي- الريفي الى المديني.التفاعل ذو المدخل الاضطراري للتركيبة المجتمعية القبلية مع عملية التحديث الموجهة بمصالح الادارة البريطانية،خفف من ثقل شبكة العلاقات القرابية علي حرية الافراد المنتمين اليها مما مكن الفئات الواقعة في حقل عملية التحديث من تأسيس علاقات فوق – قبلية بينها سواء في المجال الخاص (علاقات دراسه وعمل وسكن، صداقات، زواج الخ..الخ..) او العام ( العمل النقابي والحزبي ، المجتمع المدني ). فيما يتعلق بالعمل السياسي يمكن القول إن هذا التطور حقن جسم المجتمع السوداني بجرعة من الترياق المضاد لانتقال الشمولية الكامنة في الانتماءات القرابية اليه.

غير ان هذه الجرعة، كما ثبت لاحقا، لم تكن كافية لتحصينه من العدوي فتبدد تأثيرها بمرور الوقت. اولا بفعل المقاومة الشعورية واللاشعورية لمصدر التطور لكونه الوجود الاستعماري ، مما عرقل السريان الكامل لمفعول  الجرعة في الجسم السياسي بداية،وثانيا لان الحزبية الطائفية واليسارية الناشئة عن عملية التحديث ساهمت في عرقلة مفعولها الترياقي كل بطريقتها، الاولي لكونها أوثق صلة بهياكل ماقبل التحديث الاقتصادية والاجتماعية والثانيه لكونها، كما ورد سابقا،كانت قد انشدت نحو التجربة الاشتراكية- الشيوعية حيث الاولوية للعدل الاجتماعي وليس العدل السياسي الديموقراطي.وكانت النتيجة بالنسبة للحزب الشيوعي بالذات تحول ايجابيات خصائصه التكوينية ( البطانة الفكرية للعمل السياسي، السرية والمواصفات النوعية للاعضاء )،كما شهد بها دوره القيادي ضد اول التجليات الشمولية سلطويا في ثورة اكتوبر 64 ، الى مصدر للسلبية. فتكرار الانقلابات الناتج اساسا عن ضعف المناعة المجتمعية، مثل تغلغل عقيدة المستبد العادل في العقل الجماعي،يسمح بتسرب مفعولاتها الى داخل الحزب لاسيما وان الديموقراطية الحديثة غريبة علي خزيننا الثقافي وتجربتنا التاريخية.وفي ظروف تعاظم الطاقة القمعية للانقلابات مترافقة مع هامشية مكون الديموقراطية في التثقيف النظري الشيوعي، يتحول الفكر الحي الى ايديولوجيه محنطة وتغلب المركزية علي الديموقراطية في المعادلة بينهما. وإلى ذلك هناك اضمحلال الفعالية التحديثية للقوي الحديثة، القاعدة الاجتماعية للحزب، رغم الارتفاع النسبي لحجمها الكمي، نتيجة عملية الاستنزاف المكثفة والطويلة المدي التي تعرضت لها عبر الحقب المتتالية للانظمة الانقلابية تحت تأثير الغياب المديد للحريات علي التفاعل الداخلي ومع الخارج وانسداد منفذ تغذيتها الرئيسي وهو النظام التعليمي المنفتح. وبينما تمظهرت إفرازات  هذه التطورات في النمو السريع للاسلام السياسي ( السياديني ) منذ السبعينيات، أسس التفاعلُ بين الذاتي والموضوعي وراءها دائرة مفرغة كان الحزب الشيوعي، وكافة الاطراف والتيارات الحديثة ، ضحية لها مستكملة بذلك دائرة حصار قدرته التجديدية وتعطيل آلياتها. في هذا السياق نفهم تراجع شعبية الحزب كما دلت عليها نتائج  انتخابات عام 86 حيث حصل الحزب علي  67937   صوتا في الدوائر الجغرافية مقابل  726021 للاسلاميين  وانحسار نفوذه في الحركة النقابية وفي الحياة السياسية والادبية والثقافية عموما. ومن الملاحظات الدالة هنا ان معظم المشتغلين بالنشاط الادبي والابداعي الذي شكل تاريخيا أحد ابرز علامات اندياح تأثير الحزب الفكري والتحديثي في الفضاء العام، ابتعدوا عنه قليلا او كثيرا كما نتحسس احد علاماته في فقر مواد جريدته الميدان، بينما يعتبر أحد أسباب عجزالحزب عن عقد مؤتمره العام السادس في موعده  انعكاسا لتقلص نفوذه العام لكون نقص التمويل أحد اسبابه.

ملاحظات حول التطور المستقبلي

العقبات

إذا صح هذا التصور تغدو الخطوط الرئيسية علي طريق كسر هذه الحلقة المفرغة واستعادة الوزن الريادي للحزب الشيوعي واضحة : إعادة النظر الجذرية في الاساس الفكري وتاليا في فلسفة التنظيم وهياكله ثم في توجهات العمل السياسي.كما إن التساؤل حول إمكانية التجديد يغدو غير ذي موضوع إلا إذا قبلنا موضوعة نهاية وجود الحزب. والمقصود بذلك الوجود الحي والنامي وليس  الشكلي المستمد من تاريخ يبهت بقاؤه في الذاكرة الجماعية منتهيا به الى مادة للدراسات الاكاديمية.

إستجابة مؤسسي الحزب لنداء عصر مرحلة الاربعينات- الستينيات الاشتراكي سودانيا وعالمثالثياً بكفاءة كرستهم نموذجا للتجديد، بمعني شق طرق جديد في السياسة السودانية بمقاييس تلك الحقبة، لايقلل منه عدم إدراكهم حينذاك لإمكانية انسداد هذا الطريق مستقبليا. إذ بينما انفرد الحزب بافتراع تجربة سياسية تجاوز افقها التحديثي السياسة الى الحياة الاجتماعية والفنون والاداب، فان كافة أطراف السياسة السودانية المنظمة وغير المنظمة الاخري كانت شريكة للشيوعي في ذلك القصور الذي يمكن تلخيصه بعدم اكتشافها جميعا للمعضلة البنيوية في إقامة نظام ديموقراطي في السياق التاريخي والاجتماعي غير الغربي، ولاسيما العربي- الاسلامي، لافتقاره الى مرحلة التنوير/ الحداثة التي تمخض عنها، ومن ثم ابتداع الاستراتيجيات وخطوط العمل اليومي اللازمة لاستزراعه في البيئة المحلية..و ليس صحيحا مايتبادر للاذهان ويقال احيانا من ان الذين مالوا لخيار عدم التحول الى حزب شيوعي بقيادة سكرتير الحزب وقتها عوض عبد الرازق، كانوا الاقرب لاكتشاف تلك الامكانية و للخيار الديموقراطي وبذلك الاحق بصفة التجديديين، لان منطلقاتهم النظرية لم تكن في واقع الامر مختلفة عن تلك التي عطلت انتقال الحزب الشيوعي السلس الى تبني الخيارالديموقراطي عندما حان أوانه، ومؤداها اعتبار الديموقراطية مرحلة نحو الاشتراكية تنتفي ضرورتها بتحقيق الشروط اللازمة للانتقال بتحالف مع البورجوازيه ينتهي بدوره عندما ينجز مهمته في توليد القوي الاجتماعية المؤهلة لبناء الاشتراكية عبر التصنيع والزراعة المتطورة.

الان، ومنذ فترة ، غدا نداء العصر هو الخيار الديموقراطي، أفضل صيغة توصلت اليها الخبرة الانسانية حتي إشعار اخر لتفعيل  حرية الافراد والجماعات بشكل بناء، بعد ان انتهي تأثير ظروف مرحلة الاربعينات- الخمسينات وأنتجت محاولات شق طريق يجمع بينه والعدالة الاجتماعية دون الحرية بعضا من أبشع انظمة الاضطهاد والاستغلال سياسيا وطبقيا في عراق- صدام وسوريا – الاسد وليبيا- القذافي وغيرهما.لذلك فان الاستنئاف الحقيقي لدور الحزب الشيوعي الرائد والتجديدي هو إعادة تأهيل نفسه لتجسيد هذا النداء حتي لو انتهي الامر بمجددي القرن ال21 الى العمل تحت إسم أوصيغة مختلفة سنلاحظ تواً إن ابتداعها سيكون الاسهل في سلسلة المصاعب التي سيواجهونها لنيل ذلك الاستحقاق،بينما سيكون مصير من يتمسكون بالصيغة القديمة دون تغيير بالمستوي المواكب للمتغيرات، من قبيل مصير الحارث في البحر ومجرِب المجرَب، حتي لو احتفظوا بالاسم.

هذ المصاعب امر طبيعي لاسباب متعلقة بكون الشيوعي حزبا حديثا، بمعني انه حزب غير طائفي.وهذا ينطبق ايضا علي كافة التيارات والحركات السياسية – الفكرية غير الطائفيه اي الكبيرة نوعيا، بعكس الاحزاب الكبيرة انتخابيا حيث حدود ومحددات الكيان التنظيمي أقل وضوحا  وسطوة الزعيم اكثر حسما بينما القاعدة أقل تأهيلا لمساءلته والانفضاض عنه وعن الحزب.

هناك اسباب خاصة بكل حزب ولكن السبب المشترك بينها الذي تتضاءل دون وجوده فعالية الاسباب الخاصة في تعقيد مهمة التجديد، يقع خارجها وهوعدم وجود مناخ عام تسوده قابلية التفاعل النخبوي والشعبي مع  الرؤي الجديدة وأساليب الحياة المتطورة عموما، كما كان الحال عليه عند نشوء الحزب.وبعبارة متداولة سيادة روحية القطيع العائدة في بنيتها التحتية الى وقوع الانسان تحت تأثير عصبية الانساق الاجتماعية ماقبل – المدينية وأعراف الطاعة للهرمية الوراثية . العودة الراهنة والسائدة منذ اكثر من ربع قرن من الزمان الى الاسلام التقليدي والبني القبلية- الاثنية- الجهويه دليل واضح ويومي علي ذلك بما تختصره عبارة المفكر السعودي المتمرد عبد الله القصيمي ( 1907-1996 ) ” كل الشعوب تلد أجيالا جديدة إلا نحن نلد آباءنا “.

المدي الخانق لكثافة حالة التراجع والركود بما ينصبها معوقا رئيسيا للحركة في الاتجاه المضاد، تكشف عنه حقيقة تضاعف حجم الطبقة العاملة والقوي (الحديثة ) عموما،التي يفترض كونها دليل علي العكس ، عدة مرا ت بالمقارنة للمرحلة التأسيسية. أيضا بالمقارنة للماضي، حالة الركود باتت ايجابية في الدفاع عن قيمها واسلوب حياتها برأس رمح قوي يتمثل في مروحة عريضة من التدين السياسي والمجتمعي  مسنودة باسلاميي السلطة وادوات الدولة الاعلامية والامنية ولاتزال مسنودة بدعم مالي ولوجستي عربي- اسلامي رغم تناقصه.

المصدر الاخر للصعوبات التي تعترض طريق التجديديين،هو العقبات التي تكتنف توحيد اطروحاتهم ورؤيتهم. فالظروف التي أدت الى تأخير الشروع في عملية التجديد بناء علي مراجعة نقدية جذرية  لمسيرة الحزب، راكمت مسبباته ودواعيه بمستوي يجعل طرحهم المختلف عن السائد في المسائل الفكرية والعملية يبدو وكأنه خروج علي هوية الحزب وكل مايمثله لدي قسم كبير من اعضائه. وبما أن الحزب يعيش حالة حصار وتهديد من قبل السلطة مما يرسخ أيضا تأثير التربية الحزبية القائمة علي الانضباط التنظيمي والفكري،فان وحدة الحزب كتنظيم تغدو أمرا شبه مقدس.وهذا، مع انتفاء تقاليد النقاش المفتوح داخل الاحزاب الحديثة، يجعل بلورة آراء وخطط عمل التجديديين صعبا إذ يسهل وصمه بتهمة التكتل ومخالفة اللوائح كما يجعل الاعضاء غير مهيئين لقبول التجديدات ، او علي الاقل، قبولها الى درجة تدفعهم للاصطفاف مع اصحابها عندما تحين ساعة الحسم بالخروج علي هذه اللوائح. أو بالاحري الخروج علي تفسيراللوائح من قبل الطرف الاخر الذي يتكون عادة من قيادات لها وزن تاريخي، والاخير هو في حد ذاته عامل إضافي في البلبلة. تنشأ عن هذه العوامل في صفوف التجديديين تباينات في الرأي حول توقيت الانخراط في معركة علنية مع التقليديين رغم انه، في حالة الحزب الشيوعي، يبدو مفروضا من الطرف الاخر كما يشير ماورد في التقارير الصحفية المتطابقة حول مداولات اللجنة المركزية في فبراير الماضي بشأن تقرير اللجنة التي شكلت للتحقيق مع بعض قياديي الحزب المحسوبين علي التيارالتجديدي، من إصرار علي الادانه.

علي إنه رغم المبالغة في القول الرائج بأن الشيوعيين خارج الحزب اكثرمن الذين بداخله، فأنه يجد بذرته فيما يترتب علي هذه التباينات بمصدريها الذاتي والموضوعي من تباينات موازية في تحديد الموقف من البقاء في الحزب او المغادره ، كما يشير لحقيقة ان المتعاطفين والميالين لتيار التجديد لدي الناشطين السياسيين والثقافيين من كافة المشارب والاتجاهات  أضعاف الميالين الى الطرف الاخر. وقد تصح، بالمناسبة، في هذا الخصوص فكرة طرحها صاحب المقال سابقا من ان رصيد الحركة الشيوعية في اوساط الفنانين والادباء منتجين ومتذوقين، وهو قطاع كبير لانسداد مسالك التعبير والعمل السياسي المباشر لازمان مديدة، يشكلون سندا ذااهمية خاصة للتجديديين لان اشتغال هذه الاوساط بأدوات تفكير غير تقليدية  متحررة نسبيا من قيود الواقع وأميل  للانطلاق الحر للعقل والخيال، يجعلها اكثر مرونة وقابلية للتجاوب مع الافكار الجديدة.

إن الحاجة للقوي الحديثة وتجسيداتها السياسية- الفكرية وفق متطلبات عصر الديموقراطية اقوي بكثير الان مما كانت عليه صبيحة الاستقلال لانها اصبحت قضية حياة او موت للوطن وبينهما مسافة تتكدس فيها جثث بالالاف ويتشرد الملايين. الحزب الشيوعي جسد أميز الاستجابات لهذه الحاجة مما يطرح أمام تجديدي الحزب نموذجا ملهما في طليعيته ورهانه الصائب علي المستقبل ضد المعارضة الداخلية والمعوقات الخارجيه.الان لم يعد لا اليسار ولا اليمين او الوسط ( بالمعاني المعروفة لهذه المصطلحات افكارا واشخاصا واحزابا )نموذجا للاستجابة المطلوبة، بدرجات متفاوتة، لان القاسم المشترك بينها هو الافتقار للتأهيل اللازم لتفكيك عقدة استزراع الديموقراطية من منشئها الاوروبي في البيئة السودانية وفق مواصفاتها الشديدة الخصوصية. وفي ظاهرة التشقق المستشرية في كافة التكوينات الحزبية القديمة والجديدة، الدليل القاطع علي الافتقار لكونها تعبيرا عن التخبط في تفسير عقم الجهود المبذولة لزيادة العضوية، رغم ان الشباب يشكلون ثلثي عدد السكان،ولمعالجة الضعف البالغ في مردود الصراع مع النظام بحيث اضحي هو في موقع الهجوم الدعائي والايديولوجي عليها وقادرا علي التلاعب بدواخلها بعد ان اصبحت قابلة للاختراق امنيا.

علي الصعيد الفكري

وبينما تتعدد المقاربات الممكنة لتجاوز هذا القاسم المشترك نحو إعادة التكوين الفكري والتنظيمي والسياسي اللازم لتأسيس ديموقراطية مستدامة بتعدد الخلفيات التاريخية والفكرية للاطراف المعنية، فأن تجديديي الشيوعي لديهم نقطة البداية المتمثلة في أن الماركسية كفلسفة ونظرية وخطوط عمل، قبل دخول مرحلتها اللينينية والسوفيتية، نشأت  كجزء من حركة التنوير الاوروبية التي كانت الديموقراطية الليبرالية ثمرتها الاهم.وماحجب هذه العلاقة وثمرتها عن وعي مثقفي سودان الاربعينات، أن احتكاكهم بالتجربة الاوروبية  في إطار الانفتاح علي العالم اوائل القرن الماضي جاء من زاوية المنتج الاستعماري لمرحلة النهضة الاوروبية الذي كابده السودان لما يقارب الستين عاما. وتجذر هذا الانقطاع عن كلية التجربة الاوروبية ومكونها التنويري والديموقراطي إثر نشوب الحرب الباردة بعد الحرب العالمية الثانية وانحياز معظم مثقفي العالم الثالث الى المعسكر السوفيتي بدافع من اولوية اهداف التحرر الوطني كما أملاها عليهم واقع اقطارهم عهد ذاك.

علي ان ضرورة استرجاع لحظة الانقطاع هذه نقديا وإعادة تكييف العلاقة مع النموذج الغربي،التي تطرح نفسها الان بالدافع الملح لاولوية إحداث اختراق في المأزق المصيري الذي تعيشه البلاد نتيجة العجزعن تأسيس نظام ديمموقراطي، لها خصوصية معينة بالنسبة للحزب الشيوعي بحكم أن الصفقة التي فرضها علينا الاستعمار كانت قد وفرت أحد عوامل نجاح مرحلته التأسيسية  : مقابل مصادرة إرادتنا الوطنية واستثمار ثرواتنا الطبيعة لمصلحة اقتصاده ترك لنا الحكم البريطاني بعض متعلقات إرث ليبرالي ديموقراطي مثل التعليم العصري والتدريب علي إدارة دولاب دولة حديثة بشقيها المدني والعسكري واستقلال القضاء. صحيح انه فعل ذلك خدمة لمصلحته ايضا ولكنه مّلكنا بذلك أدوات ساعدت على تصفيته باستنبات قوي اجتماعية-سياسية حديثه،كما حدت من استعداده لممارسة قمع شامل ، يعود أيضا لكون الادارة الاستعمارية المحلية كانت امتدادا لحكومات تخضع لكوابح النظام الديموقراطي من المعارضة البريطانية والرأي العام وصحافته الحرة. اقتصار القمع الاستعماري علي الناعم والجزئي منه هيأ ظروفا افضل لنمو الحركات السياسية ومن بينها تمكين الحزب الشيوعي من غرس جذوره التأسيسية بحيث صعب اقتلاعها بعد ذلك. ونجد في ماعرف  ب “قضية الشيوعية الكبري ” في يونيو 59 علي سبيل المثال، نموذجا لامتداد الاثر الايجابي لبعض مكونات التركة البريطانية لفترة حتي بعد الاستقلال. فبالرغم من وجود الماده 4 ( قانون الجمعيات غير المشروعه ) والماده 105 ( قانون النشاط الهدام ) ضمن التركة الاستعمارية، الموجهة ضد النشاط الشيوعي بصورة خاصة، إلا ان تطبيقهاالعملي بقي  محاطا بضمانات قانونية للمتهمين سمحت لعبد الخالق محجوب بالادلاء بمرافعة سياسية فكرية مسهبة ومدروسة  في تلك القضية وباستمرار هذا النشاط، ومن ضمنه  حملة متصاعدة قادها الحزب لالغائها، حققت هدفها كأحد ثمرات دوره المتميز في ثورة اكتوبر 64 .

وعلي الوجه الاخر سنلاحظ التزامن  بين تآكل التقاليد الليبرالية والديموقراطية التي استوردتها الادارة الاستعمارية وتفاقم مستوي الضغوط علي مسيرة الحزب إذ حل التصاعد في  مستوي مكونات الشمولية في الفراغ المتوسع مع تزايد معدل التآكل من نظام دكتاتوري الى خليفته مرتفعا إلى قمته مع الدكتاتورية الثالثة في تاريخ البلاد . هنا تحول الاستبداد الدولتي، أي المقتصر علي القمع المادي والمعنوي الناعم والخشن، الى الاستبداد المجتمعي الناتج عن استسلام المجتمع لسطوة إسلام ماضوي نتيجة تطاول عملية  الانهاك الذهني والنفسي وحتي الفيزيقي- الصحي بفعل إزمان غياب الديموقراطية وحرياتها وأثرها الايجابي علي التنمية انتاجا وتوزيعا. اضحي المجتمع بيئة مولدة للامبالاة تجاه سياسات نظام الانقاذ وفي بعض الاحيان مطواعا لجره الى تأييدها بما يمكن تسميته الانتقال من حالة الدولة الفاشلة الى حالة المجتمع الفاشل.وهو تطور لايمكن التقليل من دوره في تأزيم الحركات السياسية السودانية وكان للحزب الشيوعي نصيبه الاكبر منه لحيويته وتعاظم خطورته علي مواقع التقليديين. لقد تمكن الحزب من تجاوز المرحلة الاولي من الضغوط  الدولتية كما تمثلت في حله قانونيا عام 65 في اخطر اعتداء علي مخلفات الاستعمار الديموقراطية حتي ذلك الحين،فبقي فاعلا في  الحياة العامة لفترة بعدها،  إلا أن اشتداد وطاة الشمولية باحلال نظم قانونية مختلفة نص وروحا عن سابقتها،  مع ازدياد وهن قوام المجتمع، ترافق مع تناقص تلك الفعالية بحيث اضحي الممكن هو الحفاظ علي وجود الحزب .

علي جسامة هذه الخسائر فان تعويضها تطبيقا لمقولة “ما لا يقتلني يقويني ” كان ممكنا لو ان الحزب كان مهيئاً لتحييد الاثار السلبية لاضطراره التشديد علي إجراءات التأمين في وجه الهجوم الضاري للاسلام السياسي وسلطته مع انحسار نطاق الحماية المجتمعية لكوادره، واخطرها ماتمثل في تضييق مجال التفاعل الفكري داخله. من هنا تعذر حدوث تجديد في الاطار النظري الا بشكل محدود وغالبا تحت ضغط الضرورات السياسية اللحظية وليس نتيجة نقاش ناضج ومستوفي تشارك فيه كافة مستويات التنظيم حسب القدرات المتفاوتة ، في أدناها بالفهم والاستيعاب بذهن متفتح.. لاشك إن فتح المناقشة علي صفحات مجلة الشيوعي بعد عام 89 ولفترة طويلة كانت له فائدته الملموسة فيما يتعلق بتطوير مفهوم الديموقراطية المركزية مثلا، ولكنها بقيت قاصرة لانها تمت خارج حياة الحزب اليومية المباشرة في الداخل وفي ظروف غير مواتية في اصعب اطوار القمع الانقاذي فضلا عن أن التحولات الفكرية تستغرق بطبيعتها وقتا طويلا  لتبلورها حتي في الظروف العادية. والشاهد، لهذه الاسباب، إن التحاور الجدي مع السؤال الذي بات مطروحاعلي الحركة الشيوعية والاشتراكية منذ ثمانينيات القرن الماضي لم يحدث : هل بقي لهذا الخيار من مستقبل والعالم الثالث كله تقريبا يتحول باتجاه الخيار الرأسمالي، بما في ذلك البعيد والقريب من السودان ثقافيا ودينيا وإثنيا : امريكا اللاتينية، آسيا ( اندونيسيا، ماليزيا، تركيا ) ثم كوريا الجنوبية فضلا عن الهند وسنغافوره، وافريقا ( سيراليون وليبريا وساحل العاج وغانا وغيرها ) .هذا السؤال المفصلي لم يكن بوسع الفكر السوداني الحديث بمجمله ، وليس الشيوعي وحده، الاجابة عليه او البحث الجدي فيه  بالنظر لامتناع التلاقح بين منتجيه بسبب الانغلاق المديد للفضاء العام مع تعاظم درجة إحكامه. هكذا بقي الحزب مترددا في افضل الاحوال، حتي إزاء السؤال عما إذا كان لانهيار الاتحاد السوفيتي علاقة بقصور الماركسية كنظرية وبقي متمسكا بها كمنهج بينما يفيض التقرير المقترح للمؤتمر السادس بمخلفات عصر التفسير اللينيني خاصة فيما يتعلق بما يسميه ” الثورة /المرحلة الوطنية الديموقراطية ” ذات الدلالات الاقصائية، كما أشير سابقا. وهناك ايضا،علي سبيل المثال ، مقولة أزمة الرأسمالية نتيجة التناقض بين الملكية الفردية لوسائل الانتاج وطابعه الاجتماعي التي تبدو سليمه وهناك ما يؤيدها في الشواهد الفعلية مثل ازمة القطاعات المصرفية التي هزت الكيانات الاقتصادية الرأسمالية بكاملها اواخر العقد الاول من هذا القرن، ولكن الوجه الاخر لها هو القدرة علي تجاوز الازمات . وعندما تثار في وجه هذا الاستخلاص حقيقة الثمن الذي تدفعه الطبقات الشعبية للتجاوز يبقي إن التجاوز في الانظمة الاشتراكية ظل مستحيلا سواء بهذا الثمن او بدونه. حقا الرأسمالية ليست نهاية التاريخ ولكن ارتباطها بالديموقراطية يجعلها مفتوحة  لاستمرار مسيرتها نحو  نظام افضل.

الاسترجاع النقدي للحظة الانقطاع عن التجربة الغربية، الشرط الشارط  للتحاور الجدي مع السؤال المفصلي، لم يكن بمقدوره فقط تمكين الحزب من الشروع المبكر في تفحص إيجابيات وسلبيات النموذج الرأسمالي وإعادة تكييف الموقف منه علي هذا الاساس وإنما ايضا، وهو الاهم، اكتشاف حقيقة ان الرأسمالية تدين بكثير من إنجازاتها للماركسية وللحركة الاشتر اكية عموما. فالمصدر الاساسي لنقد الرأسمالية فلسفيا وسياسيا واقتصاديا هو ماركسية ماركس- انجلز ومابني عليها في القرن العشرين وحتي الان الى حد ما علي ضوء تدابير اتخذتها بعض الدول الرأسمالية للتدخل في إدارة الاقتصاد خلال الازمة. وعلي المستوي التطبيقي كان انتزاع نصيب العمال والفلاحين وغيرهم من الثروة القومية المتعاظمه بفعل كفاءة النمط الرأسمالي الانتاجية والضيق النسبي لهامش الفساد فيه،في شكل انظمة للضمان الاجتماعي والصحي ومجانية التعليم العام وغيرها، محروسة دوما بمقاومة يقظة إزاء أي محاولة للمس بها من قبل الحكومات تتعدي ذلك الى مطالبات بتحسينها. كل ذلك كان مستحيلا دون قيام الحركات المطلبية والنقابية بتأثير ذلك التراث النقدي ونشوء  الحركات والتيارات الاشتراكية التي تغذت منه متحولة من المثالية الى العلمية. علي ان هذا الاسهام الماركسي الاشتراكي الجوهري في إنجازات الرأسمالية، الذي لايجد مكانا له في مايوحي به الاسم في الاستخدام الرائج، تم في مناخ حريات ديموقراطية تفسح مكانا للفرد والفردية فلسفيا وفكريا وتطبيقيا هو الذي يربط في الاذهان بين الديموقراطية والرأسمالية. هذا هو ما يجعل الرأسمالية ” أسوأ الانظمة فيما عدا جميع الانظمة الاخري “، كما جاء في مقال سابق، بتحوير لمقولة ونستون شيرشل الشهيره حول الديموقراطية من أنها ” أسوا الانظمة فيماعدا الانظمة الاخري “. ولعل كل الناقدين والمعترضين علي تبني النظام ( الرأسمالي ) تحت عناوين الامبريالية وتوحش النيوليبراليزم وغيرها يتفقون بأنها، علي الاقل، لاتغلق الافق علي الجهد الانساني الذي لم ولن يفتر للتوصل الى نظام بديل خالي من هذه العيوب. بيد أن فرصتنا للمشاركة في هذا الجهد معرضة للاهدارإذا بقينا متجمدين او مترددين عند مفاهيم واطروحات تجاوزتها الحركات والانظمة حتي في المجتمعات التي تتشابه وظروفنا،علما بأن محاولات ابتداع طريق ثالث مستمرة وإن بقيت حتي الان مجرد تحسين علي وتعديلات تجميليه متعلقة، مثلا، بحدود تدخل الدولة والقطاع العام في النشاط الاقتصادي،فيما استخدم بعضها مثل مفهوم ( الرأسمالية الاجتماعية ) من قبل أنظمة مثل البعث السوري لمواصلة هيمنته علي السلطة ثم تدمير المجتمع والبلد حماية لها.

علي الصعيد السياسي

ولهذا الامر، بعد ذلك، علاقة وثيقة أيضا بتحسين أداء الحزب السياسي في المعارضة الذي يرتدي هوالاخر طابع الحاح مصيري، لان الانفتاح علي ميزات النظام ( الرأسمالي ) يقود إلى الكشف عن ضرورة إعطاء الوزن اللازم في استراتيجية النضال من اجل الديموقراطية للشرط الذي يؤمن  نجاحها وهو تحرر عقل الفرد  وإرادته من أسر روابط الانتماءات الموروثة اجتماعية كانت او ثقافية- فكرية بالدرجة الكافية، وهو جوهر ماتحقق في التجربة الغربية عبر ما سمي ” عصر التنوير “. غياب هذا الشرط عندنا هو الذي يجعل نفس الفئات الشعبية والنخبوية التي تدفع الثمن الباهظ لسياسات الانظمة اللاديموقراطية من معاناتها اليومية ثم من تضحياتها لاسقاطها، تفقد ثقتها في انظمة مابعد- الدكتاتوريات ممهدة الطريق لنظام انقلابي اخر.

التباطؤ الى حد التوقف في التجديد الفكري جعل دور الحزب الريادي المعهود سابقا  في حركة المعارضة ضد الدكتاتوريات أسيرا  لمكونها الشعبوي ضد دكتاتورية الانقاذ الذي يفرغ ردود الفعل المشروعة ضد سياساتها من المحتوي البناء بأغراقه في التهييج العاطفي والشعاراتي، مفسحاً المجال امام المزايدين لتصدر المعارضة.يقوم هذا المكون علي افتراض ثبت خطؤه مرتين مفاده العملي ان ذهاب النظام يؤدي اوتوماتيكيا الى نقيض ديموقراطي بينما الشاهد ان ماتحقق  في اكتوبر 64 وابريل 85 هو نظام للحريات منفلت عن الضوابط الديموقراطية الطوعية لم يدم سوي ساعات بمقياس المهام الجسيمة المطروحة عليه. فالنظم الديموقراطية لاتديمها الجيوش او اجهزة الامن وإنما تغلغل الوعي بميزاتها الغالبة علي عيوبها لدي الجمهور العام.  لذلك نلاحظ ان تكرار التغافل عن إعادة صياغة استراتيجية المعارضة بما يجعل هدف توفير عوامل تنمية الديموقراطية في الوعي العام جزء أساسيا منها في المرتين السابقتين،أدي في كل مرة الى مجئ انقلاب اكثر شمولية من سابقه لان الفراغ المتروك في الوعي العام لايبقي كذلك وإنما يجتذب اليه وعيا مضاداً يسمح بوقوع الانقلابات واستمرارأنظمتها لفترات متطاولة زمنيا، اتخذ بمرور الوقت مضمونا دينياً غيبياً يتفاقم تأثيره في مجتمع تتضاعف حاجته الى السكينة بمعدلات هندسية. وبينما نلاحظ الان تحسناً في أداء بعض الاطراف المعارضة يتمثل في إعداد برامج تفصيلية لما بعد الاسقاط فأن العيب الاساسي يظل قائما لانها تفترض أن إسقاط النظام  سيخلفه نظام ديموقراطي ثابت الاركان بما يسمح بتطبيق هذه البرامج. وهو امر كذبته التجارب التاريخية.

لايود صاحب هذا المقال تكرار مجادلاته المنشورة في بعض الإصدرات  بهذا الخصوص مكتفيا باختصارها علي النحو التالي : من الممكن دمج مطالب واحتياجات وسياسات توفير عوامل تنمية الوعي الديموقراطي في استراتيجية العمل المعارض إذا أدركنا إن ضبط درجة حدة المعارضة السياسية وفق متطلبات الدمج هو الذي سيؤمن إمكانية رفعها في المدي الزمني المناسب بما يحقق فتح الطريق نحو نظام حريات عامة يتوفر فيه عنصرالاستدامة مسبغاً عليه صفة ( ديموقراطي ) بمعناها الصحيح والمنتج وليس الرائج حاليا لدينا. فالدمج يتطلب التركيز علي تنمية قدرات المجتمع المدني اللاسياسي بتشديد خاص علي دوره في إصلاح النظام التعليمي وذلك باعتبار إن الاول هو المجال الوحيد المفتوح الان  للتدريب العملي علي الممارسة الديموقراطيه والثاني هو الوسيلة الاساسية المتاحة في ظروفنا التاريخية والراهنة لتنمية ملكة النقد واستقلالية الرأي والحد، بذلك، من ثقل قيود الموروثات المتنوعة علي الاختيارات الشخصية وغير الشخصية. بطبيعة الحال العقبات في وجه مثل هذا التصور لاتعد ولاتحصي في ظل النظام الحالي ولكن قدرته علي العرقلة هنا أقل كثيرا من قدرته علي عرقلة العمل السياسي المباشر لكون الاخير يعاني هزالا مرده تأثره الاعمق بالتدهور المريع في الوعي العام الناجم عن حالة المجتمع الفاشل التي تسببت فيها سياسات النظام.من ناحية اخري نحن في الحقيقة مواجهون بخيارين أحلاهما مر :أحدهما قد يكون شحيح الثمرات بمقاييس عقلية وشعارات الاسلوب الشعبوي الحالي للمعارضة ولكنه قابل للنمو والتعاظم، والاخر هو الاستمرار بالطريق الحالي الذي تتبعثر علي جوانبه جثث المحاولات الفاشلة لاقامة كيان معارض موحد  كل صباح وتنتفخ فيه إدعاءات النظام بالانتصار عليها، وهو ينزلق بالبلاد مفتوح العينين نحو انفصالات جديدة دامية الحدود.

يتحدث كاتب المقال بصيغة الجمع رغم عدم انتمائه للحزب الشيوعي، بل ومشاركته في الطور المبكر  من حياته العامة السابقة كناشط بعثي  في الحط من أهمية دوره، لادراكه اللاحق بأن كافة الحركات والتيارات السياسية الحديثة مدينة للحزب الشيوعي بما يجعلها تستحق هذه الصفة علي كافة الاصعده،علي إنه يتمني لو كان تصوره لكيفية تجديد الحزب أقل تعقيدا وصعوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى