عبد الرحمن الأمين لـ (الديمقراطي): غياب الإرادة السياسية يدمي القلب.. كل ما تسمعونه تخدير لا أكثر ولا أقل!
الديمقراطي- الخرطوم
عقد تجمع السودانيين لدعم الثورة السودانية بمنطقة ديلمارفا بولاية ميرلاند بأمريكا في 25 أغسطس المنصرم ندوة إسفيرية مهمة بمشاركة الصحفي الاستقصائي المقيم بالولايات المتحدة والمتخصص في الفساد الأستاذ عبد الرحمن الأمين بعنوان “استعادة الأموال المنهوبة بين تباطؤ الحكومة والتعقيدات الخارجية”، تنشرها (الديمقراطي) لعموم الفائدة.
680 مليون دولار في العراء
أبدأ بالاستدلال على استهتار النظام البائد بأموال البلاد، فلدى انهيار البورصة العالمية الكبير يوم 28 أغسطس 2008، فقد السودان 680 مليون دولار كانت بمحفظته في بورصة دبي ولم يتخذ أي إجراء لحمايتها، بل تركت في العراء.
لماذا لم أقدم خبرتي؟
سئلت عن عدم مشاركتي في لجان التفكيك واستعادة المال، وأرحب بذلك لكن هذه اللجان لم تطلب المساعدة في إعلان منشور ممن يمتلكون المعلومات وتعطيهم وسيلة للاتصال. ينبغي أن يجد القائمون على استرجاع الأموال في البحث عن كل من يمتلك معلومة. لقد حضرت للخرطوم واتصلت بصديقي مولانا سيف الدولة حمدنا الله ليصلني بالمسؤولين فاتصل بالنائب العام ولكن لم يتصل بي أحد حتى مغادرتي. النائب العام رجل مشغول ينبغي أن يكون لديه جهاز يستلم المعلومات، وهذا كله غائب.
تخدير لا أكثر ولا أقل
لجنة التفكيك تعمل الآن في الملف الداخلي، ونسر كلنا بإعادة الأراضي والأموال المنهوبة، ولكنها لا تقارن بمنهوبات الخارج، والحقيقة الصادمة أننا وحتى اليوم لم نتحرك في الملف الخارجي وكل الذي تسمعونه هو عبارة عن تخدير لا أكثر ولا أقل.
المنهج المطلوب للاسترجاع
المطلوب تكوين فريق عمل يدرس قوانين البلدان التي فيها الأموال يضم خبراء من الخارجية السودانية ومن النائب العام ومحامين ومحققين عالميين ومحليين، تحرك جزء منه قانوني وجزء استقصائي. الحديث عن استعادة الأموال المنهوبة بدون ذلك عبث وتضييع وقت. يجب أن ترقى الإرادة السياسية إلى مطالب الشعب.
البلدان التي فيها أكثر الأموال هي الإمارات وتركيا وماليزيا، وهناك عقارات في مصر. وهناك أموال في هولندا وأوروبا عامة استعادتها أسهل وقد هربت عن طريق أبنائهم.
ينبغي فهم خريطة الأموال، وقوانين البلدان المعنية، وكيفية المطالبة بالأموال والتهم التي ستوجه، فالبنوك لا تفصح عن معاملات منسوبيها ولذلك يجب توقيع اتفاقيات مع البلدان المعنية لتبادل المجرمين، وللإفصاح المالي مع بنوكها، ومع الإنتربول للقبض على المجرمين.
الشبهات لا تجرم
قرأت قبل فترة خبرًا جاء في الصفحات الأولى للصحف بالقبض على طارق سر الختم بدولة الإمارات العربية المتحدة ليتم تسليمه للسودان. من الجيد إيراد الصحف لمثل هذه الأخبار، لكن طارق سر الختم ليس وحده المقيم في الإمارات ممن نهبونا، وأكبر مجرمي الاقتصاد السوداني موجودون في الإمارات ومنهم وزير المالية السابق بدر الدين محمود الذي “سرق الكحل من العين”. علينا تخطيط منهج شامل مدروس يحدد من يجب القبض عليه، وكيف يقبض عليه، والتهم الموجهة ضده. ولو كنت محل أي مسؤول في دولة أخرى طلب مني القبض على شخص سأسأل عما ارتكبه والوثائق التي تثبت إدانته. هذا عمل تقص وإثبات لا يتحرك لشائعة فالقوانين لا تعمل بالشائعات، وكل من يرد اسمه في هذه الحلقة بريء إلى أن تدينه المحاكم، صحيح هناك شبهات ولكن الشبهات لا تجرّم.
اقتلاع الذاكرة
النظام البائد عمل على اقتلاع ذاكرتنا، فالسارق لا يحب أن يترك أثرًا، لذلك فإن أول شحنة استوردوها كانت ماكينة تقطيع الورق “shredding machine”، لتمزيق الأوراق إربًا، ومزقوا الملفات قدر استطاعتهم.
إخفاء أموال النفط
أثناء اتفاقية السلام الشامل بين الحركة الشعبية لتحرير السودان والحكومة وزعوا الوزارات بينهم وأعطوا الحركة وزارة النفط فأغلب حقول النفط في الجنوب، لكنهم بعد موت دكتور جون قرنق في يوليو 2005م رفضوا تسليم النفط للحركة وكادوا أن يفجروا الاتفاقية حتى تدخل وزير الخارجية الأمريكي كولن باول وآخرون، فتنازلوا عن وزارة سيادية هي وزارة الخارجية للحركة مقابل الاحتفاظ بالنفط لأن النفط كان ماكينة المال.
وحرصوا على إخفاء أموال النفط مع أن كل دول العالم توضح كم تنتج من النفط حتى دول تفتقر للشفافية كدول الخليج، فمعروف أن قسمة النفط بين أرامكو والسعودية هي 40 إلى60%، أما نحن فنعلم أننا صدرنا أول شحنة نفط يوم 30 أغسطس 1999م، وبلغت 600 ألف برميل صُدّرت لسنغافورة واليابان. وبعدها هناك غياب كامل للمعلومات حول كم كان إيراد شحنات النفط ولمن بيعت ومحتوى العقد ونصيب الشركة المنتجة ونصيب الحكومة.
سرقات الديون
كان الدين الخارجي لدى الانقلاب 12.7 مليار دولار، وحينما سقطوا كانت الديون المتراكمة علينا من الاستدانة الخارجية حوالي 58 مليار، أي أنهم استدانوا باسمنا نحو 45 مليار دولار، ولم يسددوا فلسًا واحدًا من أموال النفط للديون. كانوا يتسولون باسمنا بمتوسط حوالي 1.5 مليار دولار في السنة على مدى ثلاثين عامًا ديونًا صارت في رقبة الأجيال القادمة.
فجوة اللصوص
شاركتُ في دراسة بعنوان “النزاهة التجارية في السودان” صدرت في مايو 2020م لحساب السرقات ومتى تمت؟ اعتمدت على مضاهاة الإحصائيات الحكومية الرسمية بإدارة الاتجاهات الإحصائية للتجارة Direction of Trade Statistics (DOTS) وهي إدارة تابعة لصندوق النقد الدولي. رصدت الدراسة 374 معاملة تجارية بين السودان و70 دولة فقط في فترة قريبة وهي الأعوام (2012- 2018م)، دعك عن كل الثلاثين عامًا. وتم حساب “فجوة اللصوص” بمقارنة ما ذكر السودان أنه صدره وما ذكرته الدول المستوردة منه أنها اشترته.
سرقات السبع سنوات
ورد في إحصائيات السودان الرسمية أنه صدر في السبع سنوات المذكورة سلعًا بما يساوي 60 مليار دولار، لكن في الحقيقة صدّر ما قيمته 90.9 مليار، فالفجوة التي تبين ما سرقه اللصوص مباشرة في سبع سنوات فقط، هي 30.9 مليار دولار، سرقوا ما قيمته 47.6% من المبلغ الرسمي.
نفط بعد الانفصال!
حينما انفصل الجنوب في 2011م صرخوا بأن 90% من مواردنا ضاعت بينما كان السودان يصدر بترولًا ويرد في قائمة مصدري النفط رقم (42). وتذكر بيانات بنك السودان أننا صدرنا في الفترة (2012-2018م) 62.3 مليون برميل نفط بقيمة 4.8 مليار دولار، لكن بيانات صندوق النقد تؤكد أن شركاء السودان اشتروا منه 112.2 مليون برميل نفط بقيمة 8.9 مليار دولار، أي أنهم نهبوا 4.1 مليار دولار من أموال النفط حينما أحكمت فيها الضائقة المعيشية علينا وكنا نخرج متظاهرين.
سرقات الذهب
قال بنك السودان إننا صدرنا في السبع سنوات المذكورة 205,446 كيلو ذهب بما يساوي 8.6 مليار دولار، بينما قال الشركاء إنهم اشتروا منا ذهبًا مقداره 404.73 طنًا بما يساوي 12.7 مليار دولار أي أن فجوة اللصوص بلغت 4.1 مليار دولار كذلك.
هذا ملخص سريع عن موردين أساسيين نهبوا في الأجل القريب جدًا دعك عن كل السلع وعن الثلاثين سنة كلها. تتبعت هذه الأرقام وتحدثت إلى رئيس منظمة النزاهة العالمية GFI توم كاردامون وقد أحصوا تلك التجاوزات وسألته هل خاطب حكومتنا الحالية فقال إنهم اتصلوا بهم وفي انتظار أن يسائلوهم. ويقع هذا ضمن ما سميته الإرادة السياسية.
أعطوا الخبز لخبازه
الكويتيون تتبعوا الأموال التي أخذها منهم العراقيون أثناء الاحتلال، والفلبينيون أعادوا بعد انتفاضتهم أموالهم التي نهبها ماركوس وزوجته، فأعطوا الخبز لخبازه. هناك شركات استخبارات كبيرة معروفة في أوربا وأكبرها في أمريكا، فيها محققون ومتخصصو بنوك ومتخصصو أدلة جنائية محاسبية، وما عليك إلا أن توقع مع أي منها اتفاقية ولاحقًا تدفع لها مقابل خدماتها أموالًا لا تعد طائلة. بعد أن تصل الشركة لمواقع الأموال وكمياتها والبنوك الموجودة فيها تملك مكتب المحاماة المرتبط بها المعلومات حول الشخصيات وصفاتها والأموال والحسابات التي تحتويها في البنوك المختلفة، مثلًا هذا الشخص كان محافظًا لبنك السودان ومصدر ماله يمكن أن يكون مشبوهًا. يتفق مكتب المحاماة مع حكومة السودان ليخاطب الدول المعنية ويبدأ المرافعات عنها. من أكبر هذه الشركات شركة كرول أسوشيتس الاستقصائية Kroll Associates investigations firm التي قامت بهذا العمل للكويت. وبعض هذه الشركات حسب معلوماتي اتصل بحكومة السودان وعرض خدماته وحتى هذه اللحظة لم تقرر الحكومة شيئًا. وهناك منظمات استقصائية لسودانيين لديهم معلومات لم يشركوا.
غياب الإرادة يدمي القلب
هناك غياب للإرادة السياسية وهذا موضوع يدمي القلب لأن هذه الأموال طائلة جدًا. لا نريد من أحد أن يخدرنا بكلام، وحديثي هذا لا علاقة له بالشخوص، بل أتكلم عن شعب نهب ويجب أن تعاد له أمواله. إذا كانت هذه الحكومة تمثل الشعب عليها العمل بجدية وبهمة لتعيد هذه الأموال.
إذا قدرنا ما استرجع داخليًا من أراضٍ وأموال فإنها لا تزيد عن 2 مليار دولار، بينما المنهوب بالخارج حوالي 165 مليار، فهو لا شيء بنسبة المنهوبات جملة.
لا ينبغي أن نأتي في اللجان المطلوبة لاسترجاع الأموال بأشخاص لمجرد أنهم اقتصاديين، بل ينبغي أن تضم استقصائيين ومتخصصين في القانون الدولي للأعمال، ولدينا متخصصون وخبراء في الخارجية السودانية وغيرها في هذه المجالات لكن القدر رمانا بتكالب الناس على لجنة لأن اسمها براق. هذا لا يجوز إطلاقًا.
حرية سلام وعدالة
وقبل الختام أركز على أن هذه الثورة جاءت بشعارات: حرية، سلام، وعدالة. كل منها له قيمة أخلاقية ويجب ألا نحيد بها عن هذه الشعارات وأن نحافظ عليها. فلا يمكن أن نقول عن أحدهم إنه مجرم لمجرد أنه مشتبه به، بل نسير بطريقة منهجية توصلنا لأهدافنا المبتغاة، المجرم واللص يودع للسجن وتعاد لنا أموالنا المنهوبة. كذلك لا نرمي التهم فقط لأن أحدهم لديه مشكلة مع زيد أو عبيد فيرميه بالباطل.
ويجب أن تكون هناك قوانين مفعلة للردع، ويجب إشراك الشعب في البحث عن الأموال، فكل من يعرف شخصًا ظهرت عليه آثار الثراء بشكل مريب وغير مبرر خلال الثلاثين سنة الماضية يبلغ عنه، وتعلن لجان التفكيك للمواطنين عبر التلفزيون القومي والإذاعات القومية والولائية وتلفزيونات الولايات، وتضع صناديق بريد للجمهور. لا يمكن أن تنغلق اللجان على نفسها. ففي جمع المعلومات الاستخبارية هناك خطوات معينة: تجمعها وتحللها وتنشرها.
يجب أن تكون هناك مزاوجة بين الإعلام الوظيفي الذي يركز على أشياء معينة: التعريف بالفساد وكيف يسهم الناس في كشفه، وبين المساهمات التي يمكن أن يقدمها البعض داخل وخارج السودان لكشف الفساد واسترداد الأموال.