الرأي

طيْفٌ مِن عبد الله بولا.. نَفْس المَلامِح ولا شَبَه

ياسِر عرْمان

مدخل أول:

عبدالله بولا كان تشكيلياً، حلم بتشكيل العالم على نحو أكثر إنسانية واحتفظ ببعض (الأحلام المؤجلة) لقد كان عبد الله بولا مُثقّفاً موسوعياً ومرتباً ومتعدّد الضّفاف والمواهب وفنان يرتدي أكثر من عباءة وأكثر من بُعد، لقد كان مألوفاً وغريباً معاً.

 وكإنسان كان بسيطاً وعادياً تماماً مثل حبّات التراب والماء وكان صارم الملامح والقسمات، وينطبق ذلك على محاكماته الفكرية والثقافية، ولم يتورّع عن خوض المعارك الفكرية والجدل الثّقافي حيث كان منحازاً فيه ومنتمياً بإمتياز للفقراء والمهمّشين.

مدخلٌ ثانٍ

قال الفيسلوف الإغريقي هرقليطس الذي عاش قبل الميلاد (الوجود في تغيير دائم وتدفق مستمر) وأضاف: (لا شىء ثابت سوى التغيير). إن عامة البشر يعشقون المألوف ويخشون الجديد، والتّقدميين منهم يتعاملون بإيجابية مع الجديد مع اتقان الوجهة العامة والصّلات الجدلية بين القديم والجديد، إن مقاومة الجديد هي المحافظة بعينها وحينما نتقبل الجديد لا يعني أننا قدرون ومستسلمون بل هو الانسجام والنظرة إلى الأمام ومع ذلك فإننا جميعاً بدرجة من الدرجات نخشى الغد والمستقبل وغير المعلوم والمجهول فينا، ونخشى الشيخوخة والكورونا ونحِنُّ إلى زمن الطفولة والشباب.

مدخل ثالث

من يُحسن حكم الخرطوم يستطيع أن يبني سوداناً جديداً؛ فالخرطوم اليوم ملخصاً دقيقاً ليوميات السودان وأحواله وسعادته وتعاسته وأمهات قضايا البناء الوطني، وهي السودان المصغر الذي يحتوي كل البلاد بمكوناتها ومثلما هو حال بلادنا، تعاني هذه المدينة المنتشرة بلا نظام وانتظام من احتقانات إثنية وطبقية واجتماعية مركبة ومعقدة تكاد تنسف أسس الوجود والتعايش الاجتماعي، وهي مليئة بوجدان متعددة المشارب والجهات والتوجهات، وبقدر ما ينفتح الناس في الأسواق فإنهم ينغلقون في الجغرافيا والإثنية حينما يعودون إلى أحيائهم، أضف إلى ذلك هشاشة الدولة ومؤسساتها واضطراب أهم قطاعاتها، والمدينة تريّفت ويبست بعض خدماتها والكورونا تأبى إلا أن تدلوا بدلوها، والموت أصبح عادياً تماماً والأحزان خالية الوفاض.

الجوع كافر خارج قائمة الإيمان ولا يدخل الجنة، والثّقافة والإبداع ومنتدياتها مثل أعواد الذرة في موسم الصيف بعد الحصاد. والمدينة تضم أخصائيين من كل شاكلة ونوع في توزيع السّلطة والثّروة، والرؤية مثل عربة خلف الحصان، وقلّ الأخصائيين في دروب الفكر والثقافة!.

 وإذا ما عاد عبد الله بولا مرة أخرى؛ لكان مدخله من هناك، ولبحث عن نظرة كلية شاملة لمجمل الحال المائل ولما أغفل الطعام والسلام والمواطنة بلا تمييز في مدينة تُعاني من انقطاع الحوار.

 كنت أسيراً في الطرقات معتمراً قناع كورونا الذي يصلح للصحة والتمويه في حي بدا نظيفاً بشكل استثنائي مقارنة بمعظم أخواته وإخوته البائسين من أحياء المدينة التي فاضت بأكثر من فيضان النيل الأخير، ومؤسساتها تستحلب الريف وتستورده إلى المدينة دون أفق للحلول، والمدينة تجذب التنوع دون رؤية أو خطة وعلى باب الله.

(1)

للمرة الأولى التقيته بعد أن عاد بعد طول غياب بُعيد انتفاضة إبريل1985 بعد أن حدثنا في ندوة أقيمت بمعهد الموسيقى والمسرح عن لقائه بقيادات من الحركة الشعبية في أديس أبابا، وهو يتحدث بلغة جاذبة وأنيقة، ولما كنت مولعاً بالحركة الشعبية وقررت الانضمام لها ذهبت لأستوثق من عقل تنويري لا يؤمن بوثوقية ودائم الشّك وطرح الأسئلة، والثّابت الوحيد عنده هو التغيير. وفي تلك الأمسية بضاحية البراري حدثني بحب ومودة واحترام عن الحركة الشعبية وكان ذلك ما أردته منه لاندفع بعدها في طريق الانضمام إلى الحركة الشعبية غير آبه بالتّفاصيل.

(2)

 في أمسية اليوم كنت عابراً في الطريق مثلما أنا عابر في الحياة، والطقس جميل مثل الربيع. وفي حي من أحياء الطبقة الوسطى في عنفوانها وشبابها وصحتها في السّتينيات كسته تلك الطبقة بالأشجار الظليلة التي نبتت على جانبيه؛ حينما نبتت الطبقة الوسطى نفسها من مجتمع كانت قيم العمل والنزاهة والتعليم عنواناً لطموحاته وأحلام الستينيات الواسعة الخطوات. وفي الستينيات نما عبد الله بولا وترعرع حتى أضحى قنديلاً من قناديل المعرفة وسراجاً مُنيراً للتّنوير وأينما ذهب إلى مدن العالم الفسيحة حينما أستقر في باريس تلك المدينة التي تشبه المتاحف، قطف من أحدث منتجات التنوير والمعرفة وعاد بها إلى بلاده وشبابها. هكذا هو عبد الله بولا مُبتدراً المعارف ويجود بها على الآخرين وعالي الكعب وجميل الأحاديث، حينما التقيناه وقد كنا شباباً، عند عودته من باريس بعد انتفاضة إبريل 1985 أشعل منتديات المعرفة واشتعل. لم يأتِ إلى بلادنا من باريس بالموضات وأجمل الأزياء بل أتى بالمعرفة متحدثاً عن الجديد من أدوات ومناهج الثقافة والفكر وهموم الأفارقة والإنسانية، كانت تلك بضاعته الوحيدة التي حملها من قلب باريس وكان قلبه وعقله مفعماً بالمعرفة وحب السودان.

(3)

بينما كنت عابراً عند أطراف المساء مرّ شخص بالقرب منا، كنت أسير برفقة يوسف يس والدكتور فتاح عرمان، وأشرت لهما إلى أن هذا الرجل نُسخة أخرى من عبد الله بولا وكأن بي أراه يعود إلى الحياة من جديد نفس الملامح ولا شبه .

عادت بي الذاكرة والحنين إلى ذلك الإنسان الممتاز والذي سعى بأن يكون كل إنسان آخر ممتاز أيضاً. وعلى المرء أن يسعى ربما أدركه الفلاح. كم تمنيت لو أدرك عبد الله بولا ثورة ديسمبر وهو في عنفوان الذاكرة ليلتقي بأجيال الغاضبين بلا حدود، فهو عقلاني وغاضب بلا حدود وغضبه مسنود بمعرفة عميقة مبذولة للجميع.

 فلقد كان عبد الله بولا معادياً للاحتكار والاحتكارات، زرته في أيامه الأخيرة في منزله ضواحي باريس ووجدته محاطاً بزوجته الأستاذة نجاة محمد علي وبناته، وظللت على اتصال معها متفقداً أحواله ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وكم أحزنني رحيله قبل الأوان وقبل أن ينهي مشروعه الفكري والثقافي الذي لا ينتهي.

(4)

عند الإنسان المضياف وأسع الكرم والذي عرف بتقدميته في صفوف الحركة الشعبية وأول طبيب انضم إلى صفوف الجيش الشعبي وأصبح لاحقاً أول سفير من جنوب السودان لجمهورية السودان وجمهورية جنوب السودان في واشنطن على التوالي؛ الصديق العزيز والذي لا يسقط من الذاكرة الدكتور أكيج كوج والذي تخرج من كلية الطب جامعة الخرطوم، في منزله في باريس أمضينا ليلة ممتعة برفقة فاقان أموم وشخصي- واتصلت بعبد الله بولا الذي أتى مبكراً وكان ينوي أن يعود مبكراً لأنه كان يعمل في ذلك الوقت، وانتهى بنا الحال في حوار وسياحة فكرية وإنسانية حتى السّاعات الأولى من الصباح وبدلاً من أن يذهب إلى منزله ذهب إلى المكتب.

لقد كان عبد الله بولا إنساناً رفيع الثقافة وحينما أبحر خلف البحار بعيداً عن وطنه أبحر الوطن في ذاكرته ولم يفارقه أبداً، وفي طيات ذاكرة أيامه الأخيرة تبقت بربر وصورة والده ثابتة لا يمحوها الزمن.

(5)

 في جنيف قبل قدومنا لباريس ذكرتُ لفاقان ضرورة أن نلتقي في باريس ليوسف حزّان وريموند استامبولي أيقونات اليسار المصري وزملاء هنري كوريل الذين وبعد أن طردوا من مصر عكفوا على مساعدة حركات التحرر الوطني من الجزائر إلى جنوب إفريقيا وإمريكا اللاتينية. وفي حديثنا في تلك الليلة فاجأني دكتور أكيج كوج بأن المنزل الذي يسكنه لم يكن ليستطيع فعل ذلك إلا بضمانة من يوسف حزان، ولاحقاً التقينا بيوسف حزان وريموند استامبولي مع هالة بابكر النور والشفيع عبد العزيز وهذه قصة تحتاج لأن تحكى وتدون.

(6)

إن الذي التقيته عابراً في أمسية اليوم؛ لم يكن عبد الله وكان طيفاً من أطيافه الشديدة الملامح، ولكن طيفه الحقيقي لا زال موجوداً في كتاباته العديدة العابرة للبحار والزمان والمسافات. ولطالما أعجبني وفاء الدكتور حسن موسى لأستاذه وصديقه عبد الله بولا، وأطربني حديث الدكتور النور حمد وهو يشكل لوحة آخرى لعبد الله بولا أستاذه في حنتوب الثانوية وكلية الفنون حينما قدمه لمنبر سودانيز أونلاين في العام 2004.

إن ثورة ديسمبر ومنتديات الثّقافة والشباب تحتاج أن تحتفي بعبد الله بولا هذا الإنسان المميز في سماوات الثّقافة والفكر وحتى يتعرف عليه شباب اليوم على نحو أفضل مثلما تعرفنا عليه حينما كنا شباباً عند انتفاضة إبريل ١٩٨٥، فعبد الله بولا بوابة تفتح على كل انتفاضة وثورة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى