صناعة الأوهام
جورج طرابيشي
“دع اgناس مطمئنين ،ايها الرئيس لا أعينهم ، إذا فتحت أعينهم ، فما الذي سيرون ؟ بؤسهم دعهم إذن مستمرين في أحلامهم .
وصمت لحظة ، وحك رأسه، كان يكفر ، وأخيراً قال : إلا، إلا إذا . .
_ماذا ؟دعنا نرى قليلاً .
_ إلا إذا كان لديك ، عندما يفتحون أعينهم ، عالم أفضل من عالم الظلمات الذي يعيشون فيه الان . ألديك هذا العالم ؟
لم أكن أعرف . كنت أعلم جيداً ما سيتهدم ، لكنني لا أعرف ما الذي سيبنى فوق الأنقاص “.
نيكوس كازنتزاكي
رواية “زوربا”،
ترجمة جورج طرابيشي ، دار الطليعة ،
بيروت ،ط 4 ، 1979، ص 67
صناعة الأوهام
1
هل الأوهام ملاصقة للانسان ؟ وهل صناعة الأوهام ضرورة في حياة البشرية وفي أيامنا الراهنة ؟
وهل تفرح ،أميرِ المُؤمِنينَ تحزن ، إذا خسرت وهماً ؟
2
لا نستطيع الحديث عن الوهم ، دون الحديث عن الخيال والحلم . فإضافة إلى ما يطلقة المفكرون والفلاسفة على الانسان بأنه “الكائن الحي الأرقى” و”الحيوان الناطق ” فإنهم يطلقون عليه صفات أخرى تميزه بأنه ” الحيوان المفكر” و”الحيوان الذي يحلم “.
ضمن الفعالية الفكرية للانسان تأتى المخيلة . والخيال مطلق السراح ، ومع أنه يرتبط بالمحيط ومستوى التفكير ، إلا أنه يتصف بالتحليق والانفتاح والمرونة والذهاب الى الأجد الأبعد والأغرب . ولهذا ، فانه اذا كان بالامكان تقييد جسم الانسان حركياً ومكانياً ، فلا يمكن تقييد خياله ، بل لقد ثبت أنه كلما ضاق مكان الانسان كلما لجأ الى تعويض ذلك باطلاق الخيال ، كما يحدث مع السجناء على سبيل المثال ، مع التحذير من أن مناصرة هذه المسألة واتخاذها هدفاً هو نوع من التراجيكوميديا ، لأننا لا يمكن أنْتَ نشجع السجون ، بل الحدائق ، ولا نناصر العلب والزنازين ، بل نحن مع الفضاء والافق الحرب ، وروح تحتاج الى رحابة ، ويلا رحابة يتضاءل الخيال ويجف .
3
يرتبط الحلم ارتباطاً وثيقاً بالخيال . ويمكن تعريف الحلم بأنه خيال يسعى الى هدف ، أمنية يتلبسها طموح ، رغبة ما لتجاوز ما هو قائم الى شيء آخر .
ليس غريباً أن يعتبر الحلم دلالة من دلائل الحياة. بل ان الابداع يعتبر الانسان ميتاً دون حلم ، كما يقول أحد الأفلام :
Without dream you are dead
من لا يحلم يستكين ، والسكينة بهذا المعنى سكون ونقيض للحيوية ، ومبدأ الحيوية مرتبط بالحياة ، وثمة أناس يلجأون الى الانتحار ان كفوا عن الحلم .
4
يقول الناقد والروائي اللبناني الياس خوري :
” الشاعر هو اول من ينكسر اذا انكسر الحلم ، وهو أول من ينكسر حين يتحقق الحلم ” .
الشطر الأول من عبارة خوري يمكن تقبله بسهولة . فالشاعر يتصف بشفافية عالية وهو يحب أحلامه لدرجة العشق ، ويحرص على تحقيقها ز الحلم بالنسبة له قضية ” مبدأ ” و ” استراتيجية الاستراتيجيات ” . لهذا ليس غريباً ان ينكسر الشاعر أذا انكسر حلمه . أما أنْتَ ينهض الشاعر بعدها أو لا ينهض ، فهذا موضوع ينتمي الى الامكان والاحتمال ولا ينتمي الى الضمانة الأكيدة ، ارتباطاً بالواقع ذاته وبذات الشاعر .
لكن لماذا وكيف ينكسر الشاعر اذا تحقق الحم ؟ ألا يناضل الشاعر لأجل تحقيق حلمه ؟ هنا يتمظهر مشكل الحلم ويتمظهر تناقضه .
الحلم غذاء ، طاقة ، مهما يدفعك الى الاستمرار ، الى الأمام والأعلى والأعمق ، الحلم شاغل يشغلك فما أنْتَ يتحقق حتى تشعر بشيء من الفراغ والافتقاد ، لكن ثمة حل لهذه المشكلة ، وهو أنْتَ الانسان بحاجة دوماً الى أحلام جديدة ، والحياة ان لجأنا اليها جيداً تزودنا بمزيد من الأحلام .
علاقة الشاعر بالحلم مسألة يمكن تعميمها على جميع المبدعين وعلى الانسان عامة ، بالمفرد والجمع ، بالجوهر الذي لا يلغي التطييف .
5
بين الحلم والوهم خيط رفيع ، ثمة أرجوحة تنقل الحلم الى مكان الوهم ، والوهم الى مكان الحلم .
الوهم حلم كاذب ، حب تكشف عن خيانة ،ومن يحمل الوهم لا يعرف أنه وهم ، بل يعتبره حلماً وطموحاً وسعياً مشروعاً ، وبعد ذلك يأتي الانكشاف والتثبت .
يغمرنا الفرح حين يتحقق الحلم ( حتى وان أصابنا شرود وأسى الافتقاد اللذان ينتجان ع تحقق حلم معين كان يشغلنا ) وتصفعنا الخيبة حين يتكشف الحلم عن وهم ( عدم علميته وصدقيته ) ، لا تربة تحتضنه وتنبته ، بصورة استبعادية وليست مؤجلة .
6
من علامات البؤس والبائسين اكتساء الأوهام ثوب الأحلام . الانسان لا يمكن أنْتَ يصنع ، عامداً متعمداً ، وهماً لنفسه ، لأن الوهم ضرر وهراء .
ثمة أوهام تنتج عن بعض الأمراض النفسية يصاب بها بعض الناس ، وثمة أوهام يحملها صاحبها نتيجة الشطط والمبالغة في التقدير والتفكير . لكننا لا نتكم عن هذا النوع من الأوهام ، ولا عن هذه المصادر للاوهام .
نتكلم عن انتاج الأوهام بصورة عامدة متعمدة ، حين يصنع الآخرون لك وهماً أوتصنع لهم وهماً .شباك ترمى ، ويكون الطعم وهماً ، والضحية ليست سمكة بل بشراً ينقصهم الوعي والسعادة .
ان انتاج وبيع وشراء الأوهام عملية رائجة في زماننا ، في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة ، في تريج نمط الحياة والافكار والصور والأخبار ، عملية تقوم بها أنظمة ودول ومؤسسات وافراد . وصناعة الأوهام ليست عملية بسطية ، أهنها أعقد من التجارب المخبرية ، وهي محصلة لعناصر عديدة تمثل شبكة ، والعمليات العقلية التي تقف وراءها وداخلها يملك أن نطلق عليها : منظومة فكرية .
7
نحن نحب أحلامنا ، ونحزن ان خسرنا حلماً لكن ثمة من ينهضون ويواصلون ويتجددون ، وثمة من ينسحبون ، ويتقوقعون ، ويجفون ز يقول الشاعر محمود درويش :
خسرت حلماً جميلا
خسرت لسع الزنابق
وكان ليلي طويلا
على سياج الحدائق
وما خسرت السبيلا
8
انتحر أدولف هتلر حين انقلب حلمه الى وهم . والصبية التي تحلم بشاب كامل الأوصاف . تضيف لها كل يوم شرطاً جديداً ، لا يعجبها العجب ولا الصيام في رجب ، وتنتظر فارسها بكبرياء وثقة ، تنتهي الىعانس دائمة وعذراء حتى القبر . الناس الذين ينتظرون النهر ليهبط عليهم بالمظلة من السماء ، دون توفير أسباب النصر ، سيظلون مسريلين بالخنوع والهزائم . والايديولوجيا ن اية ايديولوجيا ، التي تريد أنْتَ تسبح في كل زمان مكان ، وتحرز الميدالية الذهبية دائما ، دون مراعاة أي مكان ، واي شيء ، هي ايديولوجيا ستحرز قصب الخواء .
9
ثمة أناس يفرحون حيت تتكشف له أوهامهم ، يشعرون بأنهم قد ربحوا عندما خسروا وهماً .
وثمة أناس آخرون يصدمهم ما تكشف من أوهامهم ، كانوا يعلقون آمالا كبيرة يهدهدهم العزاء والسلوى ، ويتمنون لو بقي الوهم وهماً دون أنْتَ يدروا أنه وهم . آه يا وهمي العزيز ! .