تحقيقات

سوق سوداء.. وقبضة “سماسرة” المواطن بين ناريْن

الخرطوم- سلمى سلامة
سوق سوداء؛ وندرة غير مسبوقة في السلع الضرورية والخدمات، وغلاء فاحش، وسماسرة يمسكون بقبضتهم على المشهد، في سوقٍ تطحن المواطن بلا رحمة، حيث يرتفع فيها مؤشر الأسعار بسرعة تكاد أن تفوق “دقات عقارب الساعة”.
بائع ومشترٍ
الحصول على الخدمة؛ لم يعد بالأمر السهل، فقد أضحى مكلفاً، ويتطلب وجود وسيط للحصول عليها، تماماً كما يحدث في سوق العقارات، التى يبدأ فيها الدفع المادي بلا توقف، من أجل خدمة عبر ذلك الوسيط المعروف بالسمسار. أحد المواطنات؛ روت لنا تجربتها في الحصول على منزل للإيجار، حيث لجأت لوسيط، ولكنها تفاجأت بأن عداد الدفع لخدمة الوسيط لم يتوقف عند وسيط واحد، بل وسطاء ينتفعون من الخدمة بين الطرفين “مالك العقار، والمستأجر”. تقول المواطنة: بعد بحث مضنٍ؛ حصلنا على سكن، ودفعنا ما يقارب الــ”٣٠” ألف جنيه ثمناً لخدمة الوسيط.
وذات الموقف؛ تكرر مع المواطن “محمد، الذي دفع للسمسار مبلغاً يُعادل ثمن الإيجار الشهري. وأكد أن سبب ارتفاع قيمة الإيجارات هو كثرة الوسطاء. وأضاف: “وبعد ذلك؛ لا تجد السكن المناسب، أي المنزل لا يستحق ذلك الإيجار الذي يفوق الـ”٣٠” ألف جنيه. وأوضح أن السماسرة يهيمنون على سوق العقارات بلا رقابة، أو جهة تنظِّم عملهم. بل إن كثرة الوسطاء؛ أوجدت مناخاً خصباً للاحتيال والنصب.
سماسرة الموت
الشُح فى السلع؛ يخلق سوقاً موازية “سوداء”، تطحن المواطن بنيران أسعار، تشتعل كلما شَحَّت السلعة. ليست سوق العقارات ــ وحدها ــ التي هيمن عليها السماسرة؛ هناك سوق لا تحتمل وجود حلبة لصراع الربح على حساب أرواح المواطنين، مثل سوق الأدوية التي زحف عليها السماسرة، مستغلين حالة الندرة في القطاع. فأضحى المواطن في حالة سعي للحصول على دواء منقذٍ للحياة من تلك السوق السوداء، عبر ما يُطلق عليهم تجار “الشنطة”. وكشفت مصادر لـ”الديمقراطي”؛ أن الأشخاص الذين ينشطون في بيع الأدوية خارج الصيدليات، هم من لهم صلة بالحقل الطبي، إذ يقومون ببيع المحاليل الوريدية، وبعض الأدوية، عن طريق وسطاء. بمعنى أن المريض؛ يحصل على الدواء عن طريق “وسطاء”، وليس وسيطاً واحدا. وقال المصدر: “حتى دخول المستشفيات، ومقابلة الأطباء، ارتبط بالسماسرة”.
حيل الاقناع
ينشط عمل السماسرة؛ في كل القطاعات، حتى قطاع النقل العام. وبمجرد أن تدلف لأي مكتب بصَّات سفرية، يتهافت عليك السماسرة بحيل اقناع، لا تترك لك مجالاً للوصول إلى شباك التذاكر، فيأخذون منك ثمن التذكرة التي تكتشف ــ فيما بعد ــ أنها بيعت لك بسعر أعلى من سعرها الحقيقي، ولكن اكتشافك ــ في الغالب ــ يأتي متأخراً. هؤلاء السماسرة في تزايد؛ فهم يوجدون حول المكاتب مثل “صائدي الفرائس”، وصار عملهم في كل الأوقات، وليس وقت الأزمة المرتبطة بموسم الأعياد.
أصحاب المهنة
“منتصر طه”؛ شاب دخل مجال السمسرة ــ قبل ثلاث سنوات ــ يحكي عبر مشوار عمله القصير، عن اختلاف حال المهنة، التى لم تعُد كسابق عهدها. حيث كان في السابق؛ يلجأ طالب الخدمة لمكتب السمسار، ويكون البيع بينه وبين صاحب العقار ــ مباشرة ــ بلا وسطاء. وقال: “سوق السمسرة مثل “الفِرِّيشة” أمام المحال، الكل يحاول أن يجد له رزقاً فيها”. وأكد منتصر؛ أنهم يعملون وفق القانون، ولديهم رخصة عمل من وزارة العمل، ويتحصلون على نصف قيمة الخدمة المقدمة، فإذا كان إيجار المنزل قيمته الشهرية “40” ألف جنيه، تكون حصتهم “20” ألف جنيه، وذلك حسب القانون المنظم لعملهم ــ على حد قوله.
دكتور حسين القوني؛ رئيس اللجنة الاقتصادية بالجمعية السودانية لحماية المستهلك، وضعنا أمامه ظاهرة السماسرة، وتأثيرها على الاقتصاد. وبدأ حديثه: “معروف أن مفهوم الوسطاء ــ السمسرة ــ هو وسيط بين البائع والمشتري، سواء أكان ذلك لسلعة أو خدمة”. وقال: “بدأت كنشاط محدود؛ وكان الناس في السابق يلجأون لتبديل سلعة بأخرى، وذلك في عصر ما قبل النقود، وفق اتفاق معين. تطور الأمر؛ إلى سلعة مقابل نقود، وكان النشاط قليلاً جداً، ومع مرور الأيام؛ ظهرت الحاجة إلى أكثر من وسيط، وذلك بسبب عدم وجود فرصٍ لعملٍ ثابتٍ ومجزٍ، وعدم الحصول على معلومات حول السلع وندرتها، أو يكون الطلب عليها عالياً.
تشكُّل الظاهرة
ويرى القوني؛ أن الفترة الأخيرة من سنوات النظام البائد، أفرزت وجود فاقد تربوي، وانعدام للوظائف، وأن أسهل طرق العمل هي “الوسيط”، إلى أن بلغت المدى الحالي. في ظل ندرة أحدثت ارتفاعاً في أسعار السلع والخدمات. نتيجة للعرض والطلب؛ توسعت المسألة، مع انتشار النقود، وأصبح العمل جاذباً، خاصة في سوق العقارات. ارتفعت أسعار هذه الخدمة؛ مع ارتفاع الطلب عليها، وزاد دخل العاملين فيها، لدرجة شجَّعت العاطلين عن العمل. وأضحى المواطنون؛ يمارسون هذا العمل، بمجرد سماعهم عن سلعة أو خدمة، وتكون متناسبة قيمتها مع قيمة السلعة، أو الخدمة المقدمة. حتى الموظفون ــ أنفسهم ــ دخلوا في هذا القطاع، من خلال معلومات تتوفر لهم.
ويؤكد “القوني”؛ أن الوساطة نشاط له إيجابيات وسلبيات. إيجابيته في ربط صاحب الخدمة مع المشتري، وسلبية لكون مبلغ الخدمة “الوساطة”، أعلى من الخدمة أو السلعة المقدمة. لذا تجد أن ذلك النشاط؛ أقنع عدداً من الشباب أنه لا فائدة من العمل بالشهادات الجامعية، لأن هناك طُرقاً للربح السريع.
وعاب القوني ــ على الجهات المختصة ــ عدم اهتمامها بالأمر، وتركت ذلك النشاط يفرِّخ سلبيات عدة، ومثال ذلك ما يشهده قطاع التعدين. حيث صارت هناك شركات تنهب المعادن؛ والمعدنون يبيعون إنتاجهم من الذهب عبر الوسطاء. وقال: “في العهد البائد؛ هناك فساد سياسي، ومالي، وإداري، ساعد في نشر نشاط “السمسرة”، لأن الموظفين ــ أنفسهم ــ تحولوا لسماسرة لقضاء الخدمات، مما ساعد على نمو النشاط الطفيلي. وكعلاج لهذه الظاهرة؛ لابد من دراستها، ومعرفة أسباب انتشارها في السودان، مقارنة مع تجارب الدول الأخرى النامية والمتقدمة لوضع الحلول. إضافة لتقنين عمل السماسرة؛ وضرورة إدخالهم في المظلة الضريبية، وعمل نقابة لهم، وضرورة تنسيق كل الجهات التى تعمل في حماية المستهلك، والمالية، والعمل. وذلك لتنسيق الجهود لمحاربة الظاهرة التى نمت، نتيجة فساد النظام البائد، الذي أوجد مراكز قوة اقتصادية، تبحث عن الفرص السهلة، مما فتح الباب أمام الوسطاء.
الهادى عبد المطلب؛ الخبير الاقتصادي، ومسؤول مكتب المتابعة بوزارة المالية ولاية النيل الأبيض، أكد أن وجود نظام الوساطة في الخدمات ليس بجديد، ومعروف حتى على نطاق المؤسسات الاقتصادية العالمية، مثل البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي. ولكن اختلف الأمر هنا؛ حيث أضحى هناك أكثر من وسيط في الخدمة الواحدة، مما زاد القيمة المضافة على السلع. مثال لذلك؛ السكر. حيث يدفع الوكيل الأول للشركة؛ ثم لشخص آخر، وهكذا إلى أن تصل السلعة للتاجر، ويكون سعرها قد تضاعف بنسبة أكثر من 50% من السعر الحقيقي، وهذا الارتفاع يؤدي إلى التضخم. وقال: “دور الدولة؛ هو تقليل الوسطاء، بمعنى أن يكون تقديم الخدمة مباشرة للمواطن لتقليل العبء، وهذا النظام تم تطبيقه في برنامج سلعتي، القائم على مفهوم الجمعيات التعاونية، لكبح جماح الجشع”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى