استنارةصفحات متخصصة

سعيد ناشيد : قواعد التَّديُّن العاقل (5)

(سعيد ناشيد)

قواعد التَّديُّن العاقل (5)

سعيد ناشيد

القاعدة الخامسة: في أنَّ الشَّعائر الدينيَّة تطوعيّة غير إلزاميّة.

التَّحليل: سنحاول الدُّخول مباشرة إلى صلب الموضوع، ومن ثمَّة نقول، لا وجود لأي عقوبة دنيويّة بالنّسبة لتارك الصَّلاة، سواء في مصاحف القرآن أو صحاح السُّنة أو أخبار السيرة، ولا وجود لها كذلك في أخبار الصَّحابة والخلفاء الرَّاشدين. وهذا معلوم بالضَّرورة. كما لن نجد أي عقوبة دنيويَّة بالنّسبة لمفطر رمضان جهرًا أو عمدًا، سواء تصفحنا صفحات القرآن أو دقَّقنا في أقوال السُّنة أو أمعنا النَّظر في أحوال السيرة، ولن نجدها في أي موضع من أخبار الصَّحابة والخلفاء الرَّاشدين. وهذا أيضا معلوم بالضَّرورة. فماذا بعد؟ الأمور واضحة وضوح الشَّمس في منتصف النَّهار بلا لبس ولا غموض، لم يفوّض الإسلام لأي جهة الحقّ في معاقبة شخص يترك الشَّعائر الدينيَّة، سواء تركها بعضها أو كلّها، سواء تركها بعض الوقت أو كلّ الوقت، وسواء تركها لدواع أو بلا دواع.

بالنَّظر إلى نظام العقوبات في الإسلام نستنتج بأنّ عقوبة شرب الخمر معروفة ومطبقة باختلاف الأسلوب والدَّرجة والحدّة، حسب ما ترويه الأخبار المتواردة والرّوايات المتواترة، كذلك الحال بالنّسبة لعقوبات أخرى مشهورة ضمنها عقوبة السَّرقة -ولو أنَّ النَّاس تورَّعوا عنها منذ البدء رغم التَّنصيص عليها في القرآن بصريح اللَّفظ وفصيح العبارة- لكن، في المقابل، وهنا تكمن المفارقة، رغم عدم التَّنصيص على أي عقوبة دنيوية في الخطاب القرآني أو الحديثي فإنَّ قوانين بعض الدول الإسلاميَّة تصرُّ اليوم على معاقبة تارك الصَّلاة. بل أكثر من ذلك، بوسعنا أن نلاحظ بنوع من الاستغراب، كيف تصرّ قوانين معظم الدّول الإسلاميَّة إصرارا عنيدًا على معاقبة مفطر رمضان سواء بالسّجن أو الجلد أو كليهما، بل قد تطال العقوبة حتَّى الأشخاص الَّذين يفطرون داخل مجالهم الخاصّ كما هو الشَّأن في العديد من الحالات. إذ سرعان ما تدخل القوانين التَّسلطيَّة نفسها ضمن عوامل تهييج العوام على مفطري رمضان، ودفع النَّاس من ثمَّة إلى التَّسلُّط على رقاب بعضهم بعضًا.

لهذا السَّبب، فإنَّنا سنتناول الصيام كمثال، طالما أنَّ غالبية الدُّول الإسلاميَّة تعاقب على الإخلال به. وغايتنا في الأخير بيان أنَّ الشَّعائر الدينيَّة تطوعيّة وغير إلزاميَّة.

واضح أنَّ الصَّوم شعيرة تطوعيَّة حسب النَّص القرآني، لكنَّ الفقهاء جعلوها في الأخير شعيرة إلزاميَّة، بل اتّفقوا في الوقت الرَّاهن على أنّ تركها يستوجب العقوبة الشَّديدة. غير أنَّ قوانين معاقبة مفطري رمضان تعدّ مخالفة صريحة لصريح النَّص القرآني؛ إذ تقول الآية الكريمة: (يا أيّها الَّذين آمنوا كُتب عليكم الصّيام كما كتب على الَّذين من قبلكم لعلَّكم تتّقون. أيَّامًا معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدّة من أيَّام أخر وعلى الَّذين يطيقونه (أي يستطيعون صيامه) فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرًا فهو خير له وإن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون) البقرة، 184. لكن، تبعا للنُّزوع التَّشدّدي لفقهاء عصور الانحطاط، عصور العُسر والضّيق والشِّدَّة والعوز، فقد جُعل الشَّطر الأخير من الآية ناسخا لما سبقه. ونحن هنا –ويا للمفارقة- نرى ناسخا ومنسوخا داخل نفس الآية الواحدة! وليكن، حتَّى على افتراض صحّة هذا الاستنتاج فإنّ الشَّطر الأخير من الآية يستعمل فعل ((تطوّع))، ما يعني أنَّنا أمام شعيرة تطوعيَّة وليست إلزاميَّة بأي حال من الأحوال، اللَّهمَّ إذا كنَّا سنُقوِّل اللُّغة ما لا تقول!

الفهم الدّيني الأكثر بداهة أنّ رخص الله لا يجوز أن تؤتى في الخفاء. فبأي حقّ نرغم المسافر على الاختباء حتَّى يمارس ما رخصه له الدّين؟ وبأي حقّ نرغم المريض ألاَّ يأكل أمام النَّاس لكي لا “يستفزّ” مشاعرهم (الهشَّة !)؟ وبأي حقّ نغلق المقاهي والمطاعم في وجه الجميع، مسافرين، مرضى، نساء حوامل، مرضعات، سواح، مهاجرين، مهاجرين سريين، فضلا عن الَّذين لا يطيقونه وفق الآية المذكورة سالفا؟

إنَّنا عندما نرغم النَّاس على القيام بشعائر لا يطيقونها فإنَّنا ندفع بهم إلى أحد الأمرين، إمَّا ممارسة النّفاق الاجتماعيّ كمرض أخلاقيّ عضال، أو الوقوع في العصاب الوسواسيّ كمرض نفسيّ مزمن. هذا هو واقع الحال الَّذي لا يجوز أن يستمرّ بأي حال.

الاستنتاج : منطق عدم التَّناقض عند أرسطو واضح إلى حدّ “السَّذاجة” أحيانا: إمَّا ألف أو لا ألف. لكنَّها “السَّذاجة” الَّتي نحتاجها لكي نقول: إمَّا “لا إكراه في الدّين” أو “إكراه في الدّين”.. تلك هي المسألة.

(منقول).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى