سرديات../ “ست الدار” لا تعرفُ كتمَ الأسرار
أذكُرُها، قصيرةً كانت وممتلئة. وجهُها المستديرُ تزيده (مساير) شعرها المنتفخة والملتفّة حول أذنيها، استدارة، ولها ثلاثة (شلوخ) طويلة، تمتدُ على خديها كوديانٍ آمنة تعبرُ قفراً، فما تزيده إلا وسامةً نديّة.
ساقاها مقوّسان، يصنعان مشيةً مائلةً كل الميلِ إلى اليمين، ثم إلى اليسار، فـ (ست الدار) بلغت من العمر لترى بنات حفيداتِها، وهي ستُّ الدارِ حقاً الذي هو مآبُ بناتها وأولادها أثناء النهار وملتقاهم آخر الأمسيات.
هو دارُها من بعد رحيلِ زوجها حاج محجوب، التاجرُ المعروف في السجانة برصانته وجدّيته وحكمته الكبيرة. وبينما تلك صفاته، كانت (ست الدار) تُعرَف بالطيبةِ الشديدة، بساطةِ التعامل وحُلو المعشر، لكنها تُعرَف أيضاً بأنها لا تكتمُ سراً ولا تتورعُ عن قولِ ما تراه صائباً (طَق طَرَق) دون تنميق، مما كان سبباً في العديد من المواقف المُحرِجة، ليس لها وإنما لأسرتها، فهي لا تأبه لذلك طالما لم تختلق شيئاً، كما تقول.
لعلها فلسفةٌ للاتساق مع النفس والتصالحِ مع الحياة حتى في أكثر وجوهها حلكةً وزيفاً.
“مالكَنْ عَلَي؟ جِبتو من عندي؟ ما جِبتَنّوا إنتن وأنا فيييي مكاني ده”.
تقول بلهجتها الشايقية المميزة.
تجلسُ على (عنقريبها) بين المطبخِ المجاورِ لبيت الغنم الذي يشبه مخابئ الحروب القديمة بظلمته الرطبة، (طاقات) الضوء الصغيرة و(صاجات) الطبخ الكبيرة المدوّرة السوداء والثقيلة التي تماثلُ دروع الاقتتال، معلقةً على الحائط.
تجلسُ بينه والحوش الصغير، تجرُّ من تحت (العنقريب) (كرتونة) تحوي علب البهارات، الشاي، (دوا الشاي) من حبهانٍ وزنجبيلٍ وكل ما تحتاج إليه في الطبخ، إذْ إنها تحبُ كل شيء في متناول يدها، فتقوُّس أرجلها لا يسعفها على الحركةِ كثيراً.
“إييي يا حاجِّى مريم، قُت لِك دُقيلِي الويكي دي الليلي”.
تحادثُ (حاجة مريم) وهي صاحبتُها من قبيلة الهوسا التي تحضرُ دائماً لتطحن البهارات والبامية المجفّفة، مستخدمةً مدقاً خشبياً كبيراً يصلُ إلى منتصفِ قامتِها، سحنته تحكي الأزمان الطويلة واعتداد التاريخ. يبدو شاهداً على عتقِ القصصِ وأنهار الحياة التي ما جفّت ألوانُ تشكّلها.
الحكايا بين المرأتين تُزهرُ، تظللها قسماتُ الهوسا ونقوشُها، إذْ تشرِقُ كالصباحات مع الابتسامات، تحاورها (الشلوخ) و(المساير)، الأدعيةُ دثار المودّة والبشرةُ السوداء، أرضُ الملتقى في توالفها، تحتفي باللغات، بالانتماء، بتماهي الأفكار، ولا تعبأ بالاتجاهات.
تفرغُ (حاجة مريم) من مهامها وتتناولُ إفطارها مع (ست الدار) التي لا تنسى أن تهديها سكراً تلفّه هي في إحدى طرحاتها قبل أن تغادرَ بأزيائها الملونة وربطة رأسها الأنيقة، تاركةً خلفها قوس قزح صورها، وتمتمة الشكرِ بمزيجِ عباراتٍ عربية و(هوساوية) حميمة.
تغادرُ صاحبةُ الألوانِ البهيّة، وتدخلُ زائرةٌ تحيِّى بابتهاجٍ مرددةً سؤال حالٍ مُطوّل، ثم تجلس قُبالة (ست الدار) التي تعضُّ على لسانها في طرفِ شفتها السفلى الموشومة، كعادتها حين تنهمكُ في أمرٍ ما، تعدُ الشاي وتحكي.
(المنقد) في اشتعالٍ موازٍ لتصاعدِ الحديث، جمراته تتحركُ في ملل كما في انتظارِ صاعقة السِّرِ الذي لا يستأذن غيمَ المواربةِ البروق. (ست الدار) تتنهّدُ بين الحين والآخر في تعبِ مَن يحملُ همّ الجبال، وتحادثُ نفسها بصوتٍ مسموع.
“أمااانِي يا بِطينتي ما فيك حديس”.
دلالة عدم قدرتها على كبتِ السِّرِ مُطوّلاً. وكما هو الحال في كل مرة، حين لا تستطيعُ صبراً، تقعُ الواقعةُ التي تنتهي ببكاء امرأة، دهشةِ رجل، وحيرةِ الكثيرين الذين أمِنوا أسراراً تنومُ طويلاً في كهوفِ الصمت، وهدأوا إلى رُتُجِ الحكي، تخلدُ إلى جدران الانغلاقِ وتستكين.
تأتي الخاتمةُ من (ست الدار).
“إييي وا محينتي! ماك عارفِي؟!”
مؤكدةً سطوةَ السِّر الذي أُفشى تواً وانهزام الشبهات في ساحة الشك، ثم موقِنةً في كيّ الجروح وحرقةِ التشافي.
“الغَبا، قالوا لِي لا تحَدِّسي زول! لكن أخير لِك تبقِي واعيِي وتضايري الشِي قبُل الفاس يقع في الراس”.
الأشياء ليست كما تبدو من السوء، فالواقعاتُ التي تبدأُ بالصدمات، ما هي إلا رجٌّ للمسكوتِ عنه حتى ينصلحَ ويأتي بالنهايات السعيدة، كما في الأفلام التي نأمل أن تكونَ كذا دائماً وِفقاً لما نهوى.
لا ملامةُ عليك يا سيدة الدار ولا عتاب، فالسجانة تشهدُ أنك حين تمرّين، تنفرجُ أساريرُ الشوارعِ عن صفاءِ حقيقتِها، لا بينَ بينْ. وتعرفُ أنك وكما تحملين (قُفّة الخدار) كبيرةً ثقيلة على تأرجحِ مشيتك، تحملين حُباً وهيطاً يتجاوزُ المُباح من الروايات.
يعرفُ البائعون بسوق السجانة سِر الفكاهةِ وسِر الحياةِ فيك فيبيعونه مجدداً فرحاً وألقاً للمشترين، وتعرفُ الجاراتُ القريباتُ، البنيّاتُ، الشجراتُ، (العريشات)، الحيشان المفروشات، أنك صحوُ الكلامِ في مزمار الصمت، وصوتُ الأحلامِ حين تستفيقُ الشموس.
………
(ست الدار) .. تُفسحُ الدارَ لحمائم الدهشة كي يتفيأ شجر الحكايا
(ست الدار) .. توقظُ كمونَ المخبوءِ من هديل الأمنيات في شدوِ القماري
(ست الدار) ..
خطوكِ المُعوّجُ يعدلُ ظلَّ التصاوير الحميمةِ إذْ تستقيمُ بالذكرى
(ست الدار) ..
صوتُك .. يقظةُ (العشم) في ليل السكون حين يضجُّ بالفكرة
(ست الدار) ..
رائحةُ الأغنياتِ فيكِ .. دُعاشُ الخيال .. ينداحُ قطرةً فقطرة
(ست الدار) ..
يا حقيقة الغرباء ..
ورد الأسئلة ..
وحزن الأسرار