سرديات…/ الزاكي عبد الحميد أحمد
قالوا بدأ حياته معلماً، يهتم اهتماماً بالغاً بتاريخ أفريقيا، وأصبح مرجعاً فيه، حتى بعد أن ترك مهنة التدريس وانخرط في عالم ساس يسوس. حيث سطعَ نجمُه، كما لم يسطع نجمُ زعيم أفريقي مثله، فأصبح أيقونة النضال مع زملائه الآخرين، من أجل تحرير القارة السمراء من ربقة الاستعمار. إنه كوامي نكروما حكيم أفريقيا والرئيس الغاني الأسبق.
تقارير وبرقيات سرية عديدة، كنت أترجمها لمركز دراسات في الخليج، بعد أن تفرجَ عنها دوائرُ المخابرات الغربية والأمريكية، عند انقضاء مدة سريتها..
كنت أبدي اهتماماً كبيراً ببعض تلك التقارير والبرقيات وأحتفظ بترجماتها لأهميتها. من هذه البرقيات تلك التي وردت لمدير المخابرات الأمريكية في القاهرة من ألان فوستر دلاس مدير المخابرات المركزية في أمريكا في نهاية خمسينيات ومطلع ستينيات القرن الماضي..
أبدى فوستر في برقيته تلك قلقه من تدني أداء ضباط المخابرات المكلفين بإسقاط حكومات بالسرعة الممكنة ومنها:
حكومة الدكتور محمد مصدق في إيران، وحكومة أحمد سوكارنو في إندويسيا، وحكومة لوممبا الوليدة في الكونغو، وحكومة فيدل كاسترو في كوبا، وحكومة هوشي منه في فيتنام، وحكومة جاكوبو أرينز في غواتيمالا.
ووضع العراقيل الكافية للحيلولة دون وصول كوامي نكروما في غانا، بعد استقلال بلاده من الاستعمار البريطاني.
ولكن نكروما تخطّى كل العراقيل وأصبح رئيساً لبلاده بعد استقلالها عام ١٩٥٧..
نكروما كان معجباً إعجاباً كبيراً بالزعيم المصري جمال عبد الناصر، وتوّج إعجابه هذا لاحقاً بالاقتران بامرأة مصرية هي فتحية نكروما وأسمى ابنه الأول منها جمال تأسيا بـ ناصر، وإعجاباً بكاريزمته المبهرة..
غير أن موقف نكروما من بناء السد العالي لم يكن مقبولاً لدى مصر بسبب برقية أرسلها لمدير منظمة اليونيسكو، يحثه فيها -بلهجة قاسية- على القيام بما تفرضه عليه مسؤوليته عن حماية مناطق النوبة جنوبي السد، وإنقاذ تراثها الإنساني. قال نكروما في برقيته، إن المياه إذا غمرت تلك المناطق فإن حلقة مهمة من تاريخ أفريقيا القديم ستفقد وإلى الأبد.
ومنذئذ، بدأ الفتور يعتري علاقة الصداقة الحميمة التي جمعت بين الرجلين..
رجل المخابرات الأول في أمريكا ألان فوستر دلاس حاول مراراً استمالة عبد الناصر وإغرائه بالمال لينأى بنفسه عما يتبناه من حياد إيجابي، لأن ذلك في رأي أمريكا موقف غير أخلاقي: بمعنى أنك إما معي أو ضدي، ليس من منطقة رمادية في عُرفنا..
دفعت أمريكا لـ ناصر ثلاثة ملايين دولار نقداً وظفها لإنشاء برج القاهرة، وعشرين مليون دولار كمساعدات عينية وعسكرية، إلى جانب التزام أمريكا بتمويل السد العالي بدون تحفظ..
ماذا تعني عبارة بدون تحفظ هنا، إن قرئت مقرونة ببرقية نكروما شديدة اللهجة لليونيسكو؟
تُرى هل تعني تغاضي أمريكا عن الأصوات المعارضة لبناء السد، بل وتجاهلها، مهما كانت مبرراتها لحماية التراث الإنساني الموجود في جنوبي موقع السد؟
هل تعني ممارسة أمريكا ضغطاً على اليونيسكو لتحول دون إنقاذ ما أسماه نكروما الحلقة المهمة في تاريخ إنسان أفريقيا؟
عبد الناصر لم تٌثنهِ الإغراءات الأمريكية عن تخليه عن حياديته في عالم تغلي مرجلَه حرباً باردة تتنامى حدتُها يوماً وراء يوم..
فأوعز رجل المخابرات المهيب لرئيسه ايزينهاور بضرورة تخلي أمريكا عن وعدها لناصر بتمويل بناء المشروع الحلم لمصر..
تنصّلت أمريكا عن التزاماتها تجاه مشروع السد، ما حدا ناصر إلى التوجه للاتحاد السوفيتي..
استثمر نيكينا خروتشوف الفرصة التي واتتْه من حيث لا يدري، في وقت كانت الحرب الباردة بين القوتين العظميين تتعاظم درجةُ حرارتها بشكل لافت..
وافق الزعيم السوفيتي على تمويل السد..
قام السد وغمرت المياه ما كان نكروما يبدي تخوفه حياله:
الحلقة المهمة في تاريخ إنسان أفريقيا
قبل اشتعال ثورة أكتوبر العظيمة بنحو خمسة أشهر، نقلت لنا الصحف السودانية على صدر صفحاتها، نبأ افتتاح السد. ونشرت صوراً لـ نيكيتا خرتشوف في لقطة جمعته بـ ناصر و عبد السلام عارف رئيس مجلس قيادة الثورة في العراق و عبد الله السلال رئيس مجلس قيادة الثورة في اليمن. ولكنها (أي اللقطة) خلت من أي وجود للرئيس السوداني عبود ضمن المحتفين، رغم أنه الشريك الأهم لمصر في مشروعها.
فتساءل الشعب السوداني:
لِمَ تغيب عبود عن الاحتفال بالمشروع الذي هندسه المصريون، وبلع هو طُعمه المر بعد فوات الأوان؟
قال البريطاني Tom Little مؤلف كتاب:
High Dam at Aswan: The Subjugation of the Nile
أي ترويض النيل وإخضاعه لارادة الإنسان.
إن عبود لم يكن بين المحتفين بحجة ارتباطه مسبقاً بزيارات إلى دول آسيوية، منها الصين.
هل يا ترى كان ذلك هو السبب الذي حال دون مشاركة عبود في الاحتفال بالمشروع الذي محا ما كان يقيم الدليل القاطع على تفوق الحضارة النوبية على الحضارة الفرعونية في مصر؟ كما يؤكد ذلك وبشدة، خبير الآثار الفرنسي شارل بونيه ولمّح إلى أهميته نكروما في برقيته لليونيسكو؟
على أن التقارير التي صدرت لاحقاً في السودان، عزت امتعاض حكومة عبود من قيام السد، إلى تنصّلِ حكومة ناصر من الالتزام بتمويل تهجير النوبة من ديارهم.
هجّرت حكومة عبود بعض سكان القرى المتأثرة بالسد إلى شرق السودان، وبقي آخرون رمزاً لتمسك الإنسان بأرضه وما زالوا..
وعن هؤلاء الصامدين، جاءت رواية باللغة الإنجليزية على لسان أحد أبناء المحس كأحسن ما يكون وصف مأساة الإنسان المهجّر قسراً عن أرضه..
جمال محجوب روائي سوداني يكتب بالإنجليزية ويقيم في هولندا، صدرت له نحو ثمان روايات، كلها عن السودان الذي قضى فيه جزءاً من حياته، وتلقى تعليمه حتى المرحلة الثانوية في مدارس كمبوني، قبل التحاقه بوالدته البريطانية ليكمل دراسته الجامعية في بريطانيا، حيث درس الجيولوجيا، ونال شهادة الماجستير فيها، ولكنه إلى الأدب كان أميل..
الرواية التي وصف فيها مأساة تهجير النوبة جاءت بعنوان:
The Nubian Indigo
أي النيلة النوبية..
والنيلة نبات كان يستخدمه الأقدمون في صبغ الثياب، إذ يتحول لون النبتة بعد غليها إلى اللون الأزرق..
والأزرق إلى وقت قريب كان يرمز إلى الحزن في بلاد النوبة، ومنها تسرب المفهوم عبر الحدود شمالاً، حيث كثيرا ما نسمع عبارة “جتك نيلة” أي إنها دعاء بأن يصيبك ما يحزنك.
من المأمول أن أترجم هذه الرواية القيّمة إلى العربية- إن كان في العمر بقية- بعد أن أستشيرَ صاحبَها جمال محجوب عن رغبته في ترجمتها..