سرديات…/ الزاكي عبدالحميد أحمد
“نحن وحيدتان.. ليس لنا أهل ولا مال ولا احترام.. كل النساء اللائي يعانقنني يضمرن لي احتقاراً.. نحن المتناسلون من اللامكان في قرية تتفاخر بالأنساب.. لا أحد يحترمنا إلا بمقدار ما يحتاجون منا، وما نُظهِر لهم من طاعة وأدب.. أنتِ لستِ بنت البدري، ولا من بيت الناير.. ولا أبوك صاحب أطيان.. أنتِ بنت فايت نِدُّو”.
انكبتِ الأُمُّ على إعداد الشاي والجَبَنة لزوارها الكثر، في ظل عريشة على ضفاف النيل، في تلك القرية النائية في شمال السودان، وهي تواسي ابنتَها في محنتها، وترسم لها مستقبلاً قاتماً.. هكذا تخيل المشهد المبدع حمور زيادة في روايته التي صدرت بعنوان (الغرق).
والإبداع ليس تخيلاً صرفاً أو وهماً، بل هو تفكير جاد، تحكمه قواعد المنطق، وصولاً إلى الجديد الذي يغدو مصدراً لتحولات هادفة..
– كم معلقة سكر يا أستاذة؟
هذا الأستاذ أبو طالب، الناقد المعروف في مركز عبدالكريم ميرغني الثقافي، يسأل ضيفتَهم العالِمة الفرنسية، وهو يعد كوب شاي لها..
– ملعقة ونص لو سمحت.
تردُّ عليه الضيفة، ثم تسألني: شربتَ شاي عند أميرة؟
لو ما شربت شاي عندها نص عمرك ضايع..
بلكْنة عربية سودانية مستعذبة، تعاتبني هذه العالِمة الفرنسية على عدم معرفتي بأفضل ست شاي سودانية تبيع الشاي بالحليب مع الزلابية..
كنا مجموعة من الزملاء التقيناها في مركز عبدالكريم ميرغني الثقافي، في أمسية الأول من يناير هذا العام (أمس الأول؛ الأحد الأول من يناير) بدعوة كريمة من المركز، لحضور حوار مع هذه العالِمة الفرنسية.. استغربتْ السيدة من عدم سماعي بأميرة ست الشاي.. فسألتُها:
– وين قاعدة أميرة دي؟
-في العمارات، شارع ١٥. شربت شاي في أماكن كتيرة في بلدان كتيرة، لكن شاي أميرة ما في ألذ منه. الشاي في أي مكان هو هو.. الحليب هو هو.. السكر هو هو.. لكن الشاي لدى هذه السيدة يختلف.. أقول لك بأمانة: إن الشاي هو مشروبي المفضل.. الشاي الذي شربتُه مع الزلابية عند هذه السيدة جعلني أتذوق نكهتَه بشكل مختلف، ربما كان هو أفضل كوب شاي شربتُه في حياتي..
هكذا حضّتْني الدكتورة مارتشيلا روبينو، أستاذة الأدب العربي في جامعة أنكا الفرنسية، على تناول الشاي لدى أميرة، لأحكم على ما قالت، بنفسي.. زائرة لم تقض في السودان سوى أيام معدودات، وأراها ترشدني إلى أماكن في بلدي أجهلها.. وا عجبي.
تحترف هذه السيدة الترجمة من العربية إلى الفرنسية، وقالت إنها ترجمت رواية (الغرق) لحمور زيادة، والتي فازت بـ جائزة الأدب العربي في فرنسا..
سألتُها:
– ما الذي دفعك لترجمة هذه الرواية دون سواها؟
قالت:
– حقيقة لم يكن القارئ الفرنسي يعرف شيئاً عن الأدب السوداني إلا مؤخراً.. تُرجِمت رواية الطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال) في نهاية التسعينيات، وهي التي لفتت انتباه القراء في فرنسا إلى الأدب السوداني.. لذلك اكتفى سوق الأدب الفرنسي بما ينتجه الطيب صالح فقط.. وحتى ذلك تحقق مؤخراً.. أما أن تحاول إقناع دار نشر في فرنسا لتمويل رواية سودانية لغير الطيب صالح أو عبدالعزيز بركة ساكن، فذلك ضرب من المحال..
أعمال كثيرة لروائيين من لبنان وسوريا والجزائر وتونس والمغرب تغزو سوق الأدب الفرنسي، ولكن وجود الأدب السوداني ضئيل، بل ضئيل جداً..
سألتُها..
– ما السبب في ذلك؟
قالت:
– كان المترجمون يقولون إن اللغة العربية في السودان (الدارجة) صعبة، وغير مفهومة.. لكن ذلك محض هراء.. اللهجة السودانية (وهي في الغالب تأتي في متن الرواية أحياناً) هي الأقرب للعربية الفصحى، باستثناء بعض المفردات من اللهجة الدارفورية، وحتى لهجة دارفور تمكّن زميلي الدكتور أكزافيا لوفان (أستاذ الأدب العربي بجامعة بروكسل الحرة)، من التعامل معها بحرفية عالية، حيث ترجم لبركة ساكن (الجنقو مسامير الأرض)، والتي فازت بجائزة الطيب صالح للرواية من قبل، و(مسيح دارفور) و(سمهاني)..
القارئ الفرنسي الآن أصبح أكثر تقبلاً للأدب السوداني بعد نشر روايات لأحمد الملك (الخريف يأتي مع صفاء)، وأمير تاج السر (العطر الفرنسي)، وقصص لاستيلا قاتيانو، وآخرين..
الآن، وبعد فوز رواية حمور زيادة، بجائزة الأدب العربي، نأمل أن يكون الوضع أفضل.. دور النشر في أوروبا تنظر للأدب -مع الأسف- من منظور مادي.. لذلك الروائي غير المعروف يكون الحظ في قبول روايته للنشر في أوروبا محدوداً للغاية.. ولكن مع ذلك لن أدخر جهداً في نشر أعمال لشباب سودانيين، ليس في باريس وحدها، وإنما في إيطاليا كذلك.. الرحلة ليست سهلة، ولكننا في النهاية سننجح في العبور.. هناك روايات سودانية تستحق النشر، هي جديرة بالاحتفاء.. قضايا تناولها بعض الروائيين في تونس والمغرب مثلاً، ولكننا في السودان نجد نفس القضايا تناقش بأسلوب ممتع وأفكار مختلفة تدهش القراء.. لكن كيف الوصول إليهم؟ دور النشر تكتفي بنشر روايات لأسماء معروفة.. لذلك الطريق ليس سهلاً، لكننا واثقون من العبور. ففي سياق التعريف بالأدب السوداني، تمكّنا في مركز الأدب العربي في باريس من دعوة مبدعين سودانيين ليتحدثوا عن تجاربهم الروائية.. استيلا قايتانو أذهلت الحضور بلغتها الرفيعة، حين لبت دعوتنا.. وُجّهت الدعوة أيضاً للدكتورة لمياء شمت، لتحدث الناس هناك عن الأدب السوداني.. شيئاً فشيئاً الأمور تسير في صالحنا..
وواصلت د. مارتشيلا حديثَها عن السبب في اختيارها رواية الغرق لترجمتها إلى الفرنسية قائلة:
– أدهشتني الفكرة التي طرحها الكاتب حول قهر النساء.. فكرة القهر التي عالجها حمور في روايته غير مطروقة في فرنسا، ما جعل الناشر لا يتردد كثيراً في قبولها، رغم أن اسم حمور غير معروف في فرنسا.. إنها رواية جميلة، وها هي تفوز بجائزة الأدب العربي.. وجدت أن فكرة قهر النساء في رواية (الغرق) مذهلة…
إن رواية (الغرق)، والتي غيرت المترجِمة الدكتورة مارتشيلا عنوانها في النسخة الفرنسية إلى (غريقات في النيل) بسبب انبهار القارئ الفرنسي بالنيل والغموض الذي ظل يلفه منذ قديم الزمان، كانبهاره بالغرائبي من الأمور.. تتحدث عن القهر الذي تتعرض له شريحة من نساء السودان، لا سيما أولئك اللائي عملن كخادمات أو إماء عند العمد أو المشايخ..
تدور أحداث الرواية في بلدة حجر نارتي (وتعني بالنوبية جزيرة الحجر) قرية متَخيّلة في شمال السودان..
النساء هنا مقهورات لا لشيء سوى أنهن نساء..
وبعد أن مُنعتْ تجارة الرق، بمجيء الإنجليز، ظلت الخادمات والإماء حبيسات لهذه النظرة الاجتماعية الظالمة.. يلهو بهن رجال القرية كيف شاءوا، وتعنفهن نساؤهم بأقسى العبارات كيف شئن..
إنه مجتمع قاس يقهر هؤلاء النسوة، ولكن حتى الرجال نجدهم مقهورين، لأن الأسرة هي التي تتحكم في مصائرهم، بمعنى ألا قرار للفرد هنا..
المرأة التي تفلت من هذا القهر والشعور بالدونية تكون نجاتُها -و يا للمفارقة- في الغرق.
(فايِتْ نِدُّو) واحدة من الشخصيات الرئيسية في الرواية، بل ربما هي الأهم من حيث مجريات الأحداث في حجر نارتي..
امرأة مقهورة.. حتى اسمها اسم ذكوري؛ (فايت ندو) يعني الرجل الذي يبز أقرانَه.. ولكنه اسم اختير لهذه الشخصية النسوية عن قصد..
(فايت نِدُّو)، أمُّها كانت تعمل في صناعة الخمور البلدية، تروي عطش الرجال متى شاءوا. لذلك أنجبت عشرين طفلاً لمئات الآباء، كلهم ماتوا.. ونجت (فايت ندو) وأختُها وأخٌ هرب من القرية لارتكاب خطيئة، كما قالوا..
(فايت ندو) نفسُها وقعت في مأساة أمها، حين أنجبت ابنتها (عبير).. تتطلع الأم فايت ندو لمستقبل أفضل لبنتها، وتريد أن تلحقها بالمدرسة حتى تصبح ذات يوم طبيبة.. لكن القهر المجتمعي والصراع القبلي يلقي بالطفلة (عبير) إلى ذات النهاية، فتصير أماً وهي في الثالثة عشر من عمرها، دون زواج..
(فايت ندو) تدير مقهاها المتواضع على ضفاف النيل، وهنا يأتي الرجال من كل صوب وحدب.. يتسامرون.. ينظّرون في السياسة كيف شاءوا ويقهقهون.. ثم فجأة يأتيهم أحدُهم من بعيد صائحاً: -جنازة بحر.. جنازة بحر.. وجد أهل القرية إنها لامرأة ناضجة، ولكن لا أحد يعرفها.. دفنوها كإنسانة مجهولة الهوية..
(الحاجة الرضية)، حارسة الفضيلة في القرية هي التي تتحكم في مصائر هؤلاء المقهورات؛ إنها تكره الإماء وتلدَغهم بلسانها كما الأفعى..
حمِلتْ (فايت ندو)، وأعدت عُدتها لتضع جنينها في حجر نارتي، ولكن تنبري لها الحاجة الرضية، وتهددها بالقتل إن هي أقدمت على ذلك.. يتدخل الأجاويد، فتسمح الرضية لها بوضع حملها، ولكن ليس في حجر نارتي، بل في قرية أخرى.
تعود (فايت ندو) إلى حجر نارتي بطفلتها، وأرادت أن تسميها (شاهيناز) على ابنة أخت (الحاجة الرضية).. كادت هذه أن تأكل (فايت ندو) بأسنانها، كيف تجرؤ على أن تسمي ابنتها باسم ابنة أختها؟
هذا تطاول يستوجب القتل.. تدخلت زوجة العمدة، وحالت دون مقتل (فايت ندو)، بسبب جرأتها على اختيار اسم لا يحق أن تتسمى به هي أو إحدى بناتها به.. هذا الاسم ليس لهن..
تترك التعيسة اسم (شاهيناز) وتسمي ابنتها (عبير)..
هكذا يسرد حمور زيادة روايته بأسلوب سلس، محللاً القهر النسوي من منظوره..
الأكاديمية الفرنسية المتحمسة لإيجاد موطئ قدم للأدب السوداني في فرنسا وإيطاليا، استطاعت خلال أيام أن تتعرف على بعض تفاصيل الحياة السودانية. تارة بالجلوس مع أميرة بائعة الشاي، وتارة بالذهاب إلى أماكن مختلفة للحديث مع أكاديميين في جامعة الخرطوم وجامعة السودان وجامعة شندي، أو من خلال الحديث مع الصيادين في جبل أولياء..
ثم ودعتنا الزائرة، وهي تتأبط مجموعة من الروايات التي فازت بجائزة الطيب صالح، عسى أن تُحظى بقبول لدى دور النشر والتي، كما نعلم، تكون عينها لا على الفحوى وإنما على المردود المالي الذي تحققه الرواية إذا نشرت..
هل ستنجح هذه الأكاديمية العاشقة للسودان وأهله في مسعاها المحفوف بتحديات التمويل في دور النشر الفرنسية والإيطالية؟
نأمل ذلك..