الرأي

سخرية 1

سارة الجاك

لسان وشفتان يرددان لحن الجحيم بصوت فحيحي، أذنان ترقصان رقصة الألم، على اللحن الفحيحي، الذي يتردد على اللسان والشفتان، أنف يسنشق عطن جثث الموتى ورائحة الدم، عينان جاحظتان ترسلان دمعا أحمر، أسفا وندما تمسحه يدان يحيطهم وجه نجمي، اليدان مغموستان في بحر دماء، كلهم داخل النقطة التي تتقاطع فيها أقطار مثلث برمودة، جميعهم يتلاومون ويسبون التابوت، التابوت على الشاطئ ضحك ضحكته الأخيرة، قبل أن تتفكك أجزاءوه، راسمة نجمة خماسية بريئة من نجمتهم، سخرت منهم النجمة قبل صعودها إلى السماء، وأختارت مكانا يمكنها من مراقبتهم، أصبحت كل مساء تأتي وتضحك على ما آلوا إليه ناغمة عليهم،

سألتها صديقاتها النجمات خماسيات الرؤوس، اللائي رحبن بها وأحطنها برعايتهن، عن تاريخ مولدها ومكانه، وعن إختيارها لهذا البرج بالذات، دونا عن بقية بروج السماء لتسكن فيه، حكت لهم حكايتها وعن مكان وتاريخ ميلادها قالت: كنت الشجرة التي قطعت لأجل أخذ أخشابي لصناعة تابوت، حزنت لمآلي بين يديه، فأنا أعرف كل أسراره وأحلامه وأشواقه الشريرة التي ينوي القيام بها، أنا التي ظللت والده وصديقه، الذي زرعني ورعاني ورباني مذ كان يافعا، وكنت ما أزال نبتة

أهداه إياي معلمه النجار العجوز قال له حينها: الأشجار كريمة تمنحنا أخشابها لننتفع بها، لكنها تمسك روحها ولا تهبك إياها، فكن رحيما على الأخشاب حتى لا تؤذي روح الأشجار.

وجوه نجمية سداسيةـ، ذات ملامح باهتة؛ تؤدي حركات غريبة؛ يتتابع ظهورها برتابة؛ على إيقاع فحيحي كئيب.

مات النجار العجوز، عكف هو على شجرته يرعاها بالسقيا والنظافة والتشذيب، ويرعى مهنته بالتطوير والتعلم والممارسة حتى اشتد عوده وعودها، علم تحت ظلها كثيرا من النجاريين حديثي الخبرة، كان ابنه من أمهر تلامذته، لكنه قليل الكلام ثاقب النظرات، قائم الأنف، يحب الوحدة، وقلما يخالط زملائه، في يوم من الأيام وعندما كان الأب يعلمهم بعض الخطوات للتعامل مع الأخشاب، حكى لهم عن العناية بها قبل العمل عليها، ابتسمت الشجرة من وفاء صديقها، وتذكرت العجوز الذي أهداها للنجار الأب، تواصلت عملية التعلم، إلا أن الولد كان يتعامل بصلف مع الأخشاب، و يعتبرها من الجمادات الصلدة، ويتحكم في تشكيلها كما يحب، لكن رغم كل الذي تعلمه من والده، إلا أن بعض التشكيلات استعصت عليه، فسأل والده وهو مكفهر الوجه عن معاندة الأخشاب له وعدم انصياعها لأدواته ليشكلها كما يتمنى.

كانت الشمس قد جلست على عرشها في كبد السماء، واشتد الحر على النجار وتلامذته، فوهبهم فسحة من الوقت ليتسامروا مع بعضهم، ويشربوا كوبا من الشاي، وليعودوا إلى العمل مرة أخرى عند العصر، طلب النجار من ابنه أن يعد لهم الشاي، لكن الابن تظاهر بعدم سماعه لوالده، الذي قام  بطلب إعداد الشاي من تلميذ آخر، فهب مسرعا لتلبية طلب معلمه، انتبذ الابن مكانا قصيا تحت ظل الشجرة، بعيدا عن أبيه وتلامذته، إلا أن الأب حمل كوبه وكوب ابنه وقصده في مكانه القصي، ابتسم قبل أن يلقي عليه السلام، فرد الولد بتأفف،

ابتسم الأب وقال له سألتني قبل قليل عن معاندة الأخشاب لك، وعدم انصياعها لأدواتك، أجاب الولد بتزمر “نعم”، الأب: “سأسالك وعليك أن تجيبني قبل أن أخبرك بما تريد”. زاد الولد من تزمره وهو ينظر إلى أبيه بنفاذ صبر: “هل ابتسمت حين وصلت إلى مكان عملك؟” قال الولد: “لا”، “هل مسحت على القطعة الخشبية قبل أن تضعها على منضدة العمل؟” قال: “لا”، “هل استأذنتها قبل أن تعمل أدواتك عليها؟”،

قال: “لا” “إذن لن تستجيب لك وستستعص عليك”، وأخبره بحكمة معلمه العجوز

“الأشجار كريمة تمنحنا أخشابها لننتفع بها، لكنها تمسك روحها، ولا تهبك إياها، فكن رحيما على الأخشاب حتى لا تؤذي روح الأشجار”، فهم الولد سر نجاح والده، لكنه استثقل نصيحته، ولكن لا مفر له من العمل بها، ومن يومها صار يبتسم عندما يصل إلى مكان عمله، يسلم على الأخشاب، يمسح بحنو على القطعة الخشبية التي يريد تشكيلها، يستأذنها قبل إعمال أدواته عليها، أطاعته الأخشاب، صار ماهرا، يقصده الزبائن من الفيافي البعيدة، صار له أتباع وعمال يأتمرون بأمره وينتهون بنواهيه، زاده ذلك تيها وغرورا، وجوه نجمية سداسية الرؤوس، ذات ملامح باهتة تؤدي حركات غريبة، يتتابع ظهورها برتابة على إيقاع فحيحي كئيب.

في صباح يوم من الأيام، سمعوا صوت صهيل خيول، جلبة كبيرة وخطوات تئن الأرض تحتها من قوتها، سحابة من الضباب والتراب حالت دون تبينهم لما خلفها، محتارين ينظرون إلى المجهول الذي يريدهم، حتى غطاهم ترابها كحوا جميعا وعطسوا، قبل أن يبصروا حاشية ملكية تقف أمامهم بكل هيبتها وجلالها، فتح باب العربة التي تجرها الأحصنة، نزل منها وزير ملك مملكتهم، كان له كرش كبيرة يرتدي ملابس ملونة بالذهب والفضة، بدا كمهرج في سيرك كبير، يمشي بزهو وصلف، سلم عليهم بصوت جهور وقال: “الملك يريد تعين نجار للقصر، وله شرط واحد، ألا يكون له مثيل في المهارة، على امتداد أرض المملكة والممالك المجاورة” قال الولد للوزير: “أنا أمهر نجار في المملكة ولا مثيل لي” الوزير: “لو وجد لك الملك مثيلا سيقتلك النجار الماهر: “لن يجد لي مثيلا” الوزير: “إذن فسأكتب اسمك في القائمة، وهمس له في أذنه يمكنني مساعدتك” النجار الماهر: “كيف!” الوزير: “سأعطيك قائمة كل النجاريين المسجليين لدي في القائمة”، توأمت كيمياء الوزير وكيمياء النجار الماهر، بينما نفرت منهما كيمياء النجار الأب وصديقته الشجرة التي سمعت همس الوزير النجار للابن، النجار الماهر: “ماذا أفعل بهم” الوزير: “أقتلهم وتعال لتكون ذراعي اليمين في القصر، لكن دون أن تتلطخ يديك بدماءهم”، قال ذلك هامسا، ثم عوى بصوت عال ملفتا الجميع، “سانتظرك العام القادم في مثل هذا الوقت”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى