الرأي

رُوزنامة الاسبوع.. إعداد- كمال الجزولي

ضيف على الرُوزنامة
جَمَال محمَّد إبراهيم
(سفير وروائي ونائب رئيس اتِّحاد الكتَّاب الأسبق)
بين الرُّوْزْنَامَة وَالسَّرْدْنَامَة!
الإثنين
جِـئـتُ إلى هَـذه الدَّار- دار الرّوْزنَامَة – زائراً، والزّائرُ يَطرقَ بابَ الدَّار حتّى يُؤذَنَ لَهُ. دلَّتني لافِـتةٌ حَملـتْ إسـمّ صاحِب الدّار، فطرقـتُ بابَه مُطمئنا أنّي اهتديتُ دوْنَ تردّدٍ إلى صاحبهِ، أخي وصديقي كمال الجزولي. تعليقُ لافتةٍ بإسمِ صاحب الدّار، تقليدٌ سادَ في غابرِ أيّام أم درمان، وشبيهاتها من المُدنِ الأخرَى في مختلفِ أنحاءِ البلاد. شاعتْ لأم درمان صِفَةٌ قديْمةٌ لا أستسيْقها: “كَرش الفيْل”، لكوْنِها الأكثر سُكّاناً مِن بيْن المُدن الثلاث التي تُشكّلَ “العاصِمة المُثلثة”، وتلك الصِّفةُ العددية، تلاشتْ بَل اندثرَتْ تماما، بعد أنْ الهانا التكاثرُ، وَتضاعفَ عَددُ ساكنيها، فتمدّدت شمالاً وجنوْباً وغرباً، حتّى أطراف كُردفان! صـارَ لِزاماً تعليق لافتةٍ تحمـل اسـمَ صاحِبِ الدّارِ، فيتعـرّفَ إليه زوَّاره وجيرانُه.
أمّا وقد طرأ على البلاد نظامٌ حكمَ الناس بشرعةِ قراقوش، والذي أحسبه يتململ في قبره البعيد، إنْ شبَّهنا نظامَ حكمِهِ بذلك النِّظام الذي جَثمَ ثلاثينَ عاما على صدوْر، وَعقولِ، وأجسَادِ السودانيين، وأذاقهُم ذُلّ المُلاحَقةِ، والاختطافِ، وَالجلدِ، وتعليقِ الأبرياءِ، وَدقِّ الأسافين في الرؤوسِ، وفي بقيةِ أطراف الجسد، فإنّ العاقل، خلال حقبةِ أولئك الّذين لا نعرف مِن أينَ أتوْا، لن يُعلّقَ لافتةً عليها إسـمُهُ، على بابِ دارهِ، فينقضَّ عليهِ جلاوزةُ ذلك النّظام، ليصيّـروه شبَحاً يتلذّذونَ بتعذيبهِ في بيوتهم! لا أظنّ قراقوش يقبلَ التشبيهَ، فهْوَ ملاكٌ ذو ضميرٍ، ولا يُقارَن بأبالِـِسَةِ وَعلوْجِ “الإنقـاذ”، مِمّن نُزِعَتْ عنهُمُ الضمائرُ نزعاً. لا أرَى عاقِـلاً يَكْـتـب إسمَه ويعلقهُ لافتةً على بابِ داره في زَمَـنِ “الإنقـاذ” .. وحدهُم المــوْتي، مَن تُعلّق أسْـماؤهُم على شــواهِدِهم!
أما صديقي كمال الجزولي فلهُ دارٌ افتراضيةٌ، لا تثريبَ إنْ علّق لافتة مزركشةًً برّاقةً على بابها، بإسـم “الرّوْزنامة”، وإنّي معجب كُلّ الإعجابِ بلافتته الزاهية هذي. لا أجزم إنْ كان صديقي قد سَـعَى لتمحيْصِ الإسم، أو للتحَرّي عَن أصوله، مُنذَ شروعِه في جمع ونشر روْزناميَّاتهِ في مجلدات، قبلَ زهاء ربع القرن، حيث صدرت منها، حتَّى الآن، المجلد الأوَّل عام 2007، ثمّ المجلد الثاني عام 2013.
كلمة “روزْنامَة” تتركَّب، في الأصلِ الفارسِي، مِن كلمتين: مضافٌ ومضافٌ إليهِ، وتكتب: روْز ناماه، وَيقرأها أهلُ فارس “روْز” وتعني كلمة يوم، و”نامِه” وتعني الصحيْفة، أو الدفتر، أو الكتاب، غيرَ أنّ دخولها على اللغةِ العربيةِ حوَّلهَا كلمةً واحدةً، فتمَّ استعربُها. قياساً على ذلك، إنْ عرَفتَ كِتابَ “الشّاهنامَه” للفِردَوْسِي، سَتجدَ العنوانَ مِنْ كلمتين: مُضافٌ ومُضافٌ إليهِ: شاه نامِه ويُنرجمَ: “كِتابُ عُظماءِ المُلوْك”. صارتْ الرّوْزنامَة (بالتاءِ المربوطة ، لا بإمالةِ الميْم، كمَا ينطقها أهلُ فارس) أقربَ إلى مَعنَى “دَفـتـر اليوميَّات”، أو إنْ شئتَ، سَمّها “اليوميَّـات المُدَفتـرَة” .. ولكلمةِ “دفاتـر” مَحبّة خاصّة عندي ، فأنا اعتمدت الكتابة الدفترية نهْجاُ، نَسَجتُ من خيوطهِ وقائعَ وأحداثَ أبطال رواياتي. وأوّلاها «دفاتِر كمـبالا»، والتي وقف صديقي كمال صاحب الرّوْزنامَة، مُعجباً بهَا أيّما إعجاب، وَلِي أنْ أروّجُ لها، وأنا في رحابِ روْزنامتِهِ، كون طبعـتُها الثانية قـيْـدَ الإعـداد، ولكَ، إن رأيت، أنْ تُسمّي رواياتي “سَـرْد نامة”.

الثلاثاء
فـيْمـَا الدُّخان آخِـذٌ في التَّصاعد على حدودِنا الشّـرقية، دُخاناً حقيقياً لا مَجَازاً، ومليشـياتٌ وَمُزارعون أثيوبيون يقاومون الانتشارَ السُّوداني داخل حدودنا اَّلدولية، تثور، على نحوٍّ مُفاجيء، زوْبَعةٌ حولَ مَا ادّعـتهُ مُذكِّرةٌ مصرية، حاولتْ أمانةُ الاتحاد الأفريقي في أديس أبابا أنْ تتنَصّل مِنْ مَسئوليةِ تعميْمِهَا على الدُّولِ الأعضاءِ في الاتحاد. لا يعنيني التحاجُج القانوني، بل أكثر مَا يعنيني هُوَ التزامُنُ المُريْبُ، بينَ سعي أطرافٍ إثيوبيةٍ للتصعيدِ مَع السُّودان حول تبعيَّةِ مَنطقةِ “الفـشقة” السُّودانية الحدودية، وبين التعميم المُريْب الذي يشكِّك حوْلَ تبعيةِ “حَلايـب” للسُّودان! تتضَـارَبَ التصـريحاتُ، وتُطلق، مِمّن يتنصَّل، ومِمّن يتنكَّر، ومِمّن يتشاطر! إبّان تلك التقاطعات، يُبادِر الاتحادُ الأفريقيُّ بابتعاثِ مَبعوثِهِ البروْف مُحمّد الحَسَن وِلْد لـبّات، وَهوَ القريبُ مِن القيادات السياسية في البلدين ، وما اختيْرَ إلّا لِبذلِهِ المَشهوْدِ بصحْبةِ الوَسَـاطةِ الإثيوبيةِ، في إخراجِ التوافُـق السُّوداني الذي أنجَبَ مؤسَّـسات الفترةِ الإنتقاليّةِ الحاليّة في السُّودان .. بعدَ ولادةٍ قيْصَـريّة!
يتساءَل أكثـرُ المُراقبين براءَةً عَـمّن يَرغَـبُ في شَـغْـلِ أنظارِ السُّودان بملفِ “حـلايب” الذي بقيَتْ شـكْوَى بلادنا الرَّسميّة حوْله مُعلّقة، بمجلس الأمن، منذ عام 1958، وَتُجدَّد بصورةٍ روتينية في فبراير من كلِّ عام! لكن السُّؤال: من تراه يناور لإنْهاكِ الحكوْمةِ الانتقاليّةِ في الخرطوم، بمَا يُضعف تركيزَها على تسويةِ ملفاتِها الأشَـدّ سخونةً، في هذه الآونة، سواءً المَلـفّ الحدوْديّ، أوْ مَلـفّ “سَـدِّ النّهضةِ”، وَهُـمَا ملفّان يَغليان فوق نيرانِِ التّصعـيْد؟!
السُّودان الذي غـيَّبهُ الإسلامَويّوْن الإنقاذيوْن عقوْداً طويْلة عَـنْ المُجتمعِ الدّولي في حاجَة ماسة، الآن، لدبلوْمَاسيّةٍ ذكيّةٍ، تتولّى التنسيْقَ داخليّاً، والمُتابعةَ خارجيّاً، لتعيْدَهُ إلى المُجتمعِ الدَّولي، بعـيوْنٍ مَفتوْحَـة تَرصُـد، وَبصوْتٍ واثق يُسمَع، وبحَسْمٍ جادٍ يُهَاب .. لتكـوْنُ «المَنصوْرةُ» بنتَ أبيها عَـنْ حَـقّ!

الأربعــاء
لمارس بشرياته بربيعٍ زاهٍ كلَّ عام. على أننا نتذكّر في الثالثِ مِنهُ، عِـيْـداً خاصاً بنا، تغنَّى لهُ المُطربون: “3 مارس عـيـد”!
أجَلْ .. تعوْد إلى الذّاكرةِ، في هذا اليوْم، ذِكرَى اتفـاقٍ تارِيخيٍّ أوْقَـفَ الحَرْبَ الأهليّة الأولى بين شمال السُّودان وَجنوبه، وَهوَ اتفاقٌ يَكـاد يبلغ، الآن، حَـوافِ النَّسيان، بعد أن شَكّل تجربةً حفظها التّاريخُ الوطنيُّ لمسْعَىً أنهَى قِتالاً أهليّاً دامَ سبعة عشر عاماً. كثيرٌ مِن المُراقِبين يأخذون على ذلك الاتفاقِ أنّهُ خَلا مِن استصحَابِ إرادة الشّعب، فبقيَ فوقياً. أما النظامُ الذي كان مسيْطراً على الشّمال، آنذاك، فقد استسهَل نَقْضَ غزْله، بعدَ أقلَّ مِن عقدٍ مِن الزَّمان، ليصير 3 مارس مأتمَاً .. لا عيْداً! دارتْ الحرب الأهليَّة، إثرَ ذلك، مُجدَّداً، عام 1983. وفي 2005 أوقفَتْ “نيْفاشا” جولة القتال الثانية. غير أنّها، وإنْ استصحَبَتْ إرادة الشّعب هذه المرّة، أقرَّت استفتاءً التبسَتْ حوله نوايا الخرطوم، فأفضَى إلى انفصال الجَّنوب عن الشَّمال، حيث استقلَّ الأوَّل بدولتهِ استقلالاً كامِلاً.
أقفُ طويْلاً على تجرِبةٍ شبيْهةٍ في قارَّة آســيا. فحيْنَ أرَى توْقَ شـعبين، في كوريا، لحُلمٍ يوَحّد شطريْهما، وَهُما إلى ساعةِ كِتابتي هذه، في حالِ انفصالٍ عُمْره أكثر مِن سَـبعيْنَ عاما، فإنّي أرى حُلم “السُّودان الجديدِ” قابلاً للتشكّلِ، إنْ خلُصَتْ الإرادةُ، واشتدتْ العزائمُ، فقد يلتقي الشتيتان بعـدَ الظنِّ، كلّ الظنِّ، ألا تلاقـيا .. على قول الشاعر!
أنحَنِي، احتراماً وَتقديرا،ً لرموْزٍ سَـعَتْ لتحقيقِ سَـلامٍ مُسـتدام، مُنذ 3 مارس مِن عام 1972، لا زالَ بعضهم بيننا الآن، أطال اللهُ أعـمارهُم : الجنرال جوزيف لاقو، ومولانا أبيل ألير، وبعضُ نفرٍ آخرين. رحِمَ الله الرّاحِل مَنصوْر خالد عبدالماجِد، فقد حفظَ لهُ التاريْخُ قـدحـاً مُعلّى في صـياغة “3 مارس”.

الخميس
لصَـديقنا الصّحفيّ «اللبناني السّـوداني» الكبير فـؤاد مطـر، قصّةٌ تُحكى مَعَ خارطة مُثلّثِ “حلايب”! وصفُ “اللّبنانيِّ السُّودانيِّ” أطلقهَا عليه الرَّاحلُ محمد أحمد مَحجوْب، ولهُ فـيْهَا استِحقاقٌ يَجعلني، وقَـد اقترَبْتُ منه إبّان فترة عملي سَـفيْراً في بيروْت، أميْلُ لقلب تلكَ الصِّـفةِ، فأبدِلُ عَـقـِبَهَا برأسِـهَا، فأقول لكَ إنّهُ الصّحفي “السُّودانيِّ اللبناني”، إذ لا أعرف صحفـيّاً، في كلِّ بُلدان الشَّرقِ الأوسطِ وشمال أفريقيا، اقتربَ مِن السُّودان، واتّصَلَ بقضاياهُ، وَبسياساتِ أهْـلِهِ، ورموْزِه السياسيّة والاجتماعيّة، بمثلمَا فعلَ فـؤاد مطـر. وربما نشير هنا، بصفة خاصة، إلى كتابه الاستثنائي الذي وَثّق فيهِ لعودة نميري بعد انقلاب 19 يوليو عام 1971م، وَما وقعَ منْ انتقامه من عناصِر الحِزب الشّيوعي السُّوداني، عَـنْوَنَهُ بسـؤاله الاستفساريّ الشَّهير: “الحِزبُ الشّيوعيّ: نحَروْهُ أمْ انْتحَر”؟! وهو العنوان الذي ترَكَ البابَ، ليسَ موارباً فحسب، بل مُشـْرَعاً، لتصْـدُر بعـدَه شِـهاداتٌ وكتابات حول ملابسات تلك الأحداثِ، تواترتْ طيلةَ الأعوامِ التي أعقبَتْ سقوطَ نظامِِ “مايو”!
إستَهلَّ مطر صداقته معَ السُّودان، في عَملهِ الصَّحفي، بتوثيقِهِ لقمَّةِ الّلاءآتِ الثلاث عامَ 1967م. كانتْ تلكَ مَحَطتهُ الأولى في علاقة المَحبّة بينه والسُّودان: البلد والشَّعب والإنسان. وما التقاطه الذكيُّ، لرمزيَّة المشروب السُّوداني المميَّز: “الحِلو .. مُـر”، ليبصر، عبرهُ، “ثُنائيّـةَ التّـنافُـر” التي حكمَتْ طبيعة هذا البلد، ورَسَـمَتْ تاريخَه، كما جُغـرافيتَه، إلّا شاهِداً على عُمقِ معرفته به!
يلتقي النّيلُ الأزرَقُ القادمُ، في اندفاع، مِنْ مُرتفعاتِ إثيوبيا، بالنّيلِ الأبْيَضِ، القادم في تمَهّل، كمَا يمشي الوَجي الوَحِلُ، مِـن أعماقِ أفـريقيا، فيصيران نهْـراً واحِـدا هوَ “النّيل” المُنحدِر إلى مِصْـر. هذان النهران يشكلان مظهراً لِثنائيّةٍ جغرافـيةٍ بيْنَ طبيعةٍ صاخبةٍ، وأخرَى هادئة. وبالمثل نَسجَتْ أقدارُ التاريخ مِـن السُّودان بلداً تتحَكّم في مصائرِهِ السياسيّة دولتان، وفق اتفاقية أسمّياها اتفاقية “الحكم الثنائي”، هيَ ثنائيّة التاريخ وتنافـره. لعلَّ هذه الثنائيّات المُتنافرة هي التي حدَتْ بالصَّحفي الكبير أن يرَى تجليها في ثنائية المدنيّ والعسكريّ، في حالةِ الفترةِ الانتقاليةِ السُّودانيةِ الماثلة!
إضافةً إلى سلسلةِ كتاباتِه عَـن “حلو .. مُرّ السُّودان”، وَضعَ مطر كتاباً، في أبريل 2020، تناوَل فيهِ بالرَّصْـدِ والتّحليل المُعـمّـق، ثورةَ السودانيين على المُتأسْلمين، في التاسع عشر من ديسمبر 2018م، ودكَّ حصون نظامهم، رَسـمياً، بسقوْطِ الطاغية البشـير، في الحادي عشر من أبريل 2019م. وببصيرتِهِ الصّحفيّة الحصيفة، وضعَ عـنواناً لذلك الكتاب: “الحَاكِمُ إذا اسْـتَبَدَّ، والشّعبُ إذا انْتفَضْ”؛ واستكتبَ مطر الإمام الرّاحل وشخصي لوضع مقدمتين لهذا الكِتاب الذي صدر عن «الدّار العربية للعلوم» في بيروت. غيـرَ أنَّ مثلث “حلايب”، وقفَ عقَـبةً دون أنْ تصلّ نسـخ الكتابِ، البالغ حجمه 460 صَفحة تقريباً، مِن القطع الكبير، إلى أيدي القُرَّاء في السُّودان؛ فقـد صَمـَّمَ الناشِرُ غِلافاً مُعبِّراً، برسمِ وَجْهٍ سُـودانيٍّ واحِـدٍ، بمَلامح مُزْدوجَة، مدنيّة وَعَسكريّة، عكَـسَتْ مُعضَـلة التشاكُس بينَ مكوِّني ثورةِ السُّودان. لكنه وَضع خارطة كروكية للسُّودان، في فاتحةِ كلِّ فصلٍ مِن فصولِ الكتابِ، أظهرَت مثلثَ “حلايب” خارجََ حُدوْدِه، وذلك، بالطبع، خطأ النّاشِـرِاللبناني، وهوَ جسيمٌ عـندنا، وإنْ كانَ بحُسْنِ نيّة، وليسَ نتاج مؤامَرة، ومع ذلك حجَـبَ دخوْلَ الكِتابِ إلى السودان!

الجمعة
أكمَلَ صـديقي الواثِق كِميْر، الأكاديمي والنّاشطُ السِّياسيُّ، سلسلة من المقالات الرّصينة، لغةً وإفصاحاً، خصَّصَها لصُحبته الطويْلة مع الرّاحِل المُقـيْم مَنصـوْر خَالِـد. فضَّلتُ أنْ اكتبَ لهُ شـهَادتي عَنْ علاقتي بهما الإثنين، لا عَـن الرَّاحِل مَنصـوْر وَحْـده، وبعثتُ بهَا إليه. وقد حدَّثت فيها، أكثر ما حدّثت، عن صَـديقي الواثـِق، وَعَـنْ حَميميةِ مُرافقته للرّاحِل منصُـوْر، وللرَّاحل الشَّهيد د.”جـون قرنق”، رئيسِ وَمؤسِّسِ «الحرَكة الشَّعبية لِتحـريْرِ السُّودان». تميَّزت كتابة الواثق بكونها خرجَتْ من نطاق الكتابات الرثائية الرّاتبة لتتوسَّـع في رصْــدِ وتوثيقِ تلك المرافقةِ الحَميْمةِ.
كَتبتُ لصَـديقي الواثق شـهادةً ستظهر في كتابه، أقتطـفُ لـكَ طـرَفاً منها كالآتي: (سَيُحدّثكَ صديقي الواثق كِميْر، هُنا، عَـنْ حكاياتِ رِحلـتهِ وَمُرافقته لِمَنصوْر في جـدّتها وطرَافَـتِها، وَبينهُما ثراءُ علاقـةِ الفِكْـرِ، والالتزام بطَرْحٍ الطمُوْح، مِثلما جمعتهُما وَشيْجة المَحَـبّة، معَ الشَّهيدِ الحَاضِـرِ جـوْن قرنـق. يُحَـدّثك الواثقُ لا عَن مَحَاضِـرِ اجتمـاعاتٍ وَجَوْلاتٍ تتّصلَ بِأحْـوالِ السُّودان فَحَـسْب، بَلْ عَن التفَاصيْل الصغيرة : هنالك القفشاتُ والسَّخريات، المُنَاكَفاتُ والمَتاعِب، الضَّحِكُ وَالابْتسَام، الآسياتُ والمُبكيَات، النّفُورُ مِن الجُلبابِ وَالحِرْصُ على اخْتيارِ رَبْطاتِ العُنقِ الأنيْقةِ، الجَاكِـتُ الواسِـعُ والـ “تي شـيْرتْ” الأفريقي. “السُّودانُ الجديد”، ذلكَ الّذي جَـاء، مَفهُوْماً وَشـكْلاً، يَسْتهْدِفَ خلخَلةَ الـقَــديْمِ وإرْسَـاءَ الجَـديْدِ، لنْ يَكوْن فِكراً مُعلّقـاً في الهَـواءِ، بَل هوَ أسـلوبُ حيَاةٍ جديدة، في وَطـنٍ تشَاكسَتْ أطـرافُـهُ في “مَشَاكوْس”، والتبسَتْ بوْصلتُهُ على بَنيهِ، إلى سَـاعةِ جلوْسِـِهم في “نيْفاشـا”. كانتْ كينـيا هيَ آخِر المَطافِ، وَقـد كادَ الحُلم أنْ يَتنزّل إلى الواقعِ، ليُحيْلَ السُّودانَ جديداً، كمَا حَدّثَ عَـنهُ الشّهيْد “قَـرنـق”، غيرَ أنَّ للقَـدرَ كلمته الأخيرة).
شـهَادتي ستكوْن ضِمْن كتابِ صديقي الواثق وعنوانه: “رِحلتي مَعَ مَنصُــوْر: الخروجُ مِنْ الذّاتِ لمُلاقـاةِ الآخَـر”، والذِي سيَصدر في الأسَـابيْعِ القليلةِ القادِمَـة.

السّبْت
ليوم المرأةِ العالميِّ، هذا العام، شعارٌ جديدٌ، هو “خيار التَّحدِّي”. وَيوْم المرأة العالمي بدأ باقتراحٍ مِن امرأة عاملة في عام 1910، وسرعان ما اعتمدته شعوبٌ عديدة في أنحاء العالم، وفي عام 1975 تبنّته هيئة الأمم المتحدة يوماً لمُناصرة المرأةِ في استعادة حقوقها، دونَ تمييزٍ عن تلك التي للرَّجل.
لنا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أن نحتفي بهذا اليوم، إقراراً بالدَّورِ المشهوْدِ الذي لعبته وتلعبه المرأة في الحراك السياسيِّ الذي أسقط أنظمة شمولية كان القمع على كافّةِ المستويات، والاضطهاد الجندريّ بوجهٍ خاص، سِمَة غالبة لها. مثل تلك الأنظمة لا تحفل بأيِّ توجُّهٍ لتعزيز دور المرأة، أوالاحتفاء به. وأعجبُ أنْ يجثم نظامٌ، مثلَ نظام البشير ومحرّضيه الإسلامويين، ثلاثين عاماً على صدر بلادنا، وهم الأكثر هضماً لحقوق المرأة، والأشد ملاحقة للنساء، في بلد كان، قبل حقبة الإنقاذيين، في مقدمة من منحوا المرأة حقوقها، فصارت تشارك الرَّجل في قيادة العمل السِّياسي، والثقافي، والاجتماعي، والاقتصادي، والقضائي. آخر أمر الإسلامويين الكذبة أن أحلوا مطاردة المرأة في ثيابها، وبسطوا فينا شرعة “قدو قدو” لجلدِ المرأة في السّاحاتِ العامة. ما شهدنا نظاما فاقداً للشَّهامة يسعى لاضهاد المرأة، ويعمد إلى الترصُّد الذميم لإذلالها، غير نظام «الإنقاذ» المُباد!
ثورة ديسمبر 2018، هيَ ثورةُ “الكنداكات” السُّودانيَّات، والثَّامِن من مارس هو عيدهنَّ، وقـد أثبتْـنَ دوْراً قيادياً في حَراك الثَّورة. أكاد أرى فتاة الثورة السودانية في ثوبها الأبيض، تقف وقوفاً شامخاً، الى جوار “كلارا زيتكن” الأمريكية التي اقترحتْ في عام 1910 أن يكون 8 مارس عيداً دوليَّاً للمرأة، وليسْقُط “قدو قدو”، نهائياً، في مزابل التَّاريخ!

الأحّـد
على نَسقِ حَسَن الكَرْمِي، في برنامجِهِ “قولٌ على قول” بإذاعةِ “البي بي سي”، سَـألني صــديقي الأسـتاذُ الأديْبُ الفاتح ميْكا، مِن الحلفايا، عنْ سَـاعةِ بلديَّةِ أم دُرمان الجِــِّداريّة، عَمّن اقترحَ إنشاءَها، ومن أمَرَ بتعليقِها على الواجِـهات الأربـع لذلكَ البرْج، فأفضَيْتُ إليه بما أعلم.
ولأنّي أم درمانيٌّ مُحبٌّ لمدينتي، ولمعالمها التَّاريخيَّة، فإنّ تلك السَّاعَة عُـلِّـقَتْ في قـمَّة بُـرْج بَلـديّةِ أم درمان الشّاهق، في أوائل خمْسينات القـرنِ العشرين. وكان بُـرجُ البَلديّةِ أوّلَ بُرجٍ تمّ تشييده في المدينةِ خِلال الحِقبة الاستعماريّة، وَيبلغ ارتفاعُهُ ما بيْـنَ العشرين والثلاثين متراً. لم تعرف المدينةُ أوان ذاك غيرَ ســاعةٍ جداريةٍ واحدةٍ في “مَدرسـة أم درمان الأميريَّة”، حتَّى لقد أسميت “مدرسة السَّاعة”، وتقع في الجَّانب الشّرقي لِشارِع المَوْردة، قريباً من سـوق أم درمان الكبير.
شُيِّدت “الأميرية” تلك عام 1904م، من طابقين. وفي تاريخ لاحِق علقوا السَّاعة على واجهتها المُطلّة على الشّارع العام، بقُطرٍٍ يُقارب المترين. وكانت أوَّل ساعةِ حائطٍ جـدارية كُبرى تُعلّق في مَبنىً متوَسِّطِ الارتفاع. وكانَ لتلك السـَّاعةِ رنينٌ تطلقهُ على رأس كُلِّ ساعة.
أمّا سَـاعَةُ بُرجِ بلديّةِ أم دُرمان فأكْبرُ حَجـْمَاً مِن سَـاعةِ المَدرسَـةِ الأميْريّة، وَتطلّ على المدينـةِ مِن أعلَى البُرج، على الاتجاهَاتِ الأربعـةِ. وَاضحٌ أنّ تصميمها جـاءَ على نَسَـقِ سـاعةِ لـنـدن الشَّـهيْرة “بِـيْغ بـِنْ”. وكان لها رَنـيـْنٌ على رأسِ السّـاعةِ، وكلَّ نِصْفِ ساعةٍ أيْضـاً، ويُسمع في مُعـــظـمِ أحـيـاءِ المدينــةِ القديمة، مِن “خوْر شـمْبات” شـمالاً إلى “خوْر اب عنجَـة” جَنـوباً، وَمِن شـاطيء الـنّـيـل، عند “الموردة” وَ”اب روف” وَ”بيت المال” وَ”الملازمين” شرقاً، إلى أحياءِ غَـرْب أم دُرمان كافَّة.
عُلِّقَت بضع ساعاتٌ جدارية بعد ذلك، وفي تواريْخٍِ قريبة نسبيّاً، كالتي فوق مَبنَى البوسـتة، في وَسـطِ سوْق أم درمان الكبير، والتي عُلِّقَت، لاحقاً، في مدخْلِ جامعة الخُرطوم، وفي مدخلِ جامعةِ أم دُرمان الإسلامية. لكن جميعَ تلك السَّاعات الجداريّة لمْ تجد أدنى اهتمامٍ، أو أيَّة صيَانةٍ تذكر. وفي مكاتب الحكومة، أيضاً، ستجد ساعات حائط مُعلّـقة، لكن .. بلا حراك! لا أحد يهتم باستبدال بطاريَّاتها الصغيرة، والتي لا تكلف شيئاً حتَّى لو قام بإبدالها مَنْ يَعملَون في تلك المكاتب من جيوبهم!
لقد جرَى إهمالُ ساعة المَدرسةِ الأميريّةِ، وكذا ساعة بلديّةِ أم درمان، ولم تجد أيٌّ منهما عناية مِن المسئولين، لا في المدرسة، ولا في البلديَّة، طيلةَ عقود تتالتْ. غير أنّ أحد معتمدي مدينة أم درمان نجح، قبل سنوات قليلة، في إجراءِ صيانةٍ عاجلة لساعة البلديَّة، استأنفتْ بعدها تحريكَ شوكتيها، وإن بدون رنين! ثمَّ ما كادت تنقضي أشهرٌ قلائل، حتَّى توقّفتْ من جديدٍ للأسف!
لعلَّ أوَّل مَن فكَّروا في تعليْقِ السَّاعات في الأمْكنةِ العامّةِ – وهم المستعمِرون قصراً – قصدوا إرسالَ رسالةٍ قويّةٍ، للتذكيْرِ بأهمّيّة احترامِ الوَقْتِ. لكن الإهمال الذي لحق بتلك السّاعاتِ الجدارية الكبرى، يعكس قَـدراً مُعـتبـراً مِن تجَاهُلـِنا، مع سبقِ إصرارٍ بائن، لـقـيْمةِ الوقت، وعدم احترامنا له! ذلك أمرٌ شـائعَ لدينا، على كلِّ المُستوَيات، ولا تفسّرهُ إلا سـلوكيّات الذّهنيّةِ الرَّعويَّةِ التي تَعتمد مَظاهـرَ الطبيعةِ، وحركةَ الشَّمْسِ، مِن فَجـرٍ، وانتصافِ نهارٍ، وَمغرب يومٍ، موجِباً لضبطِ الوقت!
ما أشدَّ حرصنا جميْعاً على ارتِـداءِ سـاعاتِ الـيَـد، ومَا أكثر إهمالنا – وَيا للحَسْرةِ – لسَـاعاتِ الحَائط الخاصَّة والعامَّة!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى