الرأي

رهان الاستقطاب حول الاتفاق الإطاري السوداني


محمد جميل أحمد
هل يمكن القول إن امتناع أبرز مكونات تحالف “الكتلة الديمقراطية” (حركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، وحركة جيش تحرير السودان بقيادة مني مناوي) عن التوقيع على الاتفاق الإطاري (وقد أجمع المراقبون على أن ليس هناك خلاف كبير بين الطرفين) يكمن في أسباب أخرى لا علاقة لها بأي خلاف جوهري على مجمل القضايا السياسية والعسكرية لبنود الاتفاق؟
إذا كانت ثمة أسباب أخرى تصرف الحركتين البارزتين في تحالف “الكتلة الديمقراطية” عن التوقيع فما يا ترى؟ وهل ترجع إلى الطبيعة الأوتوقراطية لبعض الحركات المسلحة، في كونها الأقرب إلى المزاج العسكري منها إلى المزاج المدني المتعدد؟ لا سيما من خلال مواقفها التي كشفت عن تواطؤ مع العسكر أثناء وقوع انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021 وبعده؟ (بدليل أن جبريل إبراهيم لا يزال على رأس عمله وزيراً للمالية، فيما لا يزال مني مناوي حاكماً لإقليم دارفور) أم يمكن القول إن الأوضاع التي خلق بها نظام “الإخوان المسلمين” واقعاً سياسياً معطوباً على مدى 30 عاماً، سمحت له بتأثير خفي في قوى سياسية عدة على نحو نسج به خيوطاً ومصالح لخلق ضغوط معرقلة للوصول إلى أي اتفاق سياسي للخروج من الأزمة الحالية؟
أياً كانت الأسباب، فإن ما هو ظاهر من أحداث هذا الأسبوع عكس حراكاً جاداً من قبل أطراف العملية السياسية في الاتجاه نحو نهايتها، بحيث أسفر اجتماع لجميع القوى الموقعة على الاتفاق الإطاري عن مواعيد محددة لنهاية العملية السياسية الجارية تم تحديدها بثلاثة مواقيت، الأول من أبريل (نيسان) المقبل موعداً للتوقيع على الاتفاق السياسي النهائي بمن حضر، والسادس من أبريل موعداً لإعلان الدستور الانتقالي، فيما يصبح 11 أبريل موعداً نهائياً لتشكيل الحكومة الجديدة.
حراك إقليمي ودولي
في تقديرنا، ربما تشهد الأيام الـ10 المقبلة ضغوطاً وحراكاً إقليمياً ودولياً لدفع القوى الوازنة في “الكتلة الديمقراطية” نحو التوقيع على الاتفاق الإطاري، فبحسب صحيفة “سودان تريبيون” صرح رئيس البعثة الأممية المتكاملة في السودان “يونيتامس” فولكر بيرتس في إحاطة قدمها إلى مجلس الأمن الدولي، الإثنين الماضي، تعليقاً على موقف حركتي العدل والمساواة وتحرير السودان المنضويتين تحت الكتلة الديمقراطية بأن خلافاتهما مع موقعي الاتفاق الإطاري ليست حول هياكل الانتقال أو الحكومة “لكنهم يرغبون في ضمان تمثيلهم الخاص فيها”.
وعلى رغم تصريح فولكر الواضح هذا، إلا أن قادة “الكتلة الديمقراطية” يصرون على أن يكون توقيعهم في الاتفاق الإطاري كـ”كتلة ديمقراطية” فيما وقعت جميع الأطراف السياسية على الاتفاق الإطاري بوصفها أحزاباً وليست كتلاً.
وإذا صح أن سبب عدم توقيع كل من حركة العدل والمساواة وحركة جيش تحرير السودان على الاتفاق الإطاري هو حول خلاف في نسبة السلطة، فلربما أمكن الوصول إلى اتفاق في الأيام المتبقية على موعد الأول من أبريل المقبل إذا تكثفت الضغوط الدولية والإقليمية على الحركتين.
ولعل ما صرح به السياسي في “الكتلة الديمقراطية” مبارك أردول إلى إحدى صحف الخرطوم بأن قوى الحرية والتغيير (المركزي) تسعى إلى تفتيت الكتلة الديمقراطية، يعكس هذا الهاجس الذي يخشى منه.
الخوف الحقيقي
لكن ما يخشى منه حقيقة هو أن تضمر مقاطعة الاتفاق الإطاري من قبل تحالف “الكتلة الديمقراطية” نيات مبيتة من أطراف سياسية وعسكرية عدة لعرقلة العملية السياسية وقطع الطريق عليها، وهنا لا تخفى على كل مراقب، إمكانية لتحالف موضوعي بين “الكتلة الديمقراطية” وفلول النظام القديم (نظام الإخوان المسلمين) وهذا أخطر سيناريو يمكن أن يفجر الأوضاع وهو سيناريو أشار إليه السياسي السوداني ياسر عرمان أكثر من مرة.
فإذا تتبعنا مثلاً التصريحات المتضاربة لقائد الجيش الفريق عبدالفتاح البرهان، مرة بعد مرة، حول التشكيك في الاتفاق الإطاري والتي كان آخرها، الثلاثاء الماضي، (أي بعد يومين من اجتماع القوى الموقعة على الاتفاق الإطاري وإعلان المواقيت الثلاثة لنهاية العملية السياسية).
فبحسب تصريحات أوردتها صحيفة “سودان تريبيون” الإلكترونية، قال البرهان في خطاب جماهيري بمنطقة أم سيالة شمال كردفان، “والله هذا المسار إذا لم يستصحب القوى الرئيسة وكل السودانيين سيتعثر قريباً ولن يستطيع أن يمضي”، وأضاف “هذه العملية السياسية إذا مشت مبتورة وعرجاء ستتعثر وتسقط ولن تمضي إلى الأمام”.
إمكانية الحل التوافقي
واضح جداً أن البرهان يشير إلى عدم إمكانية استكمال العملية السياسية في مواعيدها المضروبة ما لم تلتحق قوى مؤثرة في تحالف “الكتلة الديمقراطية” أو حتى ما لم يتوافق جميع السودانيين (وهذا مستحيل) على الحل.
وإذ لا يبدو واضحاً ما الذي يريده الفريق البرهان بمثل هذه التصريحات المتباينة، فإن الواضح تماماً أن ثمة قوى سياسية تسعى حثيثاً إلى قطع الطريق على نهاية الاتفاق الإطاري وتثبيت واقع الحال منذ انقلاب 25 أكتوبر 2021.
أليس من الغريب مثلاً أن نرى الفريق البرهان، فيما هو يجيز بحضوره مع الأطراف الموقعة على الاتفاق الإطاري، كل المواقيت التي تلاها المتحدث باسم العملية السياسية خالد عمر يوسف الأحد الماضي حتى نهايتها بتشكيل الحكومة في 11 أبريل المقبل، ثم نسمع منه مثل تلك التصريحات التي تصرح بضرورة أن تجتمع جميع القوى السياسية على حل توافقي كشرط لسماح الجيش بتسليم السلطة إلى المدنيين؟

نتصور أن إصرار “الكتلة الديمقراطية” على موقفها الرافض للاتفاق الإطاري وتوعد مكوناتها بعرقلة العملية السياسية بجميع السبل حال تكوين حكومة بتاريخ 11 أبريل وتصريحات البرهان المتضاربة، إما أن تكون مؤشراً إلى تواطؤ خفي بين الطرفين لعرقلة العملية السياسية، أو نتيجة لضغوط نشطة تعمل عليها قوى الثورة المضادة وعناصر النظام القديم، إذ لا يخفى على المراقب للشأن السوداني أن متنفذي نظام “الإخوان المسلمين” خارج السلطة اليوم لهم خبرة ومال سياسي وعلاقات داخل منسوبيهم في الجيش، إلى جانب معرفتهم بالحركات المسلحة، بل وكذلك وجود بعضهم داخل تحالف “الكتلة الديمقراطية” وهذا كله يؤكد ما ذهب إليه ياسر عرمان من أن هناك جهات تسعى إلى تخريب العملية السياسية.
ممارسات نظام الإخوان
إن ما بدا عليه الواقع السياسي اليوم لا يمكن فصله عن مجريات ووقائع إفساد السياسة التي مارسها نظام “الإخوان المسلمين” على مدى 30 عاماً والآثار المدمرة التي غيرت طبيعة العمل السياسي.
يبدو أن السياق السياسي الذي كشف عن تحالف بعض الحركات المسلحة وتماهيها مع ميول العسكر، خصوصاً بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021 هو أقوى من شعارات تلك الحركات وخطابها العام عن مظالم المهمشين وعن “السودان الجديد” اللذين كانا سبباً لتحالفها الثوري الموقت مع القوى السياسية المدنية قبل سقوط نظام البشير.
فمن الواضح اليوم أن رهان بعض الحركات المسلحة هو على حيازة نسبة من السلطة مع العسكر، كيفما كان الأمر، وأن استثمار تلك الحركات في معاناة المواطنين الذين دفعوا ثمناً غالياً من الأرواح والتهجير والخراب، أصبح زيفاً مكشوفاً، لا سيما بعد مرور أكثر من عامين على توقيع اتفاق جوبا لم يطبق خلالهما إلا القليل جداً منه بسبب الانقلاب الذي قطع الطريق على تنفيذه وعلى مسار المرحلة الانتقالية، لذلك تدرك الحركات المسلحة أن متاجرتها بخطاب المهمشين لا يمكن أن تنطلي على مواطنيها بعد انقلاب 25 أكتوبر، الأمر الذي يعني أن ثمة احتمالاً لتنسيق وراء الكواليس بين حلفاء الأمس، خصوصاً إذا عرفنا انضمام أجسام إلى “الكتلة الديمقراطية” لاحقاً، وهي أجسام كانت تنسق مع العسكر في حراكها لإفشال وإسقاط حكومة الثورة قبل الانقلاب، كالمجلس الأعلى لنظارات البجا الذي تواطأ مع العسكر في إغلاق شرق السودان، فاليوم رئيس المجلس الأعلى لنظارات البجا الناظر محمد الأمين ترك هو الذي يشغل منصب نائب رئيس “الكتلة الديمقراطية”، مما يدل بوضوح على أن طبيعة الخلاف السياسي بين “الكتلة الديمقراطية” وتحالف الحرية والتغيير (المركزي) يضرب عميقاً بين قوى حزبية تعمل على الانتصار لمبادئ الثورة في السلام والعدالة والحرية وبين قوى أخرى تسعى إلى تثبيت الفوضى والتحالف مع العسكر.
قوى الثورة المضادة
وبطبيعة الحال يمثل هذا الاستقطاب الحاد بين القوى السياسية في الموقف من الاتفاق الإطاري امتيازاً مثالياً لعمل قوى الثورة المضادة من بقايا عناصر نظام “الإخوان المسلمين” الذين يستثمرون في تخريب الواقع السياسي بالتأثير في الفضاء العام من خلال أذرع كثيرة، منها استثمار خطاب الهوية الإسلامية بدعوى الخوف على الدين واستخدام الأموال في الـ”سوشيال ميديا” لتشويه القوى السياسية الساعية إلى تحقيق مبادئ ثورة ديسمبر (كانون الأول) بكثير من الإشاعات والمغالطات واستثمار خبرتهم في إدارة أجهزة الدولة لـ30 عاماً وتوظيف تلك الخبرة في نسج التحالفات المعلنة والخفية مع قوى سياسية كثيرة وقوى عسكرية بهدف تخريب العملية السياسية الجارية.
لقد أفلحت ضغوط المجتمع الدولي والإقليمي في انتزاع وعد واضح بإعلان المواقيت الثلاثة المحددة التي أقرها اجتماع جميع القوى السياسية والعسكرية الموقعة على الاتفاق الإطاري مطلع هذا الأسبوع، لكن تلك المواقيت ستمثل في الوقت ذاته اختباراً أولياً مهماً لتأكيد مصداقية بعض الأطراف في هذا الاتفاق، وما إذا كانت ستمضي فيه قدماً أمو ستتحجج بحجج واهية، كما أن ذلك يعني أن الأيام القليلة التي تفصلنا عن هذه المواقيت ربما تفلح فيها ضغوط المجتمع الدولي أيضاً بدفع مكونات محددة في تحالف “الكتلة الديمقراطية” إلى التوقيع على الاتفاق الإطاري من عدمه.
واقع الحراك السياسي اليوم أصبح من الوضوح بمكان يستطيع فيه المواطن السوداني تحديد اتجاهات وميول القوى السياسية التي مع الثورة وتلك التي ضدها.
*نقلا عن اندبندنت عربية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى