الرأي

رجال الديمقراطية .. لا رجال الدين (3/3)

الطيب النضيف / المحامي
جهاز الدولة عنصر رئيسي لمراكمة الثروة للكيزان…
الدولة الدينية، والتي نقف ضدها هنا، تعني أن يكون جهاز الدولة وإدارتها، وسياستها وثقافتها وقوانينها قائمة على أساس الدين .. والضرورة أن يكون حكامها رجال دين بالصبغة الدينية وتعني أيضاً انحيازها لملة دينية معينة على حساب باقي الأديان والملل والطوائف .. ويعني أيضاً أن معيار التفضيل لديها بين المواطنين أساسه الأول الدين، ثم ثانياً تأتي المواطنة! هذه هي الدولة الدينية الثيوقراطية التي تسعى إليها الحركة الإسلامية.
وإذا كان المفكر المصري الشهيد (فرج فودة) قد قسم التيارات الإسلامية في مصر إلى ثلاثة (تيار ثروة وتقليدي وثالث راديكالي) فإن الموجود بالسودان هو النوع الأول وهو يعتبر الكتلة الفاعلة الرئيسية للتيار الأصولي المتشدد في البلاد خاصة بعد استيلائه على السلطة والثروة لثلاثة عقود بقوة السلاح والقبضة الأمنية، ولم يكن ليمكث هذه المدة لولا ربطه عمل وأداء جهاز الدولة بالنصوص المقدسة، وادعائه تطبيق شرع الله على الأرض، وادعائه معرفة الدين أكثر من غيره .. ولكن ثورة ديسمبر كشفت غطاءهم وألاعيبهم حيث اتضح أن تحت العمامة الدينية الثروة والسلاح فقط!
حزب المؤتمر الوطني (الكيزان) وإن كان يتمشدق بموضوعات الحداثة إلا أن أيديولوجيته ممعنة في الغلو والتطرف وفي الإقصاء، وفي تصنيف الناس وخلال ثلاثين عاماً محو وأزالوا الآخرين، حتى المشتركين معهم في المذهب السني الواسع، ادعوا لنفسهم المعرفة بالحق الإلهي وأنكروه على غيرهم، ادعوا أنهم أصحاب الحق وغيرهم أصحاب الباطل! والمعروف أن كل مذهب ديني له فروعه، وكل فرع له تيارات تدعي الحق، المثال لذلك مذهب السنة له أربعة مكونات أو فروع رئيسية (وهم أصحاب المذاهب الأربعة المعروفة) وكل فرع له أو انشق عنه تيار يدعي أنه المذهب الأحق بالولاية! .. وعلى أساس هذا التباين في التفسير وزعوا الاتهامات بل الأحكام بدون فرز .. هذا زنديق وهذا كافر وهذا مارق عن الملة المحمدية!! والدين إذاً تم استغلاله سلباً، أي الاتجار به كما فعل الكيزان لصالح تنظيمهم، فإنه يصبح بلا شك أحد مهددات وحدة النسيج الاجتماعي للسكان حتى ولو كان كلهم مسلمين، وهذا أدى لقيام ثورة ديسمبر الشعبية، لذلك يجب إبعاد رجال الدين، بمختلف مللهم وطوائفهم، عن الحكم وإبدالهم برجال يؤمنون بالديمقراطية كمنهج للحكم، رجال يؤسسون لدولة مدنية بدستور يدير وينظم كل هذه الاختلافات العقدية والمذهبية والسياسية لصالح السياسة ولصالح الدين نفسه، فالناس يشتركون في التوحيد لكنهم يختلفون في الوسيلة إليه، يشتركون في قدسية النصوص ويختلفون في شرحها وتفسيرها، وإلا لما كان لدينا مذهب سني وآخر شيعي، لما كان لدينا حديث سني وآخر شيعي وآخر معتزلي .. الخ بل حتى داخل المذهب السني المتشددون يفضلون العمل بالرأي الحنبلي ويتركون العمل برأي أبي حنيفة مثلاً.
يشتركون في القيم الفاضلة من خير وحق وجمال ويختلفون في مرجعيتها .. الخ الكل يدعي أن دينه ومذهبه الأولى بالولاية على الحياة، لأنه الحق وما عداه باطل! لنكون قد وصلنا بالنتيجة لمرحلة الأصولية السلفية، التي تؤدي بدورها لخلق جماعات مغالبة ومتعالية على الآخرين، والمغالاة هي المزايدة .. ودولة الخلافة الإسلامية شهدت المزايدات منذ صدر الإسلام وحتى الآن! فقد زايد السفيانيون على المروانيين إبان الدولة الأموية، وزايد كل خليفة على وريثه في الخلافة، والعباسيون زايدوا على آل البيت، ثم زايدوا على الأمويين، وزايدوا على المعتزلة .. الخ هذه المغالاة والتطرف والتعالي و(الأرثوذكسية) تخرج منها جماعات إرهابية وتكفيرية تعكر صفو الحياة الاجتماعية، لتؤدي لزعزعة الاستقرار السياسي وتخريب النهج الديمقراطي .. لذلك حفاظاً على الدين نفسه من التشويه والكراهية وجب إبعاده عن شئون الدولة.
ناحية أخرى لها علاقة بانتشار جماعات الإسلام السياسي في صورته القبيحة (الأصولية السلفية) وهي محور الاقتصاد .. فالجماعات الإسلامية تفضل الاقتصاد الطفيلي على الاقتصاد التقليدي ذو الدورة العادية المعروفة لرأس المال .. لأنها تنمو وتتمدد في حالة الدورات المبتورة أو المجزأة لحركة دورات المال في السوق، وهو ما يعرف بالاقتصاد الطفيلي لمراكمة الثروات لزيادة أصل رأس المال .. وتنكمش أو تضعف في حالة الوضع الطبيعي للعملية الاقتصادية لأنها تخلق الجماعة في العمل وفي الإنتاج، وهي بدورها تساعد في رفع الوعي الاجتماعي بمكوناته العديدة، والتي بالضرورة من بينها رفع الوعي الديني، وإذا أضفنا لذلك مسألة جهاز الدولة (السلطة) ومدى دورها في تمكين الإسلاميين ستتضح لنا الصورة أكثر ونتحصل على إجابات عديدة حول لماذا وكيف اغتنت وأثرت الحركة الإسلامية السودانية وحاضنتها الرئيسية المؤتمر الوطني، وكيف امتلكت مفاصل اقتصاد البلاد لثلاثين عاماً! والإجابة كما قلنا سابقاً أن جهاز الدولة يعتبر أحد عناصر مراكمة الثروات، بل في حالات معينة هو العنصر الرئيس لاستحواذ الكيزان على الثروة .. فالجبهة الإسلامية القومية بالسلاح انقلبت على السلطة، وبالسلطة (جهاز الدولة) امتلكت الثروات.
إن مخرجات لجنة إزالة تفكيك التمكين توضح أن العديد من قيادات الحركة الإسلامية استغلوا ووظفوا جهاز الدولة للحصول على العقارات والثروات .. وقبل السلطة كانوا ناس (ساهي).
إن فصل الدين عن الدولة لهو أوجب واجبات الساعة .. والفكرة تقوم على سندين في غاية البساطة .. الأول ديني والثاني سند واقعي، أي سند سماوي وآخر أرضي .. السماوي هو أن الله جعل لعبده الراشد البالغ حرية الاختيار بالتكليف، وبالتالي مسئوليته الفردية عن أعماله يوم الحساب، أي المسئولية فردية (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) حيث أقامها الله تعالى على التكليف وهو اشتراط العقل والتمييز.
والقرآن الكريم به الكثير من آيات قطعية الثبوت قطعية الدلالة على ذلك مثل قوله تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) وقوله: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) وقوله: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) وقوله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)
أما السند الأرضي يتمثل في مبدأ المساواة بين الناس في الحقوق وفقاً لمبدأ الشرعة الدولية المجازة من الأمم المتحدة في قوانينها ومعاهداتها المصادق عليها من حكومة السودان منذ (1986م) .. أضف إلى ذلك الإرادة السياسية لثورة ديسمبر التي نادت بالمدنية حد الصراخ مدنياااااااو، ونختم بأن فصل الدين عن الدولة، بل حتى العلمانية نفسها لا تعادي الأديان، ولا يعنيان الإلحاد، وهذا فهم خاطئ في أذهان الناس، وليسا خصماً أو عدواً للأديان إنما هما وسيلة أو طريقة أو آلية لتنظيم دور الأديان في حياة الناس وفقاً لمبدأ عدم الانحياز.
الدين يميز بين الناس بسببه، العلمانية أو الفصل لا تميز بين الناس بسبب الدين، راجع الدساتير السودانية وراجع القوانين والتشريعات والإجراءات السودانية.
الدين لا يساوي بين الناس من حيث المواطنة ويساوي بينهم من حيث الدين، العلمانية تساوي بينهم من حيث المواطنة كما تساوى بينهم من حيث الدين.
نختم القول إن المسيحية كدين، حكمت الدولة السودانية زهاء عشرة قرون حتى السلطنة الزرقاء (500 – 1504م) ثم جاء الإسلام كدين وحكم الدولة السودانية زهاء (5) قرون، فماذا كانت النتيجة في الحالتين؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى