حوارات

د. الشفيع خضر لـ (الديمقراطي): يجب ربط الديمقراطية بمعاش الناس.. وإلا فهي مجرد ثرثرة

حوار: ماجدة عدلان
* * أشار د. الشفيع خضر؛ أن بلادنا ــ منذ فجر الاستقلال، وحتى الآن ــ ما تزال تعيش في فترة انتقالية، ولمدة 65 عاماً. واستدرك بالقول: “هذا قطعاً شيء مؤسف؛ يجب أن نخجل منه جميعاً، خاصة النُخب الساسية، التي تصدَّت للعمل العام”.
وفي رده على مسألة بناء الدولة السودانية قال: إن الأزمة السياسية السودانية؛ ترجع جذورها منذ الاستقلال، ولخَّصها في أربعة محاور: كيفية ترسيخ الديمقراطية، وإصلاح النظام السياسي، وكيفية تحقيق السلام المستدام، والتنمية المتوازنة، إضافه لوحدة البلاد، في مواجهة إمكانية تفتتها وتشرذمها.
وقال إن مفتاح العلاج لواقع البلاد؛ هو تقديم إجابات صائبة للأسئلة المصيرية، التي ظللنا نبحث عن إجابات لها منذ الاستقلال. وأشار في حوار مطوَّل مع “الديمقراطي”؛ للتجارب الإسلاموية وفشلها. وقال إنه لابد أن تسود قيم الديمقراطية، والحرية، وإنجاز مسألة الإصلاح السياسي. وأشار لضرورة دحر أفكار التكفيريين؛ والمهووسين؛ وقدَّم روشتة سياسية صالحة للاستخدام بخصوص موضوع استدامة الديمقراطية، والتحول الديمقراطي. وانتقد الأحزاب؛ وقال إنها السبب المباشر في حالة التوهان السياسي….

* الأزمة السياسية السودانية؛ تراوحت بين البحث عن هوية، وعن وطن لم يُذُق طعم الاستقرار السياسي منذ الاستقلال.. ما قولك في ذلك؟!
ــ نعم هذا صحيح؛ فبعد خروج المستعمر، ورثنا نحن مؤسسة الدولة الاستعمارية، وكان من المفترض أن نعمل على تغييرها، والانتقال بها إلى بناء دولة ما بعد الاستقلال،The post-independence State ولكن فشلنا في ذلك. بل؛ حتى الدولة التي ورثناها، أعملنا فيها تجريحاً وتشويها.. خاصة خلال عهد الانقاذ. لذلك؛ منذ فجر الاستقلال ــ وحتى اليوم ــ وبلادنا تتحكَّم فيها الحلقة الشريرة، أو الدائرة الجهنمية، بتجلياتها التي نعايشها في أزمة سياسية عامة.. انقلابات.. وحروب أهلية.. ونزاعات مستمرة ومتجددة.. أزمة معيشة.. وضنك.. انهيارات خدمات التعليم.. والصحة.. ومرافق البنية التحتية.. إلخ. انهاك المجتمع المدني؛ وفقدان الثقة في الأحزاب، ومن ثم اللجوء إلى القبيلة والعشيرة. وشعور بالاغتراب تجاه الكيان السوداني، ونزف السواعد والعقول إلى بلاد المهجر والاغتراب.
* تعاقب السلام والحرب؛ أثَّرا على بناء الدولة واستقرارها السياسي.. كيف نأتي بالسلام المُستدام والاستقرار السياسي؟!
ــ دائماً ما أكرر القول؛ بأن بلادنا ــ منذ فجر استقلالها في يناير 1956م وحتى اليوم يناير 2021 ــ ما تزال تعيش في فترة انتقالية، ولمدة 65 سنة، وهذا قطعاً شيء مؤسف، يجب أن نخجل منه جميعاً، وخاصة النخب التي تصدَّت للعمل العام. وبعضها تسنَّم دست القيادة ــ النخب المدنية أو العسكرية ــ لأننا نعيش حالة عراك، وبحث عن دستور دائم، ونظام حكمٍ نتوافق عليه، وبرنامج تنموي ثابت، ونبحث عن حلٍّ لإشكالية علاقة الدين والدولة، وحلٍّ لإشكالية الهوية. باختصار؛ نبحث عن ما ظلَّ يردده الجميع حول مخاطبة “جذور المشكلة السودانية، وعلاج أسباب الحرب الأهلية من جذورها”. دون التوافق حول إجابات عن هذه القضايا؛ التي ظللنا نبحث عنها منذ فجر استقلالنا، فلن يتحقق الاستقرار، ولن تصمت طبول الحرب. أما وضع بلادنا الذي نعيشه الآن؛ فهو وضع أشبه بما يمكن تسميته حالة “دولة اللا دولة” أو Stateless State.
* البعض يقول؛ إننا أضاعنا فرصاً كثيرة لبناء الدولة السودانية.. في رأيك؛ كيف نبني الدولة السودانية.. وما هي أهم ملامحها.. وما هي فُرص نجاح بناء الدولة السودانية؟!
ــ جزء من الإجابة عن أسئلتك هذه؛ يكمن في إجابتي عن سؤالك السابق حول السلام المستدام والاستقرار السياسي. ولأن هذا الموضوع ــ في تقديري ــ مهم ومصيري؛ فاسمحي لي ببعض التوسع في تناوله، وأكمل ما جاء في تلك الإجابة بالإشارة ــ مرة أخرى ــ للأزمة السودانية العامة، والممتدة جذورها إلى فجر استقلالنا، وتلخيص مفاصلها الرئيسة في أربع حلقات متداخلة ومتشابكة هي: أ/ كيفية ترسيخ الديمقراطية، وإصلاح النظام السياسي. ب/ كيفية تحقيق السلام المستدام. ج/ التنمية المتوازنة. ه/ وحدة البلاد؛ في مواجهة إمكانية تفتتها وتشرذمها. ويتفق الجميع؛ على أن مفتاح الخروج من واقع البلاد المأزوم ــ هذا ــ يكمن في الفضِّ المتزامن لهذه الحلقات الأربع. إذ لا يمكن فض إحدى الحلقات دون الأُخريات، وهو أمر لن يتأتى؛ إلا بتقديم إجابات صائبة للأسئلة المصيرية، التي ظللنا نبحث عن إجابات لها منذ فجر الاستقلال، وتُشكل ــ مُجتمِعة ــ جذور الأزمة السودانية، وأشرنا إليها أعلاه في السؤال السابق. والإجابات الصائبة هذه؛ والتي من المفترض أن تُؤسس هيكلياً ودستورياً، وبتوافق الجميع، لإعادة بناء الدولة السودانية وِفق أُسس جديدة، ترتكز على عدة مبادئ جوهرية، تشكل ــ مُجتمِعة ــ ملامح بناء الدولة السودانية، وأهمها في نظري: الوحدة الطوعية على أساس المواطنة؛ والاعتراف بواقع التعدد، والتنوع العرقي، والديني، والثقافي، واللغوي في البلاد. وترجمة هذا الإقرار والاعتراف في الدستور الدائم، وقوانين البلاد، وفي الممارسات.
التوافق على نوع نظام الحكم؛ والنظام السياسي الملائم لواقع بلادنا وخصائصها، بما يحقق حُسن إدارة التنوع، ليتوَّج بالمشاركة العادلة في السلطة بين مختلف الأعراق، والإثنيات، والمجموعات القومية والجهوية، المكوِّنة للكيان السوداني. ويحقق ممارسة سياسية؛ تُوائم بين قيم الديمقراطية المطلقة، والسِمات الخاصة ببلادنا، عبر صيغة سودانية للديمقراطية التعددية، لا صيغة “وستمنستر”. وربط الديمقراطية بتوفير “لقمة العيش، ومُوية الشراب، والمستشفى والمدرسة..”. إذ دون ذلك؛ ستكون الديمقراطية مجرد ثرثرة على ضفاف النيل. والتأسيس لدولة المؤسسات، وحقوق الإنسان، التي يتساوى فيها الجميع أمام القانون، غض النظر عن العرق، أو الدين، أو الثقافة، أو النوع.
والتوزيع العادل للموارد والثروة ــ بين مختلف التكوينات القومية والإثنية والجهوية في البلاد ــ ورفع معاناة المعيشة عن كاهل المواطن، ورفع الإجحاف والإهمال عن الأطراف، مع إعطاء الأسبقية لمناطق التوتر العرقي، والقومي، والاجتماعي. في إطار مشروع اقتصادي علمي؛ يراعي عدم تدهور مواقع إنتاج الفائض الاقتصادي “الأطراف”، وعدم استنزاف مراكز ومصادر الخبرة العلمية “المركز”.
حل إشكالية علاقة الدين بالدولة على أساس: 1/ سيادة حكم القانون؛ واستقلال القضاء، ومساواة المواطنين أمام القانون ــ صرف النظر عن المعتقد، أو العنصر، أو الجنس. 2/ تعتبر المواثيق والعهود الدولية ــ المعنية بحقوق الإنسان ــ جزءاً لا يتجزأ من القوانين السودانية، ويبطُل أي قانون يصدر مخالفاً لها، ويعتبر غير دستوري. 3/ يكفُل القانون المساواة الكاملة بين المواطنين؛ تأسيساً على حق المواطنة، واحترام المعتقدات، وعدم التمييز بين المواطنين، بسبب الدين، أو العرق، أو الجنس، أو الثقافة. ويبطُل أي قانون؛ يصدر مخالفاً لذلك، ويعتبر غير دستوري. 4/ كفالة حرية البحث العلمي؛ والفلسفي، وحق الاجتهاد الديني.
التعامل مع مسألة الهوية السودانية؛ باعتبارها تبلورت من رحم التعدُّد، والتنوُّع والتبايُن، عبر مخاضٍ ممتدٍّ لقرون، أسهمت فيه الحضارة المروية ــ قبل الميلاد ــ والهجرات إلى السودان، والمسيحية، والإسلام، والكيانات الإفريقية القبلية، والعرقية، بمعتقداتها الإفريقية والنيلية، كما أسهم فيه النضال الوطني ضد المستعمر. والهوية السودانية؛ يمكن أن تكون مصدر ثراء حضاري جمٍّ، إذا ساد مبدأ الاعتراف بثقافات؛ ومعتقدات، ولغات القوميات، والإثنيات المختلفة، في وضع التساوي الأفقي، وليس وضع الأفضلية الرأسي. وتم التخلِّي عن التوجه الإقصائي في التعامل مع هذه القوميات، والتخلِّي عن سياسة محاولة صهرها داخل بوتقة القومية العربية، والتخلِّي عن النظر إليها كأقليات، حتى وإن كانت عدداً هي فعلاً كذلك. فمسألة بناء الدولة؛ ومسألة المكوِّن الوجداني والروحي للأمة، كلها لا تخضع لمعايير الأغلبية والأقلية. والخطأ؛ كل الخطأ، في انتزاع مكوِّن واحد من هذه المكوِّنات المتعددة والمتنوعة، واعتباره هو الهوية السودانية، ونفي ما سواه.
* إذاً؛ كيف لنا عملياً أن نبني هذه الدولة السودانية.. وماهي فرص نجاحنا في ذلك؟!
ــ أولاً؛ عملية البناء تبدأ بالقناعة والاقتناع بعُدَّة منطلقات.. منها: القناعة أن جوهر الأزمة في السودان؛ ليس هو مجرد الصراع السياسي حول السلطة، وأن هذا الصراع لن ينتهي بتغيير الأنظمة، وهو لم يُحسم بانفصال الجنوب!! وهو ليس فقط صراع بين المركز والأطراف، وليس صراعاً بين اليسار واليمين…إلخ. بل نفهمه؛ على أساس أن جوهره هو الأسئلة، والقضايا، والبحث عن الإجابات ــ المشار إليها في إجاباتي السابقة ــ وأن حل الأزمة؛ يكمن في إعادة بناء الدولة السودانية، عبر التوافق على مشروع وطني، يرتكز على الأسس والمبادئ الواردة في إجاباتي تلك. وشخصياً؛ أنا على قناعة تامة أن المدخل الوحيد لعلاج أزمات السودان، ولبناء الدولة السودانية، هو التوافق حول هذا المشروع الوطني، والقناعة أن إثنيات وثقافات السودان تحتاج إلى بعضها البعض، في إطار تكامل الوحدة والتنوع، والقناعة أن المشروع الوطني لا ينجزه حزب واحد، أو طبقة واحدة، أو تحالف أحزاب، ولا يُبنى وفق أيديولوجية بعينها، وإنما يتم عبر مساهمة الجميع، وعدم إقصاء الآخر، وينطلق من الملموس في واقعنا. أما الأنظمة الديكتاتورية والشمولية ــ عسكرية أو مدنية ــ فقطعاً ستزيد الأزمة تأزماً.
ثانياً؛ المشروع الوطني لبناء الدولة السودانية، يأتي وليداً لإلتقاء حراك المركز مع حراك الأطراف، وتحالف المجتمع المدني والأهلي، والتكامل بين المجتمع المدني والحركة السياسية.
ثالثاً؛ أي حديث عن المشروع الوطني ــ قبل إنجاز مهام الفترة الانتقالية، وفي مقدمتها استعادة الدولة المخطوفة من براثن الحزب البائد لصالح بناء دولة الوطن ــ سيكون بمثابة الكتابة على الهواء.
رابعاً؛ الآلية الملائمة هي، حوار وطني حقيقي، تُشارك فيه كل التيارات السياسية، والفكرية، في البلد، ولا يستثنى أحداً. ويحكمه مبدأ التنازلات المتبادلة؛ حتى يكون الوطن هو الرابح في النهاية. وهو قطعاً؛ لا علاقة له بتلك المسرحيات والمهازل ــ سيئة الصِيت والإخراج ــ التي تناور بها أنظمة الاستبداد، مثلما كان يفعل نظام الإنقاذ المباد، والتي كانت تختصر الحوار في التصالح، واقتسام كراسي السلطة، بعيداً عن مخاطبة جوهر الأزمة. وعبقرية الشعب السوداني تفتقت عن فكرة المؤتمر القومي الدستوري؛ كشكل لِما نقصده بالحوار الوطني الحقيقي.
أما بالنسبة لفرص النجاح؛ فهي قطعاً متوفرة وبكثرة، ولكنها تعتمد عل إرادة النخب السياسية. فوضع البلاد الراهن لا يحتمل المماحكات والمكايدات وسياسات التجريب والتكتيكات غير المدروسة، بل هو وضع يصرخ فينا بالبدء ــ فوراً ــ في هذا المشروع. وللأسف الشديد؛ ظلت النخب السياسية، تتخاصم وتتصارع حقباً طويلة، لأسباب سياسية، واجتماعية، وتاريخية، وإقليمية مفهومة، لكن آن أوان لمراجعة قناعاتها، وعليها أن تعي حقيقة أن الوطن يترنح آيلاً للسقوط، والخطر الداهم يتهدد الجميع، وأن التفكير السليم يقول بأن ما يجمع الناس من مصالح ــ في الحد الأدنى الضروري للحياة ولبقاء الوطن ــ أقوى مما يفرقها، وأنه آن الأوان لكي تلتقي بجدية وإخلاص لإنجاز هذا المشروع الذي تأخر 65 عاماً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى