الرأي

حًنينةْ امْ عَجَلْ!

الإثنين
الرأي الذي سأطرحه هنا سبق أن طرحته، العام الماضي، ولكن باقتضاب ربَّما لم يلفت إليه الأنظار، ضمن استطلاع آراء أجرته وجدان طلحة لصحيفة «السُّوداني»، حول تشكيل «لجنة التَّحقيق في فضِّ اعتصام القيادة العامَّة»، برئاسة نبيل أديب، في ديسمبر 2019م، لثلاثة أشهر قابلة للتَّجديد. أمَّا لماذا أعيد نشره، هنا، وباستفاضة، فلهذا سببان: الأوَّل هو ما لمسته من تثبيط للهمم في تصريح لنبيل، إذ راح، بعد أكثر من عام على تكليفه، يبرِّر لبطء إجراءاتهم، بالشكوى من شحِّ اللوجستيَّات، مقارناً، دون وجه للمقارنة، بين حظوظهم وحظوظ المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة (!) ومقلِّلاً، مع ذلك، من إنجاز الأخيرة، طوال 20 عاماً (!) ومعظِّماً من إنجاز لجنته خلال عام واحد (!) مبدياً كامل استعداده لتقبُّل إعفائه من التَّكليف (!) حيث «أننا ليست لدينا مكافآت ماليَّة (!) تجعلنا نتمسَّك بهذه اللجنة!» أو كما قال (الراكوبة ـ نقلاً عن «الانتباهة»؛ 20 فبراير 2021م).
أمَّا السَّبب الثَّاني فهو ما رأيته يؤرِّق، أكثر فأكثر، ذوي الشُّهداء، والجَّرحى، والمفقودين، وأصدقائهم، ورفاق نضالهم، وسائر الثَّوريِّين، ويسهِّد أعين آبائهم وأمَّهاتهم، ويقضُّ مضاجعهم، استعجالاً لنتائج عمل هذه اللجنة، ظنَّاً بأنها ستسكِّن بلبالهم، وتشفي غليلهم، وتريح نفوسهم، بالكشف عن الحقيقة، ومن ثمَّ تحقيق العدالة الجَّنائيَّة لأعزائهم الضَّحايا، بتقديم المنتهكين إلى محاكم ينال فيها كلُّ مجرم جزاءه العادل، وكلُّ آثم ما يستحقُّ من عقاب؛ فهل هذا الرَّجاء قابل للتَّحقُّق؟! الإجابة، للأسف، بالنَّفي المغلَّظ، للآتي:
(1) اللجنة، بطبيعتها، ليست مستقلة، فقرار تكوينها صادر، ابتداءً، ليس من النَّائب العام، بل من رئيس الحكومة، لتعمل بموجب «قانون لجان التَّحقيق لسنة 1954م»، مثلها مثل «لجنة قطران ـ أحداث توريت 1955م»، و«لجنة علوب ـ أحداث يوليو 1971م»، و«لجنة دفع الله الحاج يوسف ـ أحداث دارفور 2004م».
(2) ما من لجنة من هاتيك انتهى عملها بفتح بلاغ، أو توجيه اتِّهام، أو إحالة إلى محكمة. الهيئات التي تخلص إلى ذلك لا يعيِّنها رئيس الوزراء، ولا تخضع لأيِّ عضو في الجِّهاز التَّنفيذي، وتعمل تحت إشراف النَّائب العام، بموجب «قانون النِّيابة العامَّة»، مقروءاً مع «قانون الإجراءات الجَّنائيَّة»!
(3) يكفي النَّظر إلى المادَّتين/ 7 و12 من «قانون لجان التَّحقيق لسنة 1954م» لإضاءة الفارق بين هذه اللجان وتلك؛ فمن جهة تنصُّ المادَّة/7 على مسؤوليَّة لجان التَّحقيق أمام رئيس الجمهوريَّة «رئيس الوزراء بموجب الوثيقة الدُّستوريَّة»، أو مَن يفوِّضه، أو الوزير المختص، وعلى تقديم تقريرها إليه. أمَّا من جهة أخرى، فعلى حين تُستخدم أقوال المتَّهمين والشُّهود أثناء تحرِّيات هيئات النِّيابة، كبيِّنة أمام المحكمة، فإن المادة/12 من «قانون لجان التَّحقيق» تمنع ذلك!
(4) وإذن، فمشكلة «لجنة أديب» الأساسيَّة ليس بطء إجراءاتها، أو تأخُّر نتائجها! كما أن نبيل نفسه أكَّد، في 13 يوليو 2020م، أن تحقيقاتهم «دخلت مرحلة دقيقة»، مِمَّا أعطى أملاً بقرب انتهائها، حسب فضائيَّة أم درمان،. لكنه ما لبث أن صرَّح، في نفس اليوم، لصحيفة «المواكب»، ضمن ارتباك بعض تصريحاته، بأن تحقيقاتهم «تحتاج، كي تنتهي، لما بين سـبع وثماني سـنوات»! مشكلة اللجنة الحقيقيَّة هي أنَّها، سواءً أبطأت أو أسرعت، لن تفي بعشم الملايين في ما يُنتظر مِن هيئة مستقلة تصبُّ تحقيقاتها، في نهاية المطاف، بين يدي محاكم مختصَّة، وقضاة أكفاء. ولا بُدَّ، في هذا الإطار، مِن الأخذ في الاعتبار بالحقائق الآتية:
أ/ اللجنة لا تملك، بالواضح، مثل هذا الاختصاص، ولا هذه الصَّلاحيَّة!
ب/ رئيسها نفسه أفاد، وبلسانه، في لقاء مع قناة الجزيرة، بتاريخ 29 فبراير 2020م، أن تفويضهم ينحصر في «تحديد المسؤوليَّة»، أمَّا تحويل الدَّعاوى إلى المحاكم «فتتمُّ عبر النَّائب العام»! ما يعني الإقرار الجَّهير بأن ما ينتظره الضَّحايا وذووهم ليس جزءاً من عمل اللجنة، وإنَّما هو من سلطة النَّائب العام!
ج/ هذا الإقرار يناقض، من ناحية، حقيقة أن الجِّهة التي شكَّلت هذه اللجنة، والتي ينبغي، من ثمَّ، أن ترفع إليها تقريرها، هي رئيس الوزراء، وليس النَّائب العام؛ كما يناقض، من ناحية أخرى، الزَّعم بأن النَّائب العام قد فوَّض سلطاته لهذه اللجنة!
د/ وحتَّى لو صحَّ زعم التَّفويض، اسـتجابة، كمـا قـيل، لالتمـاس من رئيس الوزراء (!) فإنه لا يعدو كونه مجرَّد «مضمضة شفاه»، أو محض «طق حنك lip service»! أو، في أفضل التَّقديرات، إجراء معيب لا يحقُّ للنَّائب العام أن يتَّخذه، لكونه يثير بلبلة لا حدَّ لها، أقلها أنه يضع اللجنة في ما يماثل موضع «الخنثى مشكل Hermaphrodite» في علم البايولوجيا (!) فلا هي خاضعة، بالكليَّة، لـ «قانون لجان التَّحقيق»، ولا هي خاضعة، بالكليَّة، لـ «قانوني الإجراءات الجَّنائيَّة والنِّيابة العامَّة»!
هـ/ الرَّاجح، والأمر كذلك، أن النَّائب العام نفسه لو سئل عمَّا إنْ كانت هذه اللجنة خاضعة لسلطته، فإنه سينكرها قبل صياح الدِّيك ثلاثاً، وإلا وضع نفسه، بالمجَّان، في موضع المسؤوليَّة عن عملها!
(5) أمَّا بالنِّسبة لـ «القياس الفاسد» الذي أجراه نبيل على عمل لجنة التَّحقيق الدَّوليَّة في أحداث دارفور، قائلاً إنه استغرق 20 عاماً (!) ليبرِّر تأخُّر عمل لجنته، فإن الصَّحيح هو أن الأولى التي شكَّلها كوفي أنان، بتوجيه من مجلس الأمن الدَّولي، برئاسة القاضى الإيطالي أنطونيو كاسيسي، بدأت عملها في الأوَّل من أكتوبر 2004م، واستكملته برفع تقرير إلى مجلس الأمن، فى يناير 2005م، وصت فيه بإحالة Referral الملف إلى المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة. وبالفعل أحال المجلس الملف، في31 مارس 2005م، بموجب القرار/1593، إلى المدَّعي الدَّولي. غير أن الأخير لم يحفل، قدر قلامة ظفر، بما توصَّلت إليه تحقيقات لجنة كاسيسي، بل افترع تحقيقاً مستقلاً انتهى في السَّادس من يونيو 2005م، بتوجيه الاتِّهامات إلى هارون وكوشِّيب وعبد الرَّحيم، ثمَّ أحالها إلى المحكمة الابتدائيَّة Pre – trial Court التي اعتمدتها.
(6) خلاصة الرَّأي عندي، إذن، أنه ليس مِن العدل الاستمرار في إيهام الضَّحايا وذويهم بأن هذه اللجنة  تستطيع، طال الزَّمن أم قصُر، توجيه الاتِّهامات، وفتح البلاغات، والإحالة إلى المحاكمات! الحكومة إن أرادت ذلك، ليس أمامها سوى إحالة الأمر برمَّته، مجدَّداً، إلى النَّائب العام الذي لا يجوز له، البتَّة، أن يحفل بتحقيقات هذه اللجنة، مهما بُذل فيها من جهد، أو صُرف عليها من وقت، وإنَّما يتوجَّب أن يفترع، من أوَّل وجديد، تحرِّيات «مستقلة»، ما يعني المزيد من الأعطال، قبل أن يقرِّر رفع الأوراق إلى محكمة مختصَّة. اللهم قد بلغت، ألا فاشهد!
الثُّلاثاء
في خطابه أمام القوَّات في الفشقة، قال الفريق أوَّل ياسر العطا: «إن هذه الأرض قد استشهد ودفن تحت ثراها القائدان العظيمان حمدان اب عنجة والزَّاكي طمل» (الفضائيَّة السُّودانيَّة؛ 12 فبراير 2021م).
الخطاب انصبَّ، بطبيعة الحال، على رفع المعنويَّات، وهو مرغوب فيه دون شك. ومع ذلك فقد اشتمل، في ما بدا لي، والله أعلم، على خطأ تاريخي. فالخليفة دفع، فعلاً، إلى جبهة القتال مع الحبشة، بأقوى أجناده: الجِّهاديَّة، وبصفوة قادته: حمدان اب عنجة والزَّاكي طمل. لكن المصادر تكاد تجمع على أن حمدان مات، فجأة، خلال المعارك، عام 1888م، إثر إصابته بالكوليرا، أو بالتَّايفويد، وقيل إثر تناوله أدوية بلديَّة، ودُفن بالقلابات «المتمَّة الإثيوبيَّة» (ونجت؛ 10 سنوات من الأسر في معسكر المهديَّة). أمَّا الزَّاكي الذي خلف حمدان، فقد جرى استدعاؤه، بغتة، إثر وشاية، إلى أم درمان، عام 1893م، فألقي القبض عليه، وحوكم، بتهمة الخيانة، أمام محكمة مشكوك في أن قاضيها كان، لسبب ما،  يضمر له حقداً دفيناً (علي المهدي؛ جهاد في سبيل الله)، فأدانه، وقضى بأن يودع في مكان مظلم بسجن السَّاير، ويُمنع عنه الطعام والشَّراب بتاتاً، فتوفي بعد زهاء الثَّلاثة أشهر، ودُفن بأم درمان.
الأربعاء
ذكَّرنا حسب الرسول عباس، مؤخَّراً، من تراث أمدرمان القديمة، نقلاً عن الصحفية فوزية يوسف، بأن حارات المدينة كانت تعرف مستخدمة بصَّحة البلديَّة اسمها «حنينة ام عجل»، عملها مراقبة البيئة، عندما كانت البلديَّة تعرف قيمة الصًّحَّة العامَّة حتَّى ستِّينات القرن الماضي! وقد أطلق عليها الأهالي ذلك الإسم لكونها كانت، في طوافها على الأزقَّة والبيوت لإرشاد النَّاس إلى المحافظة على البيئة، تنفيذاً للأوامر المحليَّة، ولردع المخالفين، تقود «درَّاجة هوائيَّة»، وهي في زيِّها الجَّميل، الجُّلباب الأبيض، والثَّوب الأبيض، والمركوب البرتقالي. وقد أقامت صداقات إنسانيَّة عميقة مع المواطنين. ولم تكن تلك الخدمة القائمة في التَّأكد من نظافة المرافق، باستخدام محلول «الفنيك»، وحكِّ أسطح الأزيار، مقصورة على أم درمان، وإنَّما كانت شاملة لمختلف المدن. لكن، على حين كان من يقدِّمون تلك الخدمة موظَّفو صحَّة رجال، تفرَّدت أم درمان بخدمة «حنينة ام عجل»! ولأن الشَّئ بالشَّئ يذكر، فقد كان مستخدمو البوستة يقومون بخدمة توزيع الجَّوابات والتِّلغرافات على المنازل، خلال ساعات النَّهار، وحتَّى المغرب! ويتحسَّر الكاتب على كوننا، وقد «تطوَّرنا» الآن، كما يُفترض، ألغينا تلك الخدمات البلديَّة التي تمثِّل نموذجاً للجِّدِّيَّة في خدمة المجتمعات، ويتساءل: بالله لماذا أوقفت السلطات المحليَّة عمليَّات رقابة البيئة، وتوزيع البريد، حتَّى صرنا نتغنَّي بأهازيج من شاكلة «يا حليل زمن البريد»، دون خجل من التَّناقض بين ذلك وبين رفعنا، عالياً، شعار «حنبنيهو»! كما يشدِّد الكاتب على ضرورة العودة إلى تلك الخدمة، باستخدام أرتال من الشَّباب والشَّابَّات، يطوفون على «درَّاجات هوائيَّة»، إحياءً لرمزيَّة «حنينة ام عجل»، فذلك أجدى مليون مرَّة من الاكتفاء بمضغ الشِّعارات الرَّنَّانة التي لا تتجاوز محض الكلام السَّاكت! ويقترح الكاتب التَّوثيق لإدارة مجتمعاتنا المحليَّة، بأن يحدثنا الأحياء من أبطال وبطلات ذلك الزَّمن الجَّميل «الجَّميل مقارنة، لا محض نوستالجيا» عن مهامهم تلك، كما ويحدثنا أهل الحكم المحلي عن متى ولماذا أوقفوا تلك المهام الرَّاشدة، وبأيِّ منطق؟! ثمَّ يطرح سؤالاً مباشراً للوالي عمَّا إن كان يفكِّر في نشر الوعي بأهميَّة تلك الخدمات النَّبيلة، ولا يترك الفضاء العام مستباحاً من بعض الجُّهلاء والأشرار! وفي الختام ليت أم درمان تتبنَّى ليس، فقط، تنظيم تكريم للأبطال المجتمعيِّين باسم «حنينة ام عجل»، بل وإطلاق اسمها على بعض المرافق الخدميَّة بعد إحيائها مجدَّداً!
الخميس
أفكِّر، هذه الأيَّام، في ما تراها كانت، قبل فترة، أسباب القلق والتَّوتُّر اللذين لم يكن من النَّادر أن يفضيا بي، أحياناً، لبعض النِّسيان المؤقَّت، قبل أن أتمكَّن من التَّخلَّص منه، ويعود ذهني صافياً، وذاكرتي حديديَّة، بحمد الله، كما في السَّابق. تلك النَّوبات المتقطِّعة شملت النسيان المحدود لأشياء تتَّصل بالأسماء، أو الأمكنة، أو الأزمنة، كالمواعيد، مثلاً، والتي غالباً ما كانت تحوجني للاعتماد على المفكِّرة، أو السِّكرتيرة، أو أهل بيتي، أو غيرهم، وهو أمر مزعج ما في ذلك شك. إبني د. أُبَيْ وأصدقاؤنا لأطبَّاء نصحوني بألا أترك الأمر يزعجني، وأن التزام بنظام غذائيٍّ متوازن، وأتناول بعض الفيتامينات، وأمارس رياضة المشي بانتظام، وأرتِّب لإجازات أرتاح خلالها من العمل. وأعتقد أنهم كانوا محقِّين حين قللوا من جدِّيِّة تلك النَّوبات، مؤكِّدين أنَّها إلى زوال مع الوقت، وحين عزوها، بوجه عام، إلى ما نعايش، رغماً عنَّاَّ، من ظروف سياسيَّة تتَّسم باضطراب غير مسبوق، رغم أن أكثر نماذج تلك النَّوبات لم تكن لتتَّصل، مباشرة، بالسِّياسة نفسها، لا من جهة الفكر ولا من جهة الوقائع. فقد زارني، مثلاً، ذات مرَّة، الإعلامي المجتهد فيصل سعد، من فضائيَّة «سودان بكرة» الفتيَّة التي ولدت بأسنانها، طالباً استضافتي في برنامجه، وجلس إليَّ قرابة السَّاعتين يرتِّب لمَحاور اللقاء، ثمَّ حددنا موعداً للتَّسجيل في بيتي. لكنني عندما حان الموعد المضروب كنت أبعد ما أكون عن تذكُّره، كما أن فيصل نفسه لم يذكرني! وهكذا حضر بأجهزته، وفريقه الفنِّي، ولم يجدني! وفي مثال آخر، التقيت في مناسبة ثقافيَّة، بمن قدَّموه لي على أنه ابن د. عبد الله هداية الله. ولسبب ما اختلط لديَّ الاسم، لحظتها، مع اسم الدكتور الكاتب موسى عبد الله حامد، فصافحته قائلاً إنني أعرف والده. غير أنني زدت متسائلاً عن سبب عدم رؤيتي لوالده في تلك المناسبة الثَّقافيَّة، وفي ذهني، بطبيعة الحال، شخصيَّة د. موسى الكاتب، فأسقط في يدي حين فوجئت بتنبيه البعض لي بأن د. هداية الله قد توفي، الأمر الذي ما كان له أن يغيب عن ذاكرتي قط، حيث كنت، شخصيَّاً، قد شاركت في تشييع جثمانه، ليس كأحد الشَّخصيَّات الأم درمانيَّة البارزة، فحسب، ولا، فقط، كأحد علماء البلد الأفذاذ، بل، أيضاً، لكونه، في مستوى أكثر إلفة، مَن حدَّد لوالدتي المريضة، عليها رحمة الله، القدر من أشعَّة الذَّرَّة التي كانت تحتاجها، وذلك بطلب له من معالجها المرحوم د. عز الدِّين علي عامر. رحم الله د. هداية الله، وأطال في عمر د. موسى الذي كان أوَّل من عرَّفني به صديقي الرَّاحل مهدي الطيِّب الحلو، وقد أهداني، يومها، نسخاً من أجزاء مؤلفه البديع عن ذكرياته في خور طقَّت، كما جمعني به، في مرَّة لاحقة، صديقي د. عبد الحميد رحمة، مدَّ الله في أيَّامه، ومتَّعه بالصَّحَّة والعافية، وذلك أوان كانت عيادتاهما تتساكنان في مبنى واحد غرب مستشفى أم درمان.
الجُّمعة
ما كادت تمرُّ سويعات على الخبر الذي راج، أواخر الأسبوع قبل الماضي، في كلٍّ من الخرطوم وأديس أبابا، بشأن اعتماد الاتِّحاد الأفريقي، بطلب من مصر، خريطة تنسب حلايب إليها، حتَّى سارع كلٌّ من الاتِّحاد الأفريقي ومصر لنفيه! مع ذلك فإن هذا النَّفي لا يعني أن الخبر كاذب في أصله! فالمتحدِّثة باسم رئاسة مفوَّضيَّة الاتِّحاد أكَّدت أنه «ليس من سلطات الاتِّحاد اعتماد خرائط ترسل من دول، أو منظمات، دون مصادقة الدُّول الأعضاء والوكالات المتخصِّصة». لكنها لم تنتبه، في غمرة حماسها، إلى انزلاقها، في هذا القول، إلى تأكيد «إرسال مصر الخرائط إلى المفوَّضيَّة»، في تناقض مع «نفي» المتحدِّث باسم الخارجيَّة المصريَّة «إرسال هذه الخرائط»، قائلاً إن ذلك الحديث «عار من الصِّحَّة»! ولكي يبرِّر هذا «العُري» أضاف قائلاً: «لأن الخلاف تتمُّ مناقشته وبحثه والسَّعي في الوصول لحلول بشأنه، مباشرة، بين البلدين»! إنتهى نفي المتحدِّث باسم مصر. والتَّعليق المنطقي عليه هو أن من يسمعه يعتقد أن دولته قد بحَّت حنجرتها من الدَّعوة للحلول الدِّبلوماسيَّة، أو المناداة بإحالة النِّزاع إلى محكمة العدل الدَّوليَّة، وأن السُّودان هو الذي ظلَّ يعرقل كلَّ تلك الحلول، مع أن العكس هو الصَّحيح، إذ أن السُّودان هو الذي ظلَّ يطلب تلك الحلَّول، على مدى أكثر من ستين سنة، ويحرص على الاحتفاظ بحقِّه، وفق القانون الدَّولي، بتجديد إيداع شكواه، سنوياً، لدى مجلس الأمن، منذ العام 1958م، وأنَّ مصر هي التي ظلت ترفض تلك الحلول، بينما وافقت عليها، في ذات الوقت، حتَّى في نزاعها مع إسرائيل حول «طابا»!
وإذن، فثمَّة ما يثير الشَّكَّ بجدِّيَّة حول هذا النَّفي، سواء من جانب مصر، أو الاتِّحاد الأفريقي، خاصَّة وأن مبعوث مفوضَّية الاتِّحاد الأفريقي، بشأن المسألة، إلى السُّودان، محمد الحسن ولد لبَّات، أكَّد أن المفوَّضيَّة قامت «فقط» بـ «تمرير أوراق» وصلتها من دولة عضو «مصر بعبارة أخرى»، إلى باقي الدُّول، وذلك كله مِمَّا يشكِّل أساساً قويَّاً للاسترابة في أن الخبر صحيح، وأن القصد منه كان إطلاق «بالونة اختبار»، لكنَّها «ضربت في العرَّاضة»، بشكل أخرق، بل غاية في السَّذاجة!
السَّبت
الإسلامويُّون مثيرون للسُّخرية في كثير من وجوه أدائهم الفكري والسِّياسي، بدرجة تتجاوز، أحياناً، الحنق ضدَّهم إلى الإشفاق عليهم! أنظر، مثلاً، للطريقة البلهاء التي ما ينفكُّون «يتشعبطون» بها في أيِّ موضوع ليصوغوا منه اتِّهاماً للحكومة الانتقاليَّة، ولحاضنتها السِّياسيَّة، بـ «الشِّرك والكفر والإلحاد»! خذ عندك احتجاجهم، مؤخَّراً، على اشتمال منهج الصَّف السَّادس الابتدائي سؤالاً يطلب من التَّلاميذ جمع كلمة «رَب»! وبما أن الجَّمع هو «أرباب»، فالمقصود، إذن، إرباك المعلِّمين كافَّة، بحرف أنظارهم إلى أن هذا الجَّمع يعني «إشراك آخرين» مع الله في «الرُّبوبيَّة»، غافلين، أو متغافلين، عن أن  للكلمة دلالتين، «لغويَّة» و«اصطلاحيَّة»؛ فأمَّا «اللغويَّة» فهي «المالك أو السَّيِّد»، كقولك «ربُّ الأسرة»، أو «ربُّ العمل»، أو «ربَّة الصَّون»؛ وفي قول ابن التَّعاويذي «إِذَا كَانَ رَبُّ الدَّارِ بِالدُّفِّ ضَارِبَاً/ فَشِيْمَةُ أَهْلِ الدَّارِ كُلِّهِمِ الرَّقْصُ»، وتُجمع على «أرباب»، وأقدم المساجد في الخرطوم هو «مسجد أرباب العقائد» المسمَّى، في الأصل، على بانيه «الشَّيخ أرباب العقائد» (1661م ـ 1696م). وبعد أن أمر الملك فاروق بتجديده عام 1946م، عُرف، شعبيَّاً بـ «جامع فاروق». أمَّا الدَّلالة «الاصطلاحيَّة» فتذهب إلى اسم الجَّلالة، بل وقد يقال، أحياناً، «ربُّ الأرباب»، للتَّشديد على اختلاف الدَّلالتين.
الأحد
من نوادر العرب أن تاجر عطور استأجر حمَّالاً ليحمل له صندوقاً مليئاً بالقوارير إلى دكَّانه في السُّوق، مقابل أن يعلمه ثلاث وصايا نافعة. فحمل الحمَّال القفص، ولمَّا بلغا ثلث الطريق طلب من التَّاجر الوصيَّة الأولى، فقال التَّاجر: «من قال لك إن الجُّوع خيرٌ من الشَّبع فلا تصدِّقه»! ولمَّا بلغا ثلثي الطريق طلب الحمَّال الوصيَّة الثَّانية، فقال التَّاجر: «من قال لك إن المشي خيرٌ من الرُّكوب فلا تصدِّقه»! ولمَّا بلغا دكَّان التَّاجر بالسُّوق طلب الحمَّال الوصيَّة الأخيرة، فقال التَّاجر: «من قال لك إنه وجد حمَّالاً أرخصُ منك فلا تصدِّقه»!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى