الرأي

حول قدرة السودانيين الخارقة على الاختلاف والفشل في إدارة الاختلاف

د. بكري الجاك

في الفترة من مايو 25 إلى سبتمبر من العام 1787 اجتمع نفر كريم من الموطنين وقادة الرأي من 13 ولاية أمريكية (مستعمرات سابقة) لتدارس أمر الفشل الذي أصاب الاتحاد الفيدرالي الذي تشكل في أعقاب انتصار الثورة الأمريكية وإعلان استقلال الولايات المتحدة الأمريكية من التاج البريطاني في الرابع من يوليو 1776 وكان هدف المجتمعين هو البحث عن طرق لترقيع الاتحاد الفيدرالي الحديث الذي كانت أوجه ضعفه بائنة وتمثلت في رفض الولايات من إرسال جيوش للجنرال جورج واشنطن قائد حرب التحرير حينما بدأت إنجلترا بمعاودة الهجوم وعدم وجود تفويض كافٍ للحكومة الفيدرالية الضعيفة من اتخاذ قرارات تتمثل في العلاقات الخارجية وفي تنظيم التجارة والعلاقات بين الولايات التي كانت تعيش حالة دول شبه مستقلة، ما توصل إليه المجتمعون في فيلادلفيا (المدينة الدستورية كما تسمى اليوم) هو التخلي عن الأوراق الفيدرالية التي كانت تنظم العلاقات بين الحكومة الفيدرالية والولايات بما في ذلك الكونغرس الفيدرالي وشرعوا في كتابة دستور جديد أصبح أول دستور مكتوب لجمهورية على وجه الأرض وهذا الدستور أقام الشرعية لتشكيل حكومة فيها فصل للسلطات بين القضاء والتشريع والتنفيذ ومنذ إجازته في عام 1789 قد تم تعديله 27 مرة، وفي أمر التشريع قد قسم الدستور البرلمان بين مجلس للشيوخ غير منتخب وبين مجلس نواب منتخب وفقا للتعداد السكاني، وحتى العام 1913 أي قبل التعديل الدستوي رقم 17 لم يكن أعضاء مجلس الشيوخ ينتخبون بل يتم تعيينهم بواسطة حكام الولايات وأحد شروط تعيينهم كانت أن يكونوا ملاك أراضٍ في ولاياتهم، وبغض النظر عن كل أوجه النقد التي يمكن أن توجه للتجربة الأمريكية كتجربة إنسانية استثنائية إلا أن فكرة النخبة في قيادة المجتمع هي ما أهدته هذه التجربة للمشتغلين على النظرية السياسية.

التجربة الأمريكية هي تجسيد لما يعرف ببدايات تشكل نظرية النخبة elite theory   وقوامها أن هنالك طبقة من السياسيين وأصحاب الأعمال تقوم بتصميم الإطار العام الذي يفتح الأبواب لمشاركة الجميع (العوام) فيما يعرف بـ pluralism وفي حقيقة الأمر أن أي مساحة من الحريات التي اكتسبت في أي مجتمع عبر التاريخ قد أتت عن طريق هؤلاء النخب، الامبراطوريات القديمة لم تكن تسمح إلا لنخبة صغيرة ومصطفاة بالمشاركة في أمور الحكم من خلال أدوار مرسومة في طاعة الملوك، وفي لحظة تاريخية معينة تبنت الامبراطورية الرومانية المسيحية كدين رسمي للدولة حيث تماهت السلطة الروحية مع السلطة السياسية الأمر الذي جعل مخالفة الحكام في عروش الأرض بمثابة مخالفة الرب في ملكوت السماء، ومحاكم التفتيش أو ما يعرف بعصر الظلام في بدايات القرن الثاني عشر الميلادي ما زالت تقف شاهد على ذلك الزمان، ورغم ذلك في عام 1215 تحدي البارونات (النخبة) سلطات الملك جون في إنجلترا وأجبروه على التوقيع بما عرف بـالماقنا كارتا (وثيقة الحقوق) وبذلك فتحوا الطريق لحريات وصلت حتى إلى العوام، خلاصة القول إنه عبر التاريخ  وفي أي مجتمع النخبة السياسية الماركسيون يسمونها الإيفينت- avant-garde  أو البرجوازية الصغيرة) أي كان تكوينها الاجتماعي هي من يقود أي عملية تغيير اجتماعي وسياسي وهي عادة من يحكم (راجع The Power Elite by C. Wright  هذا لا يعني أن عامة الناس ليس لها دور بالعكس عامة الناس هم وقود وجوهر أي عملية تغيير حصلت في تاريخ البشرية، وهذا الـtension التوتر بين عامة الناس أو الـ populismوفعل النخبة elite هو ما يفسر التنافس الاجتماعي في حدوث أي فعل شعبي ثوري، في السودان اليوم النخبة التي تقدمت الصفوف وتعرضت للسجون والقمع والتعذيب ترى أحقيتها (الثورية) في قيادة التغيير بينما بعض من يدعي أو يعتقد أنهم وقود الشارع خصوصا هؤلاء الذين يعتقدون بأنهم الأفان قارد (سواء كانو ماركسيين أم لا)  وربما يؤمنون بأنهم قد تمكنوا من إكمال حلقة التجاوز الطبقي لذا بإمكانهم الحديث نيابة عن غمار الناس، المشكلة أن ال populismأو الشعوبوية تاريخيا قد تم استغلالها بواسطة ممن يعتقدون أنهم متجاوزون طبقيا ويمثلون العوام  ومن الفاشيين على السواء مما يجعل التسليم بأن فكرة الإجماع الشعبي ليس بالضرورة هي الفكرة الأصوب حتى وإن بدأ أنها الأكثر قبولا باعتبار أنها ال wisdom of the crowdأي حكمة الأغلبية التي لا تخطئ وهذا ربما سيكون أحد معاول هدم التغيير الذي انجزته الثورة السودانية حتى الآن،

هنالك ضرورة مهمة لخلق توازن ما بين دور النخبة ودور الجماهير وإذا اختل هذا التوازن فالنتيجة ستكون سلبية وربما كارثية، الوضع المثالي أن تكون النخبة التي وجدت نفسها في قيادة التغيير الاجتماعي تتمتع بالصرامة الأخلاقية وبالحس الاجتماعي وبالوجدان الأصيل والعقل السياسي الذي يمكنها من التعبير عن تطلعات الجماهير دون ابتزاز واستغلال عاطفي،  ولعمري هذا أمر عسير  فالحديث باسم الجماهير أيسر من معرفة ماذا تريد الجماهير، فهنالك ربما إجماع على خطوط عريضة متفق حولها وليس بالضرورة الآليات التي ستوصل إلى تلك الأهداف والغايات وطبقا لنطرية الاختيار العام Public Choice Theory كل مجموعة ستدعي أن مصالحها هي مصالح الجماهير وللتعرف على مصالح الجماهير الحقيقية لابد من فتح المجال العالم لجعل هذه المصالح تتنافس وتتدافع وفقا لميكانيزمات متعددة، وفي حقيقة الأمر حتى في أعرق الديمقراطيات أحيانا يقف الناس ضد مصالحهم وذلك نتيجة لتقاطع وتضارب وتعقد العلاقات المركبة التي تحكم هذه المصالح، ففي سودان الثورة هنالك من يريد بل الكيزان غض النظر عن الوسيلة وهنالك من يريد تحول ديمقراطي يضمن الحريات ويوفر استقرارا سياسيا واقتصاديا وهنالك من يريد تحسن مستوى المعيشة ولا يكترث إلى أمر الحريات وهنالك من يطمح للصعود إلى الحكم وهذه المصالح قد تتعارض وتتنافس في بعض الأحيان، وربما هنالك من يعتقد أنه يستطيع أن يتحدث باسم الجماهير أفضل من غيره وكأنما يمتلك “جماهيرونوميتر”، خلاصة القول إنه في ظل هذا التعدد والتنافس في المصالح  يصعب الإجماع على أهداف محددة لفترة انتقالية إلى حين توطين وإقامة نظام حكم يمكن الجميع من التعبير عن مصالحهم وقناعاتهم وتطلعاتهم وهذا أصعب مافي مرحلة الانتقال.

وللتدليل على ما نقول أنه ما أن تم الإعلان عن قائمة الولاة المدنيين المكلفين حتى تصاعدت الأصوات بالتأييد هنا وبالطعن هناك، مع ملاحظة أن السائد في ثقافة ممارسة العمل العام هو الشناف والتبخيس والتثبيط وبشكل مرضٍ أحيانا، وهذا واحد من أمثلة الأخطاء المنطقية Logical Fallacies الشائعة كون أن تقول (أ) سيء لا يعني أن (ب) أفضل، وهذا ما يقوم به البعض حتى دون وعي (ردم أي شيء لأن ردم الآخر يعني ضمنا أنك أفضل)، وهذا هو الأمر نفسه الذي دمغ أداء الحكومة الانتقالية التي لم تكمل العام بعد، خصوصا حول بعض القضايا السياسية التي تم تحويلها بقدرة قادر إلى قضايا بيع للوطن وللضمير وللمواقف بواسطة العقول التبسيطية الاختزالية التي لا تستطيع أن تجمع بين النقائض في ذات الوقت، الآن نحن على أعتاب بداية مرحلة مهمة بتعيين ولاة مدنيين وللعلم هذا الإعلان هو بمثابة بدء التطبيق لشعارات الثورة خارج الخرطوم، ولعمري هذا أمر عظيم وكنت أتمنى أن يتحقق الإجماع والدعم حول كل الولاة المدنيين حتى وإن كان هنالك خلل بائن في الطريقة التي اختارتهم بها النخبة وأدعت أنها إرادة الجماهير في الولايات، ومهما يكن ففي ظل غياب آلية ديمقراطية مثل الانتخاب المباشر يصبح من الصعب الحديث عن إرادة الجماهير بل وحتى في ظل واقع ديمقراطي وانتخابات حرة يمكن أن تكون نتيجة الانتخابات لا تعبر عن إرادة الجماهير بشكل صحيح مطلق ولكن التسليم بفكرة الانتخابات كألية سلمية لتبادل السلطة تؤسس لشرعية الحكم، هذا الأمر جعلني أتسائل وفي ذهني ثنائية النخبة والجماهير هل يا ترى سيفوز الرب إذا ما نزل انتخابات في السودان وهذا ليس سؤال للإجابة بل سؤال للحث على التفكير قبل أخذ موقف أو  الاصطفاف حول أي دعوة باسم الجماهير أو من يدعي أنه أقرب إليها من حبل الوريد ويعرف ماذا تريد، الأجابة العلمية الحقة أن الجماهير لا تعرف ماذا تريد بشكل واضح ومعرف وعملية الاحتجاج والثورة هي جزء من عملية الـArticulation of Interests أي تعريف المصالح وهو فعل السياسة بمعناه العلمي (تعريف وإعادة تعريف المصلحة العامة والخاصة)، فيا سادتي الرجاء التفكير ألف مرة قبل الحديث باسم أي جماهير أو حتى توظيفها لخدمة أهداف سياسية قصيرة المدى والأهم هو أن نعطي السيد رئيس الوزراء وحكام الولايات المكلفين فرصة للعمل قبل أن نصدر الأحكام الجزافية المجانية فقط لأنها لا تتوافق مع توجهاتنا و قناعاتنا المسبقة، حكومة الثورة الآن أحوج إلى الدعم من أي وقت مضى فالتحديات مازالت قائمة والدعم أفيد اذا انخرط كل منا في عمل إنتاجي مفيد بدلا من أن نتحول كلنا إلى محللين سياسيين ومتفرجين، ففعل النقد والهدم أسهل بكثير من أخذ المبادرة، هذا لا يعني أن حكومتنا غير مطالبة بمخاطبتنا وبتفسير توجهاتها وبرامجها، بل هي دعوة إلى أن يتحمل كل منا مسؤليته تجاه عملية البناء ولبندأ بتحويل شعار مدنية إلى سلوك عملي مثل الاهتمام بنظافة الأماكن العامة والمبادرة بالفعل، فالنتعلم أننا قد نختلف في كثير من الأشياء لكنه بإمكاننا الاتفاق على شيء محدد يمكن إنجازه مثل صحة البيئة، ما لم نغير طرائق تفكيرنا، أشك أن كائن من كان (ربما حتى الرب) سيجد إجماعا بيننا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى