جندر

: حافظات الحياة ضد الحرب (2)

غيرت وضعية  حملها لطفلها اذ شعرت بتنميل خفيف بكتفها .. أتتها أصوات اطفالها الآخرين بعيدة” ماما نيساك” وهى تركض لاهثة خلف الحافلة ..لقد تركتهم  منذ ساعات الصباح الأولى برفقة ابنتها الكبرى  حملت الصغير بيد و”قفة” أدواتها بيد أخرى وشدت على “اللاوى” بقوة فى كتفها… عندما بدأت الشمس فى التيقظ من سباتها كانت قد أكملت مشوارها اليومى المعتاد للمحطة البعيدة ، لم تكن تملك ساعة يد ولكنها كانت تستطيع ان تقدر مدى تأخرها من درجة سطوع الضوء ..عندما تنجح فى اقتلاع مقعد تضع قفتها بين أقدامها والصغير بحجرها وتسرح تفكر فى هم اليوم الطويل واحتياجاته، لقد تركت الصغار دون فطور ولن ترجع إليهم قبل الغداء … لم تترك لهم سوى القليل من السكر والشاى ولبن البودرة لتقوم ابنتها بعمل الشاى.. على الأقل سيشربون الشاى.. تنهدت بعمق .. اعتادت ان تفكر فى كل شىء فى هذه اللحظات النادرة التى تكون يديها فيها غير مشغولة .. تفكر بكل شىء عدا زوجها” دانيال”… لقد قررت منذ زمن انها لن تنكأ جراحها بمهماز ذكراه .. كانت قد مرت خمسة سنوات ونصف دون ان ترآه .. عاد جميع من كان معه من مناطق العمليات ولم يعد.. سألت عنه بكل مكتب أرسلوها اليه.. أحد أخوانه سافر لمنطقة بعيدة متاخمة للحدود مع يوغندا بحثاً عنه دون جدوى، أرسلوا لها ذات صباح “أغبش” ظرف صغير به نقود قليلة، كانت قد تجاوزت احزانها على فقده من زمن وصارت تبحث عن حقوقه خصوصاً وانها كانت بلا مهنة ولاشهادة ، عائلته وعائلتها بسطاء الحال لايملكون ما يسدون به جوع اطفالهم. لذا واجهت الأمر بشجاعة وقررت ان تخرج للعمل ، لن يمكنها البحلقة فى الحوائط واطفالها يبكون جوعاً .. خرجت من منزل الايجار بعد ان انتهى املها بعودة زوجها وتسديد ايجار ثلاث سنوات ظل صاحب المنزل يطمئنها بعدم الحرج منها “فالناس للناس” صحيح ان المنزل شبه مهدم ولكنه يأوى أطفالها كما انه قريب من المدارس.. بحثت عن منزل بسعر يناسب المعاش الضئيل لزوجها الا انها لم تجد الا فى الاطراف البعيدة بعد عام كانت ابنتها الكبيرة قد تركت المدرسة لانها لم تحتمل المشوار البعيد لأقرب مدرسة وبذات الوقت لم تحتمل والدتها تسديد نقود المواصلات اليومية، كانت بذلك قد حكمت على اختيها واخيها بذات المصير اذ انها كانت ترافقهم كما ان والدتها شعرت باستحالة التزامها بتسديد مصاريفهم جميعاً. .. رجعت بآخر النهار بكيس صغير به طماطم ودكوة ورطلين سكر ولبن بألفين وبداية”نزلة” ومزاج معتل لأخر الحدود…

أمام منزلها وضعت صاجها والزيت الساخن يغلى به… رصت أكياسها الورقية فقد كانت تصر على استخدامها لبيع الطعمية لم تكن تقبل ان تستعمل أكياس النايلون كانت ترد على من يسألها:” انتى يانفيسة مالك مابتجيبى أكياس نايلون ؟” تقول بلاتفكير ” بررىّ  ماببقى سبب للناس، النايلون للشى السخن بجيب المرض الكعب ..” وتضرب بكفها على فخذها باعدة للشر ، منذ ان تبدأ فى وضع “كانونها” كان زبائنها يتراصون فحسب الفقر فى منطقتها فغالب الناس لايتناولون غداءهم وينتظرون ان يشتروا منها الطعمية التى تكون بمثابة غداء وعشاء ولأن طعميتها أشتهرت بجودتها كان “صاجها” ينافس كل “الصيجان” الموجودة بقرب الدكاكين، من وقت طويل قررت ان تجلس بقرب بيتها بعد ان كانت تجلس بقرب الدكان المجاور الا ان صاحب الدكان لحظ الاقبال عليها دون شراء الفول فطلب منها زيادة الايجار فغادرته غير أسفة لان نظراته إليها كانت أسخن من زيت صاج طعميتها .. بحركة آلية بدأت ترمى بعجين الطعمية بالزيت..لكم صارت تكره  هذه الرائحة التى يراها الآخرين شهية.. حتى أطفالها صاروا لايقبلون بأكل المتبقى من الطعمية .. تشششششش…تششششششش… أنصتت لصوت العجين وهو يتلقى النار بصراخ ..  كذلك الصراخ العالى الذى تلقاها فى ذلك العصر الغريب.. ولجت المنزل حاملة بعض الملابس الصغيرة أهدتها لها جارتها لانها كانت تشرف على الوضوع.. وجدت حماتها تصرخ بإسم زوجها الغائب فى الحرب منذ أكثر من سبعة أشهر.. لم تستطع فهم مايجرى او لعلها فهمت ولكنها انكرت مافهمته. صارت تصرخ بها بذات القوة:” مالو ..مالو؟” وحماتها تجيبها بانه مات.. ولكنها ظلت تسأل” مالو مالو؟” لأكثر من ثلاثة ليال قضتها بالمستشفى بعد ان انجبت طفلها ناقص ولم ينجو رغم وضعه بالحضانة… توسلات من حولها بأن تلتفت لابنائها أعادتها للواقع .. خرجت من بيت زوجها بعد ان توفيت والدة زوجها وتزوجت حماتها برجل كان أول ما استطاع اقناعها به ان تبيع منزلهم الكبير وتشترى منزل صغير ليستثمر ما يربحونه من هذه العملية، ولأن عائلته وعائلتها بسطاء الحال لايملكون ما يسدون به جوع اطفالهم. لذا واجهت الأمر بشجاعة وقررت ان تخرج للعمل ، لن يمكنها البحلقة فى الحوائط واطفالها يبكون جوعاً … بحثت عن منزل بسعر يناسب المعاش الضئيل لزوجها الا انها لم تجد الا فى الاطراف البعيدة بعد عام كانت أبنها الكبير قد ترك المدرسة لانها لم  يعد تحتمل رؤيتها وهى تبيع الطعمية فقرر ان يعمل أيضاً ،.. دخلت بآخر الليل يعاونها ولدها الكبير الذى صار رغم عودته منهكاً يجلس بجوارها الى ان تكمل البيع خوفاً عليها من السكارى والصعاليك.. بكيس صغير تدخل البيت  أخر الليل . كيس به بقايا طعمية ورطلين سكر ولبن بألفين وبداية”نزلة” ومزاج معتل لأخر الحدود…

إن النساء فى السودان دفعن بصورة مباشرة الحرب ونواتجها  من نزوح وفقر مدقع وخلافه . ويتحملن هذه الكلفة بفدائية عالية تعادل فدائية من يحمل رشاش على كتفه ويقتحم صفوف العدو ، فالموت لحظة خاطفة والحياة طويلة فأى القرارين أصعب؟ ان المجتمع السودانى لم يستطع أن يدعمهن ولو بتنازل بسيط عن قيمه الذكورية السائدة فرغم ان عمل المرأة قد فرضته ظروف الحرب- وليس تحديث متعاف- الا ان العاملات فى المهن الهامشية يعانين مرّ المعاناة من نظرة المجتمع لهن، فالسلطة الذكورية التى تقود الرجال الى العنف والإقتتال فى ساحات المعارك هى ذاتها التى تحاكم وتجرم النساء المقاتلات لتربية ابنائهن فحسب بحث “الضغوط التى تواجه بائعات الشاى بولاية الخرطوم ” أجرته الطالبات مهاد أبوبكر وهويدا سليمان من مدرسة علم النفس  بجامعة الاحفاد للبنات،وتحت إشراف الدكتورة “آمنة رحمة “إحدى رائدات العمل فى مجال السلام فى السودان. فان 45% من عينة البحث لاينصحن الأخريات بممارسة هذه المهنة لما فيها من ذل وهوان..وأن 79% منهن يجدن حرج بالغ فى ممارستهن لهذه المهنة،ونسبة 52% ذكرن انهن يتعرضن لإنفعالات نفسية كبيرة وضغوط. للحد الذى يجعل 40% منهن يشعرن بخفقان وارتفاع فى ضربات القلب طوال اليوم، فأى حياة محزنة التى حشرت الحرب فيها هؤلاء النسوة ” ومحزنة”  فعلاً هى حياتهن فحسب البحث فإن 73%  يشعرن بحزن غالب الوقت.

تظل النساء مسددات فاتورة الحروب.. من جسدهن .. طاقتهن النفسية ..وأحلامهن.. “نفيسة ونياساك”  أخوات فى الهم قد تنظران لبعضهما عبر ظلال ثقافتيهما ولكن عندما تنظران  بعمق أكثر لملابس احدهما الأخرى تدركان لكم هما متشابهات ف”التوب” المهترىء لايختلف عن “اللاوى” الباهت الألوان ، وان نظرتا لأيديهما فستجدا ذات الحروق من “الصاج الساخن والكفتيرة الغليانة” وان جلستا وتكاشفتا ستحكيان عن ندوب الروح والفراش الخالى ووجع القلب من حياة يواجهنها وحيدات.. ستحكيان عن ذلك الهواء الذى يملأ القلب بسبب فشل الأحلام .. فلتكن النساء حافظات للحياة غير مستسلمات للدمار… أو بعد هذا يصوروننا كضعيفات وجبانات؟ هل الشجاع من يتقدم للموت أو من يتقدم للحياة؟

هادية حسب الله

[email protected]

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى