الرأي

ثورة أكتوبر.. ذكرى الذكرى

جعفر خضر
تكمن عظمة ثورة أكتوبر ١٩٦٤ في أنها الثورة السودانية الأولى التي تزيح نظاما دكتاتوريا ليس في السودان فحسب بل وفي أفريقيا والعالم العربي.
وتكمن عظمة ثورة ديسمبر ٢٠١٨ في أنها أكثر اتساعا جغرافيا وطولا زمنيا، فلقد بدأت في الدمازين وسنار وعطبرة والقضارف لتبلغ الخرطوم ثم تتسع باتساع السودان. وزمنيا بدأت في ديسمبر ٢٠١٨ وأسقطت البشير في أبريل ٢٠١٩، وتوصلت قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري لاتفاق في أغسطس، ولا تزال الثورة مستمرة.
ظلت ذكرى ثورة أكتوبر مناسبة مهمة طوال عهد الإنقاذ البائد يتعلم فيها المواطنون العبر ويشعلون بها جذوة النضال. ولا نزال نحتاج إلى التعلم من ثورة أكتوبر لإنجاح ثورة ديسمبر وتحقيق شعارها حرية سلام وعدالة في ظل دولة مدنية ديمقراطية تحقق المواطنة المتساوية.
لقد عصفت الصراعات الحزبية بثورة أكتوبر فقد مارست القوى السياسية الكبرى حزب الأمة والاتحادي بجانب الإخوان المسلمين إقصاء للحزب الشيوعي بحله وطرد نوابه من البرلمان، وتغوّل البرلمان المنتخب، بالأغلبية الميكانيكية، على السلطة القضائية ليضرب بعرض الحائط قرار المحكمة العليا التي أبطلت قرارات البرلمان. مما أدى بالحزب الشيوعي إلى تأييد انقلاب مايو ١٩٦٩.
فقد عصفت الصراعات التافهة بثورة أكتوبر لتسيطر دكتاتورية نميري على حكم البلاد لستة عشر عاما فأضرّت بالوطن وأضعفت الأحزاب.
رفعت ثورة أكتوبر شعار استقلال القضاء، وبالفعل أزاحت الفاسدين من القضاة، مثل أبورنات الذي كان زراعا لنظام عبود الديكتاتوري. لكن سرعان ما قوضت الأحزاب العدالة كما ذكرنا آنفا.
وظل الشعب السوداني يناضل حتى نجح في إسقاط نظام نميري في أبريل ١٩٨٥. فهلا استفدنا اليوم من سلبياتنا في أعقاب ثورة أكتوبر وتخلينا عن الرغبة في الهيمنة وإقصاء الآخرين، والتآمر بالتقرب من العسكر وإغراء عساكر السيادي، أو غيرهم، بالاستيلاء على السلطة؟
نحتاج للتعلم من ثورة أكتوبر من إيجابياتها في تطهير الأجهزة العدلية من الفاسدين ونستفيد من السلبيات بعدم التدخل في السلطة القضائية أبدا. فلا يزال واجب إصلاح الأجهزة العدلية في قمة مطالب الثورة، إذ لا تزال قضايا القصاص للشهداء ومعاقبة منتهكي حقوق الإنسان عالقة بسبب تعطيل عساكر السيادي لأي تقدم في هذا الملف، حتى لا تطالهم العدالة، خاصة وأن بينات تورطهم في فض اعتصام القيادة تتوفر لمئات من الشهود وفيديوهاتها مبذولة في الأسافير؛ ولهذا فالثورة لا تزال مستمرة.
إن الثورة السودانية التي اشتعلت في ديسمبر ٢٠١٨ نتاج لتراكمات ثورية طوال عقود الإنقاذ الثلاثة، وكانت ذكرى أكتوبر إحدى مناسبات زيادة التراكم الثوري. وللكثير منا ذكرياته مع هذه المناسبة في مدن السودان المختلفة.
وأذكر منها احتفالاتنا بأكتوبر ونحن طلاب في جامعة الخرطوم في تسعينات القرن الماضي، التي كان أبرز من أحيا لياليها الفنان أبو عركي البخيت وفرقة عقد الجلاد، وأذكر من الشعراء الذين كانوا يترددون على الجامعة وقتذاك هاشم صديق، والقدال، وعثمان بشرى، وعاطف خيري، والصادق الرضي. وكانت هذه الاحتفالات محفوفة بالتحديات في ظل ديكتاتورية البشير التي تنظر لذكرى أكتوبر كحالة عدائية . كما أذكر احتفالات الحزب الاتحادي والشيوعي بالقضارف. واحتفالات منتدى شروق الثقافي العديدة بالمناسبة.
لكن أبرز احتفال، لن أنساه أبدا، هو احتفال منتدى شروق يوم ٢١ أكتوبر ٢٠١٧ بالقضارف، والذي كان يفترض إقامته بنادي ديم حمد، بمشاركة الشاعر الكبير محمد طه القدال. ولكن بعد تجهيز المكان بالساوند سيستم والكراسي والإضاءة والكاميرات، واحتشاد الجمهور، تدخل جهاز الأمن ومنع إدارة نادي ديم حمد من إقامة الاحتفال في دارهم.
ولم تشتعل ثورة أكتوبر نفسها إلا عندما تم منع ندوة طلاب جامعة الخرطوم بالقوة، وتصدى الطلاب ببسالة، والطالب أحمد القرشي طه لم يكن في فمه أكثر من هتاف، ولم يكن في يده أكثر من حجر وكان في المقدمة، انطلقت رصاصة الشرطة فزفته شهيدا وأشعل التاريخ نارا واشتعل .
بعد المنع بواسطة الأمن جهرنا في نادي ديم حمد بأكتوبريات محمد المكي إبراهيم، في تحد عنيد للسلطة الغاشمة.
وَتحركت مجموعة من الشباب والمواطنين، في موكب سلمي، من نادي ديم حمد إلى المكان البديل “قاعة عدن” بديم النور، تحركوا وهم يهتفون في حماس ويرفعون شارة النصر بأيديهم متجهين جنوبا إلى سوق القضارف ومن ثم العبور إلى ديم النور. وسبقهم آخرون إلى قاعة عدن على بعد يقل عن كيلومترين لإعداد المكان. كان ثوار الموكب يهتفون..
عائد عائد يا أكتوبر
كان أكتوبر فجر الغد
وكان القرشي شهيدنا الأول
عندما توغل الموكب داخل سوق القضارف هجمت عليه قوة مسلحة من الشرطة، فتم اعتقالي برفقة المكفوف محمد إبراهيم آدم ناصر والذي تم ركله بعنف على العربة. لم يكن هناك قاضٍ في قامة عبد المجيد إمام الذي زجر ذلك الشرطي الذي كان بصدد إطلاق النار على متظاهري أكتوبر 1964 وأمره بالمغادرة فانصاع الشرطي للهيبة السامقة.
وتقاطر المواطنون إلى قاعة عدن التي احتشدت بالحضور العازم على الاحتفال بأكتوبر مهما كان الثمن ، وتغنى الفنان عوض مشاوي وصدح الصادق عز الدين كأنه يرى انبلاج فجر ثورة ديسمبر بأم عينيه ..
أصبح الصبح
فلا السجن ولا السجان باق
وإذا الفجر جناحان يرفان عليك
وإذا الحزن الذي كحل هاتيك المآقي
والذي شد وثاقا لوثاق
والذي بعثرنا بعثرنا في كل وادي
فرحة نابعة من كل قلب يابلادي
وابتدر الشاعر محمد طه القدال أشعاره بقراءة نصه الجديد، في ذلك الوقت، “طنين الشك واليقين” مبشرا بأن البشير سيطير وينزاح عن كاهل الشعب السوداني ..
السلطة والأنا صولجان
ايدين من الشك والظنون
ما بتلحق الظن البديل
أو تمسك الحال اليقين
الماتو يبنولك عديل
مادين ايدينهم يلمسوك
خوفك يبتق في وشيك
روحك تصنقر في الدفوف الداقة تالا النافقوك
وين ما بتصيح ما بلحقوك
سير ياباسير
ترجاك طير يابا طير
ترجاك شق ترجاك ريح ترجاك بير
تسمع غناهم ربة في الليل العضير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى