الرأي

تَوقِير تَعهُّد القَسم

جاكسون يوكي

“أَيْضًا سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَحْنَثْ، بَلْ أَوْفِ لِلرَّبِّ أَقْسَامَكَ… ”

(متى 5: 33- 37)

فرض حلف اليمين والقسم على البشر هي ضرورة نشأت نتيجة لميل طبيعة الإنسان إلى الانحراف عن الحق. في قصة منسوبة لهيرودوت المؤرخ اليوناني لأول تاريخ سردي عظيم في العالم القديم، تاريخ الحروب اليونانية الفارسية يقال إن اليونانيين كتبوا رسالة تحذيرية لكورش بعدم إلحاق الأذى بأية مدينة يونانية حتى لا يحدث ما لا يحمد عقباه لأنهم لن يتسامحوا، رد الملك الفارسي برسالة قصيرة لحامل الرسالة اليونانية بما معناه: ” لا أخشى هؤلاء الرجال الذين يجلسون في وسط المدينة حيث يجتمعون لخداع بعضهم البعض بأَقْسام كاذبة أي باطلة”. يعتبر القسم نظاما قانونيا اجتماعيا ذا جذور قديمة في المجتمع الإنساني بشكل عام، وفي تاريخ العالم اليوناني بشكل خاص ولكن هذا لا يعني عدم إساءة استخدمها في الحياة والأدب اليوناني كما كشف عنها كل من هوميروس وهيرودوت. من المفارقات أن مجتمع العالم العربي والأفريقي يعطي أهمية وقدسية خاصة للقسم، إلا أنهم أكثر المجتمعات ضعفا في الالتزام الأخلاقي بالقسم!، إن كنت لا تستطيع أن تلتزم بما تقوله لماذا تشارك الله بالقسم في أمور تعجز في تنفيذها؟. إذا القسم هو إقرار وبيان رسمي عن ماضي، حاضر أو تعهد للمستقبل لتعزيز مصداقية بشروط يؤدي إلى العقوبة أو اللعنة في حالة بطلانه أو الإخلال به لذلك يتم تقديمه تحت ضمان قوة إلهية خارقة لأن عقوبة الحنث باليمين ليست شغلا بشريا، وإلزام المرء نفسه بقسم يعني دائمًا تكريس وتسليم نفسه مسبقًا للانتقام الإلهي أو حمايته، لأن الله هو الشاهد وسامع الكل ويعرف دواخل البشر.

يتطلب القسم التزاما أخلاقيا شخصيا فمثلا قسم أبقراط الطبيب اليوناني القديم (حوالي 400 قبل الميلاد) يعتبر رمزاً والتزامًا أخلاقيًا لمجتمع الأطباء على مر العصور وما زال يستخدم في حفلات التخرج، والمستشفيات تقر أن العلاقة بين الطبيب والمريض تعتبر ميثاقًا أو رابطة ثقة مقدسة وليست معاملة اقتصادية أو عقد عمل. هذا القسم دفع المجتمعات العلمية والأكاديمية لصياغة أقسام شبيهة مثل الحائز على جائزة نوبل (جوزيف روتبلات) صاغ قسم أبقراط للعلماء (1995). وآخرون صاغوا القسم السقراطي للمعلمين، التي توضح الالتزام الأخلاقي لمجتمع المعلمين. والمقصود بالأخلاق هنا تلك القواعد والقيم الضميرية لا تستند إلى قوانين مكتوبة على الأوراق إنما تَعهُّد شخصي عقلي وقلبي لذلك يأتي قول المسيح لاَ تَحْنَثْ، بَلْ أَوْفِ لِلرَّبِّ أَقْسَامَكَ… بَلْ لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ: نَعَمْ نَعَمْ، لاَ لاَ. أي ما تقوله تفعله والتزم بتعهدك إن كان لا أو نعم. قال سقراط، المعلم والخطيب اليوناني العظيم، “على الإنسان أن يعيش حياة التزاما شخصيا يكتسب فيه ثقة أكبر وأكثر من الخوف على نتائج قسم يؤديه”. ولا يحتاج وعد أي إنسان أبدًا إلى قسم لضمان الوفاء به.

يقال إن تاريخ قسم المناصب يعود إلى زمن روما القديمة على الأقل، ومنذ ذلك الحين أصبح القسم عنصرًا أساسيًا في الحكومات التمثيلية. وبما أنه من الضروري حلف اليمين وأداء القسم في مناسبات قانونية، إن لم يسبق التعهد الأخلاقي الشخصي القسم القضائي، الذي يتم أداؤه في محكمة العدل، هذا يعني أن ما قام به المرء استخفاف وعبارة عن إساءة وغطاء للخداع. القسم من أجل ربط الإنسان بسلطة أخلاقية أعلى ليس مجرد إجراء شكلي، بل هو تعهد عام بأن المسؤول يفهم متطلبات الوظيفة، وسيعمل على تلبية هذه المتطلبات. يجب على أولئك الذين يؤدون اليمين أن يأخذوا في الاعتبار تمامًا معنى القسم وجميع مضامينه المهمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى