قضايا فكرية

تونس وصراع المرجعيات .. فتحي التريكي

حاولت السلطات الإسلامية التي صعدت إلى الحكم في تونس أن تغير نمط الحياة حسب مرجعية ادعت أنها إسلامية من خلال قراءة غير دقيقة للتعاليم الإسلامية

أعلن ثلاثة نواب بالمجلس الوطني التأسيسي التونسي مؤخرا عن استقالتهم من حركة النهضة بعد استقالة قادة في أعلى مستوى. وقد فسر الملاحظون هذه الظاهرة بكونها ناتجة عن وجود تيارات متعددة داخل هذه الحركة قد كانت متوازنة نوعا ما قبل الثورة وبعدها حتى المصادقة على الدستور الذي أخذ وجهة مدنية، وتجذر في مرجعية تقترب من العلمانية بجانب المرجعية الدينية التي جاءت محتشمة نوعا ما.

فالكل يعرف أن تيارا نهضاويا متشددا كان يلحّ داخل هياكل النهضة وخارجها على اعتماد الشريعة الإسلامية مرجعية أساسية لدستور البلاد. وهو تيار قريب من الجهاديين في نمط تفكيرهم وفي مقارباتهم للعمل السياسي. لكننا لاحظنا أيضا بروز تيار معتدل في حركة النهضة يريد الاقتراب من العلمانيين والحداثيين، ولا يرى مانعا في أن تكون الحداثة علما وثقافة مرجعا من مراجع الحياة السياسية. وأخيرا برز تيار شبابي يتكون من طلبة ناضلوا أواخر الثمانينات لينسحب من «النهضة» متهما إياها بكونها خرجت عن أهداف الثورة ولم تسع إلى تحقيق إرادة الشعب لأنها تعتقد أن مرجعية الشعب مؤكدة بجانب المرجعية الدينية.

وفي واقع الأمر تعيش حركة النهضة صراع المرجعيات بنفس الآليات الموجودة في المجتمع التونسي الذي يعيش نفس الصراع في مساره الثوري. وكنا في مقالنا السابق قد حاولنا أن نبين أن المرجعيات في مسار الثورات العربية الحالية قد تباعدت مما ينبئ بخطر التحارب والتخاصم العنيف. لاسيما عندما حاولت السلطات الإسلامية التي صعدت إلى الحكم في تونس ومصر أن تغير نمط الحياة في المجتمع حسب مرجعية ادعت أنها إسلامية من خلال قراءة غير دقيقة وساذجة للتعاليم الإسلامية، وبمحاولة القضاء على المرجعية العلمانية الحداثية التي كانت حسب ادعائهم المسؤولة الأولى عن تدهور العقيدة الإسلامية في المجتمع.

ليس ثمة شك أن هذا الصراع في المرجعيات كان متواجدا منذ أواخر القرن التاسع عشر عندما بدأت حركة الإصلاح السياسي والاجتماعي ترى النور في بعض البلدان العربية، كما وُجد في حركات مقاومة الاستعمار وبعد الاستقلال، ولكن حدته لم تكن بالقدر الذي هو عليها الآن وقد كان الصراع قد حسم سياسيا من قبل الدولة- الأمة بالقهر في صالح المرجعية الحداثية وأحيانا العلمانية، دون أن تسمح هذه الدولة بنقاش عمومي حول هذه الإشكالية الدقيقة، لذلك عندما اندلعت الثورات العربية برز هذا الصراع من جديد وأخذ أحيانا صبغة عنيفة.

أما في تونس فكان الوضع مختلفا نوعا ما إذ أن شعارات الثورة كلها تقريبا كانت بعيدة عن المرجعيات الدينية بل تلخصت مرجعية الثورة في عبارة “الشعب يريد” أي بتعبير آخر سيكون الشعب في بداية الثورة هو المرجع الأساسي الذي يضمن شعارات الثورة التونسية المتمثلة في الحرية والكرامة والعدالة.

كذلك الشأن بالنسبة إلى دستور تونس حيث أجبر الاعتصام الثاني للشعب في القصبة السلطة آنذاك أن تعلن عن نهاية الدستور القديم، ليبدأ النقاش حول تأسيس دستور جديد تكون إرادة الشعب هي المرجعية الثورية الأولى لكتابته. وكأنما مرجعية الشعب التي طالب بها المعتصمون حلت محل المرجعية الحداثية التي قد تأسس عليها دستور تونس الذي وضعه جيل الاستقلال في أواخر الخمسينات حسب مرجعية التحديث.

إلا أن الفهم الخاطئ لتصور الحداثة في المجتمعات العربية والذي كرسه جل المثقفين العرب قد جعل المرجعية الحداثية هشة تطلبت دعما سياسيا وأحيانا عسكريا لكي لا تضمحل. فقد اعتبر المثقف العربي أن الحداثة دخيلة على المجتمع العربي وردت من الغرب مع حملات نابليون ومع الاستعمار. وهذا خطأ جسيم ينم عن عدم فهم الحداثة نفسها.

فالحداثة تبني أفقها على مبدأ التغيّر الحضاري الذي يرسم خط الفصل بين القديم والحديث معتمدا حقولا جديدة من التصورات في الميادين العلمية والسياسية والإبداعية، ومع ذلك فلابد من تأكيد حركية المعاصرة وصيرورتها داخل المجتمع نفسه، لأنّ الحداثة صراعيّة جوهرا، واستمراريّة أصلا تتّسم بتداول المستجدات في المعارف والممارسات وتتغير بتغير الأجيال.

فالحداثة حالة ناتجة عن تطور زمني يسمح للوضع القائم المتجدد تلقائيا بأن يعبر عن مستجدات الحاضر، وبذلك فهي وإن ارتكزت على التغير والاختلاف لا تعادي الهوية ولا تنفي التأصيل، بل هي حركية داخلية تأصيلية في كل مجتمع مهما كان، تكون سريعة أحيانا، وبطيئة أحيانا أخرى، تقتات من التراث ومن الإحداثات العلمية والتقنية المتأتية من الخارج في الآن نفسه. ولكن الانتخابات الأخيرة في تونس وضعت في الحكم ائتلاف أحزاب بقيادة الإسلاميين الذين حاولوا اعتماد المرجعية الدينية تعويضا للمرجعية الشعبية والحداثية.

لسنا ننكر الدور الرئيسي الذي يلعبه الدين في تكوين اللحمة الاجتماعية. فالمسار الثوري التونسي أقر أن التدبير العقلاني لقضايانا يؤدي حتما إلى الانتصار، لاسيما إذا امتزج هذا التدبير بالإيمان والوجدانية الإيجابية. وقد بين الفيلسوف الإيطالي فاتيمو في كتبه الأخيرة كيف عادت عظمة الله إلى سالف نصابها، وكيف ستلعب الروحانيات دورا رئيسيا في تحرير الإنسان من غطرسة سلطة الآلة، تلك الآلة الجهنمية المدمرة والمتطورة التي تمتلكها الدكتاتوريات والتي حطمت وعاثت في كل شيء، ولكنها لم تستطع أن تنال من عزيمة الشعب ومن إيمانه، وشرط ذلك كله أن لا تنزاح هذه الروحانيات عن موضعها الأصلي وحتى لا تتجسد هي أيضا في تلك الآلة الجهنمية.

هكذا تصارعت هذه المرجعيات لتلوح في الأفق مرجعية جديدة يجب الانتباه إليها نستطيع تلخيصها في مصطلح النجاعة. فالانتخابات التونسية أفرزت تفوّق منظومة النجاعة على منظومة الحقيقة، هذا ما سماه البعض انكسار أحزاب الأيديولوجيات التي تقوم على تدقيق حقائق النظريات وتحاول تطبيقها على الواقع. فالأحزاب التي كانت ناجعة في ممارساتها ونظرياتها هي التي تحصلت على أصوات الناخبين، والنجاعة تتطلب جرأة في أخذ قرارات أحيانا منافية للبناء الأيديولوجي المتعلق بالبنية الأساسية للحزب، كأن يتخذ حزب ذو مرجعيات إسلامية قرارات تحررية في ميادين شخصية أو اجتماعية. كما تتطلب النجاعة دراية ببنية المجتمع وبمطالب الشعب وتكوينه ومطامحه وأمراضه. معنى ذلك أن النجاعة ليست عملية “عمياء” بل هي ممارسة سياسية واجتماعية تدقق في حقائق الأمور طبعا، ولكنها تحوّلها إلى إمكانات قصوى للممارسات السياسية المنتجة للمعنى. ولعلنا نسير نحو هذه المرجعية مع حكومة الكفاءات التي تسيّر تونس حتى الانتخابات المقبلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى