الرأي

بَيْتُ الإِغْرِيقِي!

ضيف على الرُّوزنامة
سامي الصَّاوي
(قانوني ومخرج سينمائي)
الإثنين
لماذا درستُ القانون ابتداءً؟! ثمَّ هجرتُ القانون إلى السينما؟! ثمَّ هجرتُ السينما إلى التجارة؟! أسئلة ظلَّت تلاحقني، متعجبة أو مستنكرة، مذ تخرجتُ في كليَّة القانون، بلندن، والتحقت هناك بدراسة السِّينما، ولكن .. لا إجابة، لأننى، ببساطة، لا أعرف! بل ربَّما ليست ثمَّة، أصلاً، إجابة قاطعة! كلُّ ما هنالك انعطافات بلا سبب، تراكمات فى غرف الذاكرة، وقرارات فى اللاوعى، وتجارب تتجمع وتتكاثف، لتطرق هذا الدَّرب، وليس ذاك! ربَّما يقول قائل: هذا كلام تبريري! حسناً .. فليكن! أنا، فى الواقع، أتهرب من الإجابة الصريحة، لأنها ستأخذنى إلى سيرة ذاتية اعتبرها نوعاً من السَّرد لا مسوِّغ له، الحقيقي فيها ليس ما يُكتب، بل ما لا يُكتب! سترٌ لا يهمُّ أحداً، ولا يجوز الإفصاح عنه، ولا التلصُّص عليه! النفوس أسرار يُفضَّل السكوت عنها. مع ذلك يمكنني إيجاز ثلاثيَّة (قانون/سينما/سوق) في جملتين أو نحوهما: أنا لم أهجر أيَّاً منها! القانون أمتعني، والسينما استغرقتني، أمَّا التجارة ففتحت أمامي عوالم جديدة! ثلاثتهم امتزجوا في قارورة وُزِّعت على ثلاثة كؤوس، رشفة من هذه، ورشفة من تلك، و ..!
عمنا الشيخ خليل محمد عبد الماجد، إمام جامع ود عبد الماجد فى ابروف، صمته أكثر من كلامه، هادئ التدين، غزير العلم، خفيض الصوت، تكاد لا تسمعه إلا في خطبة الجمعة. مع ذلك كان يتمتع بسخرية ذكية، وروح دعابة تأخذك على حين غرة. ذهبت أودعه وأنا مسافر، ثانية، للدراسة، فسألني: «تقرا شنو ما خلاص قريت القانون»؟! أجبته: «ماشي أقرا سينما». صمت برهة، رفع عينيه، ثمَّ علت نبرته: «تقرا شنو»؟! كررت: «سينما يا مولانا»! دخل الكلام الحوش، وربَّما أشفق، لحظتها، على حالة ابن أخيه العقلية، فذاك كلام الطير في الباقير؟! سألني هامساً: «لكين يا ولدى السينما بقروها و للا بخشوها»؟! كان ذلك صيف 1974م، وإلى الأن لم أتوصل الى إجابة: بقروها، وللا بخشوها، وللا بسووها!
الثُّلاثاء
السودانيون سواسية في الملامة، يمارسونها بدون صنفرة ناعمة، يلومون ويلامون، يرفعون عقائرهم، يستلون سباباتهم، يلوِّحون بأذرعهم، يعربد الشيطان بينهم، ثمَّ تتدخل الجُّوديَّة، و .. باركوها يا حجاج. ونادراً ما يلجأون للقانون، فتلك جِرْسَة لا تليق بود بلد! كما أنهم، بالحق أو الباطل، لا يثقون في الكاكي، وأمشي وتعال، والنبطشي ما جا، والملف في الدرج، والمفتاح عند السلطان .. يفضلون الكلمة الطيبة، بأخوى واخوك، فتجاوُز الملامة عندهم ضرورة، خصوصاً للشَّخص العام الذي اختار أن يكون هدفاً «مشروعاً» للنقد والتجريح، فيلزمه الصبر والتحمُّل، وإلا فمن ذا الذي يفرِّق، ساعة الغضب، بين الكلام الحار والحكي الدبلوماسي؟! المنصب يأتي بمُرِّه، فعلى من يذوق حلوه أن يتجرع حنظله، لا أن يطارد نقاده من شرطة لشرطة، ومن نيابة لأخرى، ومن محكمة أدنى إلى أعلى، فيخسر، في النهاية، حتى لو كسب! والنقد لن يتوقف إلا إذا حسَّن صورته، وربَّما زادها تشويهاً، حيث لن يمكنه محاكمة أربعين مليون إلا شوية! إذن من يقول أنا زعيم لزمه أن يتصرَّف كالزعماء. الصادق المهدي، بصرف النَّظر عن اختلاف الأراء، ما سكتت عن ذمِّه الألسن، ولا جفَّت من نقده الأقلام، منذ دخوله الجمعية التأسيسية سنة 1964م، وحتى إسجائه، مؤخَّراً، يكابد سكرات الموت! أطنان من النقد ولم نسمع أنه فتح بلاغا ضدَّ أحد. فإن لم يوفق فى أمور كثيرة، فعلى الأقل زجر نفسه، وتحمل نقداً مؤلماً، برجولة وصمت! ذلكم هو الفرق بين الزعيم والمزعوم! وقديما قالت العرب: «يحقُّ للشاعر ما لا يحقُّ لغيره»، والشعراء ضمير الأمة؛ فاتركهم ـ يا هذا ـ في حالهم. لا تتطاول عليهم! لن تبلغ شأوهم! ولتوفر غضبك ـ يا هداك الله ـ لما هو أخطر من بيت شعر .. كالإبادة الجماعية، وفضِّ الإعتصام!
الأربعاء
على ضفة خور اب عنجة، لدى تلاقي كبريه مع شارع الموردة، كانت هناك ورشة بسيطة لا يلحظها إلا من يقصد صاحبها، عم بشرى، نحَّات عاش، وعمل في استنطاق الحجر، ثمَّ مات على قيفة الخور! الورشة، للغريب القادم من الخرطوم، أوَّل أمدرمان، أما ولدها فليس له سوى أن يتبع «الطريق الشاقِّي الترام»، حيث “قَدَل” الخليل من علايل ابروف والمزالق، حتَّى الخور والمغالق، ليستوى عم بشرى فى ملكوته الصغير عند قيفة المنتهى! هي، إذن، من منظور أمدرماني، نهاية الأشياء! هكذا يعقل الأمدرمانيُّون «بقعتهم»، ومن ينكر عليهم ذلك، مذنب حتَّى يثبت العكس!
وذات جلسة سمر، صيف 1978م، لم تخلُ من «خمج نبيل!»، قرَّرنا، الهادى احمد ابراهيم، المصور السينمائي، خريج معهد السينما ببوخارست، وصلاح حسن احمد، الروائي، الموسيقي، والمسرحي، وأنا، أن نعمل سلسلة أفلام وثائقية عن أمدرمان، وثلاثتنا مكسرين فوقا عديل! بحثنا في صنايعها وحرفها، ورأينا ان نبدأ بورشة عم بشرى.
طوال ثلاثة أشهر، واصلنا التصوير، ليل نهار، فى ضيافته، فرأينا وسمعنا العجب! أي مكان، وأي حلم، بل أي رجل! طويل، عريض، شامخ، بسنواته الثمانين، كتمثال لجدِّه تهارقا، صارم من غير غضب، وصلب في غير جمود، وتلوح في قسماته وسامة كوشية، فلكأنه نحتها بنفسه! فقد حاسة السمع ومعظم نعمة البصر. إزميله يحاور حواف الصخر، لينحت ملاكا مجنَّحاً، وحجر طاحونة مستديراً، وشاهد قبر كالبللور. أصمٌّ لا يسمع، ويكاد لا يرى حتى ما تصنع أنامله. فقط إلهامه الداخلى هو سمعه وبصره، كبتهوفن يصيغ السيمفونية التاسعة، وأنشودة الفرح (Ode to Joy)، ويشارك في قيادة أوركسترا من مائة عازف، وهو لا يسمع رنَّة، ولا نغمة، ولا إيقاعاً، ولا إنشاداً، ولا حتى تصفيق الجمهور المدوي، واقفاً، عند انتهاء العزف، مما لم تعهده فيينا، حتى اضطر المايسـترو الآخر لأن يمسـك بيده، ويدور به، ليرى، ببصيص عينيه، ما لم تسـمع أذناه!
ملكوت عم بشرى بسيط، راكوبة عتيقة الشِّعَبِ والقشِّ، وصبي دينكاوي، ستيف، تشعُّ عيناه ذكاءً، ويحيطه معلمه بحب أبٍ لم ينجبه من صلبه، و«معليش» الكلب الأعرج الذي لا يقوى حتى على الِّنباح .. وفيم ينبح أصلاً، وليس ثمَّة مهدد للأمن، وما يحدث في الشارع لا يعنيه، وحكمة الكلاب تقول: «شارعن ما عندك فيهو عضمة .. الخ»، ثمَّ زير بارد زى الفل، وتحته بطيخة، مساهمة ستيف في الميز، وحنفية مبوِّشة، تضيف إلى، ولا تنتقص من، بهاء الملكوت، ثم حجارة وحجارة، وصخور وصخور، من كل شاكلة ولون، فى فوضى مرتَّبة، والملك في مركز المكان، على بنبر تآكلت حباله، أمامه ملاك مجنَّح، وعن يمينه حجر طاحونة، وعن شماله شاهد قبر، وفي يده إزميله يتأرجح كعصا مايسترو، وفي الخارج تمضى الحياة، ببشَرِها، وباعتها، وسياراتها، وبصاتها، يراها بالكاد، ولا تراه، ولا يسمعها، ولا تعنيه في شئ! لم يكن يهمه من صخبها الدنيوي غير ثلاثة: لورى أوستن سفنجة متهالك ينتظره، أول كل شهر، عند سفح جبل بشمال أمدرمان، فيختار الصخر، لثلاثة أيام، ويدحرجه من علٍّ، ليرفعه بيديه العاريتين إلى صندوق اللورى الذي يعود به، كجوليوس سيزار: «I came, I saw, I conquered»! ويهمُّه، ثانياً، السر المبروك يأخذ حجارة الطواحين لطالبيها؛ وود رزق الله التُّربي يأخذ الشواهد لتُرب حمد النيل؛ وأبونا مكرم، قسيس كنيسة الشهيد مار جرجس، يأخذ الملائكة لقبور المسيحيين. أما ثالثة اهتماماته فحاجة حرم، تفرش في سوق الموردة، وتعد له الفطور الباكر، عصيدة دخن، ولبن، وسمن، وعسل، وبلحات؛ والغدا عصيدة، وملاح تقلية، وسلطة خدرا .. لا يأكل غيره، ولا يأكل إلا من يدها، ولم يعرف الشاورمة، ولم يسمع بالباسطرمة، وتقول، عندما تحضر الطعام: «بالهنا يا ود حشاي»! وهو، بحساب السنين، ليس ود حشاها، لكن بميزان المحبة .. ممكن! لم تكن له أسرة سوى ستيف ومعليش. رغم ذلك، وربما لذلك، أعطى الأحياء حجر الطاحونة يأكلون منه خبزهم، وأعطى الأموات الشواهد والملائكة ترافقهم في رحلة الأبدية .. شيئاً للحياة وشيئاً للموت! حاولنا، مرَّة، الهادى، ثم أنا، ثم صلاح معنا، تحريك صخرة لنفسح للكاميرا، لكنها لم تتحرك سنتي واحد .. وستيف يسترق النظر من وراء عامود، وعلى وجهه ابتسامة ممطوطة ذات دلالة «جنا أرب موية ساي»! وهرع إلى عم بشرى بالشمار! جاء عم بشرى، تحسس الصخرة من هنا، ومن هناك، ورفعها، كأنه يلتقط قصاصة ورق من الأرض: «عاوزينها وين؟!»، وكدنا نموت عاراً! كان يعشق صخوره، وربـمـا يحــدثهـا بلغــة الجـبـال فتسـتجيب كحـبيبة وفـية، ســهلة لـه، ممتنعـة على غـيـره!
أسمينا الفيلم (دائرة على حجر)، صوره الهادي، ووضع موسيقاه صلاح، وكتبت أنا سيناريوه، وأخرجته، و .. توقفنا! لعلنا تمادينا فى الاحلام! لكن أين الفيلم؟ لا علم لنا! ضُيّعَ مع مئات الأشرطة الإبداعية، ليلة أضاعت وطاويط الظلام السودان! وعندما ينهدُّ آخر كهف على رأس آخر وطواط، ربما سنلتقى مجدداً، فى أمسية امدرمانية لا تخلو من «خمج»، لنواصل ما انقطع .. «ويح قلبى الما انفك خافق/ فارق امدرمان باكى شاهق/ يا ام قبايل ما فيك منافق/ سقى أرضك صوب الغمام”!
الخميس
ينصح الأطباء بالنوستالجيا، مرَّة فى الأسبوع على الأقل! يؤكدون أنها تشحذ الذاكرة، وتفرح القلب، وتنظم الدورة الدموية، وتقوي بعض أجزاء الجسد التي أنهكها التكرار، وكآبة المنظر، والجو الخانق! وليس أنسب من روزنامة كمال للنوستالجيا، بحسب إرشادات الأطباء. والنوستالجيا خشم بيوت. وأظن أصلحها للصحة أهازيج الصبية التى كنا نرددها في جخانين «بقعتنا»! وقيمتها ليست، فقط، فى ألحانها الطروبة، وكلماتها الرشيقة، بل ورمزيتها، وأسئلتها الوجودية التي لم نجد لها جواباً، حتى بلغنا من العمر عتيَّا! ولنبدا بسيدة الهجرة الأولى: أم قيردون. فبعد اتكاءة خفيفة فى الحجاز، كانت تواصل هجرتها إلينا، من أصقاع تموت من البرد حيتانها، حسب الطيب صالح. فنستقبلها بالدفء، والترحاب، نرقص معها، ونغني لها، متمنين عودة وليدها الضائع: «أم قيردون الحاجة/ في كل سنةٍ واجَّة/ وليدك وين راح يا الحاجة/ وليدك بجيك يا الحاجة/ تحت الدَّفِيس يا الحاجة/ لابس قرمصيص يا الحاجة»! وانقطعت هجرتها! وفى الليلة القمراء تُسمع اصواتنا، تحت ظلال المغارب، نتنادى متسائلين: «شليل وينو؟ أكلو الدودو؟ شليل وين راح؟ ختفو التمساح؟»؛ فلا يأتينا سوى رجع الصدى! وفى الصباح نعود نسأل: «السِّمبريه ام قدوم/ عيش ابوي متين بقوم»؟ فتطمئننا: «بقوم باكر/ مع العساكر»! وفي الجمعة اليتيمة نطوف بالبيوت، والويل لمن تؤخِّر «مروق» الصَّدقة، فجزاؤها تشهير ودود: «الحارَّه ما مرقت/ ست الدوكة ما وقعت/ قشَّاية قشَّاية/ ست الدوكه نسَّاية»! وعند نهاية العام الدراسي نصطف، على بكرة أبينا، ننشد للوداع: «هل ننسى أيَّاماً مضت»!
والآن، بعد كلِّ هذه الحقب، مازلنا لا ندري: أوجدت أم قيردون وليدها الضائع؟! وهل عُرف مصير شليل؟! وهل قام العيش مع العساكر؟! ولِمَ انطفأت نار الدوكة، وانقطعت الرحمة؟! ولِمَ صمت نشيد الوداع، ومات المرح؟!
الجُّمعة
وُلد محمود في أم درمان. تغبر بترابها صيفاً، و خاض فى وحلها خريفاً، و تشقَّق جلده ببردها شتاءً. لعب الدافوري طوال العام. طاف ببيوتها. إحترم كبارها، وصادق صغارها. في مدرسة الهجرة الأوليَّة بالرِّكابية حفظ جزء عمَّ، وجدول الضَّرِب، و«في القولد التقيت بالصِّديق». وعندما شبَّ عن الطوق غشي دار الرياضة بأم درمان، وعرج على سينما قدِّيس، ليشاهد ديجانقو، وربما التهم قطعة أو قطعتين من باسطة «بيِّن»! إرتبط بالمدينة، كرصفائه، ارتباطاً يصرع الزَّمان، و يستعلي على المكان. و بعد ثلاثين عاماً قضاها بين بولندا لدراسة الطب، وبريطانيا لممارسته إستشارياً في أمراض النساء، حان أوان الرجوع، فكان السودان خياره الطبيعي. وفي السودان امدرمان. وفي امدرمان الدَّايات. وعندما دلف من بوابتها، صيف 2017م، رأى أطلالاً مالت أسقفها، وانبعجت، ونزعت شبابيكها، وخلعت أبوابها، وشلعت أثاثاتها، وصمتت مكيفاتها، وتقشَّر طلاؤها، وطار مع الهواء ليستقر في قيعان ما بقي من غلايات التعقيم. وتشققت أرضياتها، وعادت سرابات فى حواشات. راى لفافات القطن الملوث تتأرجح فى الهواء قبل أن تستقر حيثما اتَّفق، في الكُوَش المتناثرة تحت الأشجار الذابلة، خلف غرفة العمليات، داخل المطابخ، مع أكياس البلاستيك، لتنضم الى بواقى لحم، وعظم، وأطراف، وجلود، وقشور، وأظافر، ونُتفٍ، وسوائل، ولواييق لا تدرى أآدمية هي أم حيوانية، مخضرة ومصفرة، ربما كانت يوماً ما ملاح خدرة، أو شرموط، أو زيت مكنة راجع، لتشكل الكُوَش ولائم متناثرة يؤمها معازيم من مرتزقة الذباب، والبراغيث، والطحالب، والديدان، والفئران. ورأى مانهولات مكشوفة سرقت أغطيتها وبيعت فى شارع الغابة، ومراحيض وبالوعات تجمعت فيها مخلفات طبية، وعصارات، وكتل مهترئة، وفضلات متنوعة مجهولة الأصل تمازجت ألوانها وأشكالها لترسم لوحة سريالية ينحنى أمام «تقنيَّاتها» سلفادور دالى، تنبعث منها أبخرة وغازات فوق المستشفى، وتتفرق في الجوار حتى بوابة عبد القيوم، بروائح خليط من نحاس، وقطران، وقيح، وصديد، ودم متخثِّر. ورأى أجهزة طبية انقضى عمرها الافتراضي؛ وقد يعمل بعضها، لكن بعد ركلة أو ركلتين؛ وبعضها خردة فى حوش الحلبى بأحمد شرفي؛ وبعضها مكوَّمٌ في ركن مظلم يندب حظه، كونه يقضي خريف عمره هنا، وليس في اشتوتغارد، موطنه الأصلي؛ وبعضها يذرف الدمع السخين لأجل قطعة غيار سعرها أقل من كيلو ضان. ورأى قططاً منفوشةً فى كل أرجاء المستشفى، بتخصصات مختلفة: كدايس استقبال، وطوارئ، ومتابخ، وعنابر، ومخازن، وأشرسها كدايس العمليات تتحاوم بين أرجل الأطباء، والممرضات، وفوق أجساد المريضات، تبحث بأعين متمرسة عن بعض مولود ميت، أو «تبيعة» ملقاة تحت سرير. لا تخيفها نهرة «بِسْ»، ولا حتى فلعة طوبة، بل تحدجك بإزدراء، ولو كترت كلامك تشهر فى وجهك شهادة ملكية للمستشفى من إدارة الأراضي التى تفضِّل التعامل مع القطط السمان! ساعتها فهم د. محمود أن لكدايس الدَّايات بريستيج! لكنه حثَّ الأطباء والعاملين، فاكتتبوا، واشتروا كلَّ ما يلزم، وعكفوا على نظافة المكان، فصار يلمع كالمرايا، والأهم .. طردوا الكدايس!
السَّبت
على شارع الجامعة، فى منتصف المسافة بينها والقصر، كان ثمَّة بيتٌ شُيَد، ربما، أوائل خمسينات القرن الماضى، لا يشبه المبانى الحكومية حوله، بسور خارجي نباتي بالكامل، وحديقة أماميَّة غنَّاء، نجيلها المخضرُّ، صيفاً وشتاءً، مقصوصٌ بأصابع حاذقة. بوابته مكشوفة تتخللها قريللات سوداء بأشكال هندسية بديعة؛ وفي الحديقة اصطفت شجيرات، وجبليات، ونخليات، وفى الموسم تزهر بواكي الزينيا، والبتونيا، والماري قولد. وثمَّة مماشي حجرية متعرجة بانتظام، تفضي إلى درج رخامى يأخذك إلى مساطب عالية من المزايكو تقودك، بدورها، إلى الداخل عبر ممرات تبدأ وتنتهى بآرشات تتفرع منها غرف واسعة روعي فى تصميمها المهلة والخصوصية. وثمَّة، كذلك، حديقة خلفية ربما خصصت، فى السَّابق، للورد. الطابع العام أقرب إلى عمارة البحر الأبيض المتوسط. صاحب البيت يونانى استقر في السودان، وتجنس بجنسيته. عمل بالتجارة، كغيره من الإغريق الذين طوروا التجارة والحرف، من الزراعة، إلى الميكانيكا، والنِّجارة، والحدادة، والعمارة، والحياكة، وغيرها، فساهموا فى تحديث بلد أسلمه حكامه «الوطنيُّون» لمجاعة أكل الناس خلالها «قِدَّ» العناقريب، وفئران البيوت والجبال، بعد أن هلك الزرع والضرع، وتمدَّدوا فى الطرقات هياكل عظمية! عاش الإغريقي فى بيته راضيا مرضيَّا، لا يفكر، يوماً، في تخريب الاقتصاد! عماله يأخذون حقهم قبل أن يجف عرقهم، ولا يضام عنده أحد! حتى جاء من أقصى المدينة، ذات ليل حالك، بكباشي وضع عينه على البيت، واتَّهم الإغريقى بتخريب الاقتصاد، فصادر بيته، وأمَّم تجارته، دون دليل، بل حتَّى دون معرفة للتأميم السليم! أخذ رهطه الأموال، وتوزعوا البيوت، فانهارت الشركات، والبنوك، لسوء الإدارة، ووجد الإغريقى نفسه مرميَّاً، مع الاقتصاد الوطني، في خرابة، لا يقويان على الحركة! فرحل ربما إلى بقعة فى سفح الأوليمبس، يحن إلى بيته الذي هجره، عنوة، فى قلب الخرطوم، يخرج منه وزير ليدخله آخر! ثمَّ جاء، فى 1972م، رجل من أقصى الاتجاه المعاكس للبكباشي، إسمه إبراهيم الصلحي. جاء صبحاً وليس ليلاً، برؤية لا بمدفع، على قدميه لا على ظهر دبابة. فنجح في إنشاء مصلحة للثقافة، وتخصيص بيت الإغريقي مقرَّا لها، كأنه يستدعى آلهة الإغريق وفلاسفتهم، ليلبسهم لباسا سودانوياً، فالثقافة تراث إنسانى لآمون وزوس، تهارقا وليونايدس! إحتضنت المصلحة شيب الثقافة وشبابها، الصلحي، المجذوب، صغيرون، حسين شريف، الطيب محمد الطيب، عبد الحي، عدوي، أمين محمد احمد، نجدى، بشاره، سهام عتيق، إبراهيم شدَّاد، سعديَّة الصَّلحي، علي عبد القيُّوم، أبو ذكرى، مبارك بشير، نعيمة شديد، الهادى أحمد إبراهيم، وغيرهم كثر. وكان ثمَّة مبدعون زوَّار، يشاركون، يساندون، أو يخوضون عصفاً ذهنيَّاً، أو مجرَّد ونسة مثقفة: الدوش، العميري، جمعان، عايدابي، علي المك، عمر خيرى، سعاد أبراهيم أحمد، فايزة عمسيب، يحيى الحاج، كمال الجزولى، هاشم صديق، صلاح حسن أحمد، وغيرهم. ما من مبدع إلا وضمَّخته عروس الثقافة تلك بعطرها الفوَّاح، وشكلت من الأضداد طينة الخلق الجماعى. جابت قوافلها الحواضر والبوادي، بحثت، وأرَّخت، ووثقت، من ريره فى البطانة، إلى تقلي في كردفان، ومن رث الشلك فى ملكال، إلى لهيب الكهرمان فى سواكن، ومن موسيقى الوازا فى الأنقسنا، إلى مدافن الكجور فى دلامى.
ثم جاءت الإنقاذ لتطرد أهل الثقافة، في ليل حالك آخر، من بيت الإغريقى، كما طردت مايو الإغريق أنفسهم، وخصَّص الإسلامويُّون البيت لبعض أزلامهم، فأحالوه وكالة للدلالة والخردة، وأهدروا مئات الوثائق، والبحوث، والإصدارات، والأشرطة، والأفلام، عن جهل وعمد!
ماذا كان «بيت الإغريقي»: غاليرى؟! مرسماً؟! ورشة؟! دار نشر؟! مؤسسة حكومية؟! جامعة مفتوحة؟! استوديو للإنتاج؟! مركز دراسات وبحوث؟! كوفيشوب للمبدعين؟! أم مكاناً مغضوباً عليه من السلطان؟! أم كل ذلك وأكثر؟! لكن المؤكد أنه لم يعد غير أحرف صمَّاء، على لافتة صدئة، فوق مبنى مهترئ، يغمغم لسان حاله: هاردلك، صلحى وصحبه الأماجد .. ما بتدى حريف!
الأحد
سألت المذيعة المتحذلقة الطيب صالح: «يقولون إنك من أحسن الكتاب؛ لكن كتبك قليلة؛ فلماذا»؟! صمت الطيب برهة، ثمَّ قال بهدوء: «لأنى مشغول بما هو أهمُّ من الكتابة»! عادت تسأله مستغربة: «لكن ما هو الأهم من الكتابة لكاتب محترف»؟! ففاجأها قائلاً: «القراءة»!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى