الرأي

النائح الرسمي باسم الحكومة الانتقالية

منعم سليمان

سحقاً للنظام البائد وتعساً لأزلامه وأنصاره، وتباً للكوز الأول الذي أنجب الكوز الثاني فأنجب لنا الكوز اللص الذي دمّر وسرق ونهب بلادنا وأساء لماضيها وخرب حاضرها وجعل حياة أهلها ضنكاً وجحيماً مستعراً .

أقول قولي هذا وقد قبلت لنفسي أن أكون نائحاً رسميِّاً باسم حكومتنا الانتقالية، أنظِم كلمات الرثاء وأبكي الحاضر وألعن الماضي وأزور القبور مُتبرعاً بلا مقابل أو نزور.

أفعل ذلك حتى تتفرغ حكومتنا للمستقبل، وتعمل على البناء والتعمير والتدبير، بدلاً عن سياسة الهروب من واقعنا الأليم بشتمِ الماضي الأكثر إيلاماً، والذي أصبح ديدناً بل فزاعة للمسؤولين، إذ أصبح المسؤول لا ينْطِقَ إلاّ ويبدأ حديثه بالنواح  ليختمه بالبُكاء، طارحاً أسئلة الماضي مقابل أجوبة الحاضر، مع أن أصغر طفل في أصغر قرية في أبعد ولاية؛ يعلم حجم الدمار الذي أحدثه الكيزان ببلادنا، وتأثيره الكبير على الحاضر الكارثي الذي نعيشه، بل وربما على مستقبل بلادنا برمته .

هذه ليست دعوة لطي صفحة الماضي الأسيف الذي لا – ولن- يُنسى، وهي قطعاً ليست دعوة للتطبيع مع القتلة والسفلة والمجرمين واللصوص بائعي الأوطان والإنسان، بل أُطالب الشعب بكل مكوناته وفئاته وتنظيماته مقاطعتهم وملاحقتهم – قانونياً- وفضحهم والتبليغ عنهم، والدعاء عليهم في الصلوات بُكرةً وعشيِّا، وهذا أضعف الإيمان بالله والثورة، وإنِّما هي دعوة لاستنهاض همم المسؤولين لمواجهة الحاضر والتخطيط للمستقبل، وإعْمال العقل والخيال الخلّاق لبناء مستقبل أفضل ينفع الأمة، والأمم لا تنهض بالشتائم والمرثيات، إنّما بالتخطيط والعمل.

أمس دعاني على الغداء صديق قديم، قائلاً إنّه مُتكفل بفاتورة الغداء وملحقاته، قبلت الدعوة على أن تكون بمنزلي وأن تكون “كسرة” لا خُبزاً، وكانت صدمتي الكبرى بأن ما اخترته كان المستحيل بعينه، إذ تحركنا نسأل بحثاً عنها في أربعة اتجاهات مُختلفات، كانت أمامنا صفوف الخبز حشوداً إثر حشود، ولم نجد الكسرة.

في الواقع، وجدت بائعة للكسرة بسوق (نمرة 2)، وكانت جالسة وعلى وجهها حزن وانكسار كل هذا العالم القاسي، كان صوتها الخفيض يعبر عن شقاء حالها، نظرت إلى حذائها المهتريء القديم وتذكرت قول الراوي في رواية ماركيز: ” كان صوتي خفيضاً لأن حذائي كان مهترئاً”، أجابتني بنبرة صوتها الخفيض معتذرة عن عدم توفر الكسرة، فسألتها دون أن أستطيع  مغالبة النظر إلى وجهها الحزين: ولماذا لا توجد كسرة في كل السوق، فأجابت بما يفيد بأنْ لا أحد يستطيع شراء دقيق الذرة بسعره الجديد، فسألتها، وكم هو سعره الجديد؟ فأجابت بصوت أكثر انخفاضاً وبما يشبه الهمس (230) جنيهاً للكيلو، شكرتها وبصمت غادرتها مُطأطئاً رأسي،  لم احتمل النظر إلى وجهها، كانت تعابيره باكيِّة دون دموع، وكانت نظرتها تديننا دون أن تشكو، شعرتُ بألمٍ عميق وفشل شخصي أمامها، لقد فضحت عجزي الشخصي.

قلت لنفسي كيف أصبح حالنا هكذا؟ لماذا صارت “الكسرة” في خانة العدم؟ لم تكن الإجابة صعبة على ابن مزارع فقير مثلي، نشأ وترعرع حتى قوّى عوده ولم يحدث أن بات ليلة واحدة جائعاً أو محروماً، لقد عشت وسط مجتمع كان مجرد قبض شخص ما متلبساً بشراء الذرة بمثابة عار، بل ودليلاً قاطعاً على كسله وعدم مسؤوليته!

سامحينا أيتها المرأة الطيّبة، نحن أمة من المزارعين قتلها التنظير العدمي والتباغض والتحاسد وقلة العمل.

سامحينا يا أماه!      

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى