المَوْتُ فِي زَمَنِ الزَّلازِل!
الاثنين
قبل أسبوعين احتفت الرُّوزنامة بمعرض الفنَّان عصام عبدالحفيظ في قاليري “داون تاون” بالخرطوم، كمناسبة رائقة زيَّنت واحدة من أجمل أمسيات الخرطوم، وأكثرها لطفاً وأناقة، خاصَّة وأن عصاماً يُعتبر الوريث الشَّرعي للسُّلالة الماجدة من التَّشكيليِّين الكبار.
ولو كان قُدِّر للمرء أن يهبط على تلك المناسبة بغتة، بلا مقدِّمات، لتملَّكه اعتقاد مضلِّل بأن ذلك هو حال التَّشكيل، دائماً، في جميع أمسيات العاصمة والمدن السُودانيَّة! بل ولكان هذا الضَّرب من التَّضليل قد تمدَّد ليشمل “وهماً إعلاميَّاً” برعاية نظام الانقلابيِّين الحالي، صباح مساء، لجميع ضروب الفنون، وحمايتها، وبالأخصِّ، البصريَّة منها، كالسـينما، والمسـرح، والفوتوغرافيا، والنَّحت، والفولكلور، والرَّقص، والأزياء، وسائر الطُّقوس والممارسات الشَّعبيَّة، وما إلى ذلك!
وللتَّأكيد على “الواقع المأساوي” المخالف لهذا “الوهم” يكفي أن نسوق توثيقاً لبضعة أمثلة من تردي أوضاع “الحرِّيَّات الابداعيَّة”، ضمن التَّردي الشَّامل الذي لحق بالحريَّات العامَّة والحقوق الأساسيَّة خلال عشرة أشهر فقط من انقلاب 25 أكتوبر 2021م.
ففي الخامس من أبريل الماضي اعتقلت الاستخبارات العسكريَّة، في سياق حملة قمع المتظاهرين، والصَّحفيِّين، والناشطين، وضربهم، ونهبهم، خمسة فنَّاني جداريَّات، على رأسهم أحمد الصَّادق “ميدو”، واقتادتهم إلى مكان مجهول، لكنها ظلت تنكر معرفتها بهم، مكبِّدة ذويهم وأصدقاءهم مشقَّة البحث، بلا طائل، في جميع أقسام الشُّرطة، ومشارح المستشفيات، ليتأكَّدوا، لاحقاً، وبطرقهم الخاصَّة، أن المذكورين محتجزون بسجن سوبا، وأنهم تمَّ نقلهم، في ما بعد، إلى سجن “دبك”، ومُنع ذووهم من مقابلتهم، فاضطُّرُّوا لتنفَّيذ وقفة احتجاجيَّة أمام مقرِّ مكتب الأمم المتَّحدة وسط الخرطوم، مطالبين بإطلاق سراحهم فوراً، أو تقديمهم لمحكمة عادلة، خاصَّة وقد تجاوزت مدَّة حبسهم 42 يومًا دون أن توجَّه لهم أيَّ تُهم، أو يُسمح لهم بمقابلة أسرهم أو محاميِّيهم. وتأكَّد ذوو “ميدو”، صاحب مشروع “فنٍّ قيد التَّطوير” لتعليم أساسيَّات الرَّسم، والناشط في محاربة العادات المجتمعيَّة الضَّارَّة، من أنه تعرَّض للضَّرب، وسلخ جلد معصمه، جرَّاء العنف في سحب مشغولات كان يلبسها! فضلاً عن تعرض بقيَّة المعتقلين للإيذاء جرَّاء العنف الذي مورس ضدَّهم، كمعتز النعيم “عزو” ـــ 19 عامًا ــ والذي ضُرب، عدَّة مرَّات، بكرسي على رَّأسه، ما أدَّى لإصابته بارتجاج في المخ، وفقدانه الوعي! ولم يُطلق سراح المجموعة إلا بنهاية مايو الماضي.
وفي العشرين من أكتوبر 2022م داهم مجهولون ملثَّمون يرتدون الزي المدني، برفقة قوَّة شرطيَّة على متن أكثر من 10 سيَّارات دفع رباعي، معرض “مجموعة المعمل المدني” الذي يشمل ورشاً لصناعة الأفلام، وعرضاً لأعمال دراميَّة، بجانب نقاش ثقافي، ومعرض للفنِّ التَّشكيلي، وذلك بمقرِّه بالعمارات بالخرطوم، وصادروا اللوحات، كما اختطفوا المنسِّق المالي للمعرض، ومجموعة من الموسيقيِّين، ومصممي الجُّلود، وبعض الرُّوَّاد، واصطحبوهم إلى جهة غير معروفة! وقد أدانت “المجموعة”، على صفحتها بالفيسبوك، مصادرة السُّلطة الانقلابيَّة للحريَّات الفنيَّة، والاعتداء المستمر على الفنِّ والفنَّانين، فيما حمَّلتها المسؤوليَّة عن سلامة الفنَّانين المعتقلين، وطالبتها بإطلاق سراحهم، وإعادة الأعمال الفنيَّة المصادرة.
وأدان تجمُّع الاجسام المطلبيَّة “تام” ما وصفه بالمسلك الاجرامي، وطالب السُّلطات بإطلاق سراح المحتجزين تعسُّفيَّاً، كما نادى بفك أسر الفن، ووقف التَّعدِّي على المناشط والفعاليَّات الثَّقافيَّة والفنيَّة. واعتبر “تام” هذه الخطوة حلقة جديدة في سلسلة انتهاكات السُّلطة الإنقلابيَّة مستخدمة مخالبها العسكريَّة، وتشكيلاتها المسلَّحة، علماً بأن قوَّات الانقلاب تستخدم، في انتهاكها للحرِّيَّات، شاملة حريَّة الفن، الأسلحة المضادَّة للطيران، وبنادق الكلاشنكوف، وبنادق الخرطوش التي تطلق المقذوفات المتناثرة، كما تستخدم المسدَّسات التي تعمل بالليزر، وتسبِّب كسوراً في الأيدي، علاوة على القنابل الصَّوتيَّة، وعبوَّات الغاز المسيل للدُّموع، والأسلحة البيضاء؛ وذلك لقمع الاحتجاجات المطالبة بإسقاط انقلاب 25 أكتوبر 2021م الذي قطع الطريق أمام الحكم الانتقالي وسلطته المدنيَّة.
وكان البرهان، قائد الانقلاب، قد أعاد، في يناير 2022م، بموجب أمر طوارئ، السُّلطة التي كانت لعناصر المخابرات في العهد البائد، كما منح القوَّات العسكريَّة المنفِّذة للطَّوارئ حصانة من المساءلة عن أيِّ جرائم قد ترتكبها أثناء عنفها ضدَّ المتظاهرين!
وفيما تشجع السُّلطة الانقلابيَّة الانفلات الأمني في السُّودان، خاصَّة في الخرطوم، وتوجِّه قوَّاتها العسكريَّة، والأمنيَّة، والشُّرطيَّة، لقمع الاحتجاجات التي تُنظِّمها لجان المقاومة، كشفت “مؤسَّسة مساحة جالوص الفنيَّة”، مؤخَّراً جدَّاً، عن هجوم مسلَّح على معرضها الفنِّي، منتصف الشَّهر، ما أدَّى لإصابة ثلاثة أشخاص، ونهب أربعة أعمال فنيَّة. وفي بيان أصدرته المؤسَّسة، قالت: “في مساء الإثنين15 يناير 2023م، عقب يوم من إفتتاح معرض (ما بعد الأسطورة) للفنَّان محمَّد صدِّيق؛ اقتحم مقرَّ (جالوص) بحي الخرطوم(3) – شارع كترينا، مجموعة مسلَّحين بأسلحة بيضاء يفوق عددهم ثلاثين شخصاً .. تعدُّوا على المتواجدين .. من الفنَّانين والعاملين، حيث أصيب محمد صدِّيق بكسر في ساعده الأيمن، كما أصيب مصطفى عثمان في رأسه ويوسف سواحلي إصابة في اليد والحسن يحيى بجروح ورضوخ”! وكشف البيان عن نهب المسلَّحين أعمالاً فنيَّة تخصُّ خالد كاجولي وأشرف عبد المنعم، وتكسير إطار لوحة للفنَّان وليد محمَّد، وأخرى للفنَّان مظفَّر رمضان، وتحطيم أعمال تلوين على الفخار للفنان المغيرة عبدالباقي، كما أقدموا على تهشيم مجموعة من الأعمال الفنيَّة الأخرى وبعض الأثاث، ونهب مجموعة من الآلات الموسيقيَّة تضمُّ جيتارين، وكماناً، وسمَّاعتي جيتار، وإتلاف آلة درامز، كما تمَّ تحطيم أجزاء درَّاجة ناريَّة مملوكة لعامل بالمؤسَّسة. وأضاف البيان موضِّحاً عمل المؤسَّسة الذي “استحقَّ” كلَّ هذا العنف المسلَّح: “ظل السُّؤال عن دور الفنَّان الاجتماعي، ضمن قضيَّة الهويَّة الثَّقافيَّة، ملازماً للحركة الفنيَّة منذ أول جيل من متعلمي وخريجي مؤسَّسات الدَّولة الحديثة الأكاديميَّة، وحتى يومنا هذا. كما شهدنا ونشهد دور الفنِّ وقدرته على إحداث التَّنوير والتَّغيير، لأجل إرساء قيم السَّلام، والتَّعايش، والاحتفاء بالاختلاف، في وطن يسع الجَّميع. هذه هي القيمة التي تجتمع حولها كلُّ أطياف المشتغلين بهموم الفعل الجَّمالي، والتي تدفعنا لخلق مساحة ثقافيَّة متعددة ومتنوعة النشاط يجد شباب وشابَّات السُّودان فيها فضاء للاسهام في رفد المعارف الإنسانيَّة”.
لذا أكدت المؤسَّسة إصرارها على استمرار معرضها، في نفس مقرِّها، بجميع أنشطته الثَّقافيَّة التي تشدِّد على إفشاء القيم المدنيَّة، والتَّمسُّك بالحقوق، وبوجوب كفالةً حريَّة التَّعبير والبحث الجَّمالي، كهدفٍ جوهريٍّ.
الثُّلاثاء
حقَّ لمنظَّمة “آفاز” الخيريَّة العالميَّة، وهي تستنفر التَّبرُّعات والمساعدات، تشبيه كارثة الزَّلزال الذي ضرب سوريا وتركيا، بيوم القيامة (!) حيث قتل، خلال اليومين الأوَّلين، ما لا يقلُّ عن 12 ألف شخص، بينما لا يزال الآلاف غيرهم عالقين تحت الأنقاض! لكن لم يفُت على المنظَّمة أن تلاحظ اختلاف الوضع في سوريا، للأسف، عنه في تركيا، من حيث التَّجهيزات التِّكنولوجيَّة اللازمة في اﻷخيرة، مقارنة مع الأولى التي أدَّت الحرب إلى تمزيقها شرَّ ممزَّق، فحرمت ملايين الضَّحايا فيها من أدوات، وآليَّات، ومواد العـون الدَّولي، فضــلاً عمَّـا لحـق بالمـرافق الصِّــحِّيَّة مـن دمـار شامل.
رغم هذه الأوضاع المادِّيَّة الحرجة، فإن الإنسان الباسل في سوريا ما يزال هو الانسان الباسل، حيث ما انفكَّ الأبطال المتطوِّعون الشِّجعان، المعروفون باسم “متطوعو الخوذات البيضاء”، يحفرون، منذ اللحظات الأولى، ليزيلوا الأنقاض بأيديهم العارية، من أجل إنقاذ العالقين تحتها. ومع أن هؤلاء هم أفضل ما تبقَّى من أمل للضَّحايا، فإنهم بحاجة ماسَّة للتَّزوُّد بالآليَّات اللازمة، وبالوقود اللازم لتشغيل هذه الآليات، وبالمواد اللازمة لإنشاء مراكز إيواء الناجين بأقصى سرعة.
وفَّق الله منظَّمة “آفاز”، ورعى جهودها النَّبيلة، وجهود كلِّ أخيار العالم، في دعم مدنيِّين أبرياء، فيهم نساء وأطفال وعجزة، فرضت عليهم حكومة الأسد “الموت في زمن الزَّلازل”!
الأربعاء
على حين كان الأهل والرِّفاق عاكفين، ظهر الأربعاء الماضية، على مواراة حبيبنا عبدالرحمن الزَّاكي ثرى احمد شرفي، كنت عاكفاً على اجترار الذِّكريات، وحدي، خارج السُّور الغربي للمقابر، جرياً على عادة ما انفكَّت تلازمني مذ أجبرتني عليها نصيحة أطباء كُثر، كان هو أوَّلهم، بألا أجوس، بقدم السُّكري، كما يسمُّونها، بين شواهد الحديد الصَّدئ، لا ليلاً ولا نهاراً.
نعم وحدي، وسخين الدَّمع مـلء المآقي، فليس ثمَّة ما يوجع القلب، يهصره، بل يفتِّته، ويكاد يكتم النَّبض فيه، أقسى من رحيل إنسان عزيز. ولقد صدق، حقَّاً، مَن قال إن التَّرحُّم أوجب، من باب أولى، على من عاش دون أعزَّائه، فالحياة، آنئذٍ، وجعٌ كفى به موتاً! وإنك، لتبحث، في مثل هذه اللحظات، عن حفنة كلمات تسكِّن بهنَّ البلبال، ومَّا يعتمل بين الجَّوانح، وما يكاد ينشقُّ له الصَّدر، فلا تجد غير الدَّمع الهتون، والأنين الكتيم، والذِّكريات الصَّامتة!
لقد راح يهمي عليَّ، من وراء نصف قرن، وأنا بانتظار الفراغ من مراسم الدَّفن، نثيث ناعم لذكريات الشَّباب العذبة مع الحبيب الرَّاحل، أوان كان يتقاسم السُّكنى، مطالع السَّبعينات، مع صفيِّه محمَّد محيي الدِّين، عليهما الرحمة والرّضوان، وصفيِّهما الثَّالث الذي لا أستطيع أن أتصوَّر وقع الفاجعة عليه، وحيداً في غربته الشَّاهقة، على عبدالله! هكذا عادت بي الذَّاكرة إلى موسكو، إلى داخليَّة الطب بجامعة الصَّداقة، في منطقة صُورَكْفْتَرُوي، حيث كان مسكنهم العابق كرماً قبلة جميع الأصدقاء القادمين، ليس، فقط، من كييف، وليننغراد، وخاركوف، وسمفروبل، ومنسك، وطشقند وباكو البعيدتين، وسائر بلاد السُّوفييت، آنذاك، بل حتَّى من خارج حدودها.
كانت شتاءاتنا دافئة بالمحبَّة، وأصيافنا رطبة بالمرح، والسُّـودان في كلِّ ثانية مـلء الخواطر، ومع كلِّ نبضة في حدقات العيون، ومحطَّ احلامنا، وملتقى آمالنا، ودافِع بذلنا الأكاديمي، ومعقد إزار تشهِّياتنا بالعودة لخدمته بالمهج والأرواح. والأمر الذي ربَّما لا يعلمه الكثيرون، أن حبيبنا الرَّاحل، بقدر ما كان مضرب المثل في التَّفوُّق العلمي، وقتها، حتَّى لقد صار، لاحقاً، أحد أشهر جرَّاحي العظام في المنطقة كلها، كان، كذلك، أحد أبرز المغنِّين الطلاب، بصوته العذب، وقدرته الرفيعة على التَّطريب، دَعْ تواضعه الجَّم، وظله الخفيف، وأنسه الرَّاقي، وحسَّه العالي بالفكاهة، وكان كثيراً ما يردِّد: لو ما الحزب الشِّيوعي أنا كنت بقيت راعي! وقد ظلَّ عبدالرَّحمن، بالفعل، مقدَّم المكانة في الاخلاص والوفاء للوطن، ولحزبه الشِّيوعي، ولأهله وعشيرته في الفاشر مرتع صباه، وبواكير شبابه، حيث درس المرحلة الثَّانويَّة، وزامل، في المدرسة والحزب، صديقه الحميم شهيد ثورة أكتوبر الأوَّل احمد القرشي طه.
أنهينا دراستنا الجَّامعيَّة، فتقاطرت أفواجنا عائدة للوطن، كي ننضمَّ إلى زملاء خرِّيجين من داخله وخارجه، حاملين مختلف الشِّهادات، في شتَّى التَّخصُّصات. لكنَّ أحداً منهم ما كان ليتصوَّر أن الديكتاتوريَّات تضمر لأغلبهم، مثلما لأغلب بنات وأبناء جيلهم، وأجيال سابقة ولاحقة، أياماً في حُلكة سجم الدَّواك، لتحدِّد مصائرهم بين الملاحقة والسُّجون، من جهة، وبين مغتربات الخليج، ومهاجر أقصى الأرض، من جهة أخرى!
هكذا كان نصيب حبيبنا الرَّاحل قضاء سنوات طوال من عمره بليبيا، فتباعدنا، ولم يُكتب لنا أن نلتقي مجدَّداً حتَّى عودته، وانضمامه، مؤخَّراً، إلى كوكبة زملائه وزميلاته بمستشفى “تُُقى” بأم درمان، حيث يشهد له الكثيرون بأنه لم يكن يكتفي بعلاج من يعرف ومن لا يعرف من ذوي الدَّخل المحدود مجَّاناً، وإنَّما كان يصرف لهم الدَّواء، أيضاً، من جيبه الخاص!
ربَّنا إن الموت ينهي حياة، لكنه لا ينهي علاقة، لذا سنعيش، ما حيينا، مع كلِّ معنى طيِّب تركه عبدالرَّحمن وراءه، وسنبقى نذكره بأجمل ما يُذكر به إنسان، حتَّى نلتحق به، وسنفتقده، ونحِنُّ لوجوده، ونبكيه بدمع الحسرة، لكنَّا لا نقول إلا ما يرضيك [إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]، فنسألك بحقِّ جاهك، وجاه نبيِّك الكريم، أن تجعله من السَّاكنين جنتك، المقرَّبين إليك، المرضي عليهم منك، وأن ترحمه، وتغفر له، وتجبر كسر قلوب أهله، وأحبابه، ومرضاه، وقلوبنا، أجمعين، وأن تلهمنا، من بعده، جميل الصَّبر والسُّلوان.
الخميس
عندما أعلن الحزب الشِّيوعي أنه لن يتعاطى مع “الكُتل السِّياسيَّة”، وإنَّما، فقط، مع “مكوِّناتها” فرادى، “استهجن” قادة ورموز “المجلس المركزي للحريَّة والتَّغيير” ذلك الموقف!
لكن، بصرف النَّظر عمَّا إن كان موقف الحزب الشِّيوعي صحيحاً أم خاطئاً، فثمَّة خبران يرجَّان مشروعيَّة ذلك “الاستهجان” رجَّاً:
الخبر الأوَّل: ورد الأسبوع الماضي، وفحواه أن “الرُّباعيَّة” المكوَّنة من الولايات المتَّحدة، والمملكة المتَّحدة، والمملكة السُّعوديَّة، ودولة الامارات، والتي تدعم “الاتِّفاق الاطاري”، طرحت مبادرة لعقد اجتماع، بإشرافها، يضمُّ قائد الانقلاب البرهان، ونائبه حميدتي، وممثِّلين للموقِّعين على “الاتِّفاق الاطاري”، مع مني أركو مناوي، وجبريل ابراهيم، وجعفر الميرغني، بغرض مناقشة انضمام غير الموقِّعين للعمليَّة السِّياسيَّة!
الخبر الثَّاني: فحواه أن ياسر عرمان، رئيس الحركة الشَّعبيَّة لتحرير السُّودان ـــ التَّيَّار الدِّيموقراطي، وأحد قيادات القوى الموقِّعة على “الاتِّفاق الاطاري”، شاملة “المجلس المركزي للحريَّة والتَّغيير”، أكَّد، حرفيَّاً، على أنه، إذا ما تمَّ اللقاء بين “الحريَّة والتَّغيير” و”حركة تحرير السُّودان” بقيادة مني أركو مناوي، و”حركة العدل والمساواة” بقيادة جبريل إبراهيم، فإن ذلك سيتمُّ مع “تنظيماتهم”، أي “فرادى”، وليس مع “الكُتلة الدِّيموقراطيَّة” التي تضمُّهم أجمعين!
فإذا أخذنا في الاعتبار أن تصريح عرمان هذا يطابق، من جهة، تصريح الحزب الشِّيوعي، معنى ومبنى، وأنه، من جهة أخرى، يشمل التَّعبير، بالضَّرورة، عن موقف “الحريَّة والتَّغيير”، أفيعود ثمَّة معنى لذلك “الاستهجان”؟!
الجُّمعة
في وقت متأخِّر من ليل الجُّمعة 10 فبراير 2023م، تابعت، بمزيد من المتعة، إعادة بثِّ قناة “سودان بكرة” للنَّدوة الفكريَّة التي كانت نقابة الصَّحفيِّين قد عقدتها، بمقرِّها بالخرطوم، في 29 يناير 2023م، حول “دور الاعلام في محاربة خطاب الكراهيَّة”. وفي ما يلي أدوِّن ثلاث ملاحظات بشأنها:
(1) تميَّزت النَّدوة بمستوى راقٍ جدَّاً من المساهمات، سواءً من المتحدِّثين الرَّؤساء أو المناقشين، فقد أبدوا جميعهم معرفة وثيقة بالموضوع، وتقيُّداً صارماً بالحديث في صلبه، مقارنة بـ “الهردبيس” و”تشتيت الكُرة” اللذين أضحيا، للأسف، سمة ملازمة للكثير من الفعاليَّات المشابهة، حتَّى أنك ما تلبث أن تأسى لممارسات “تعلُّم الزِّيانة على رؤوس اليتامى”، ثمَّ سرعان ما تفقد شهيَّة المتابعة بعد قليل من بداياتها!
(2) افتقدت، بين المشاركين، كلاً من فيصل الباقر ومديحة عبدالله لسـبب أساسي، وهو أن الباقر كان المنظِّم والمدير لأوَّل مؤتمر من نوعه في السُّودانين، شمالاً وجنوباُ، حول نفس المسألة، وهو “مؤتمر المناصرة لمناهضة خطاب الكراهيَّة وتأكيد دور الميديا في فضِّ النِّزاع، واحترام وتعزيز حقوق الانسان في/ وبين جمهوريَّتي السُّودان وجنوب السُّودان”، والذي انعقد بمبادرة من منظَّمة “صحفيُّون لحقوق الانسان ــ جهر”، في العاصمة الكينيَّة نيروبي، خلال الثَّاني والثَّالث من أكتوبر 2014م، بمشاركة صحفيِّين وكتَّاب صَّحفيِّين من البلدين، أمَّا افتقادي لمديحة في ندوة النَّقابة، فلأنها كانت من المشاركين الأساسيِّين في مؤتمر نيروبي الذي كان لنا، أيضاً، شرف المشاركة فيه، ضمن وفد السُّودان. وكان في مقدِّمة وفد جنوب السُّودان المرحوم ديريك ألفريد، رئيس تحرير صحيفة “خرطوم مونيتور” التي صارت “جوبا مونيتور” بعد الانفصال/ الاستقلال. وقد احترت لكون حسين سعد، أحد متحدِّثي ندوة النَّقابة، أغفل الاشارة لمؤتمر نيروبي، مع أنه كان من أبرز المشاركين فيه ضمن وفدنا! وقد اختتم المؤتمر أعماله بإصدار “إعلان نيروبي” الذي وقَّعنا عليه في الحادي والعشرين من نفس الشَّهر (راجع قوقل).
(3) رغم أنني حرصت على متابعة جميع مداخلات ندوة النقابة بدقَّة وعناية، وخلصت إلى أنها، كما سبق وأشرت، تميَّزت بمستوى عالٍ من الرِّفعة، إلا أن ثمَّة إشادة خاصَّة تلزمني، عن استحقاق، بمستوى طرح الجَّميل الفاضل. لكن، مع ذلك، ما زال في نفسي شئ من حتَّى إزاء الادراك السَّائد، سواء في ما تمَّ تداوله بالنَّدوة، أو في أدبيَّات الأمم المتَّحدة نفسها، بشأن مفهوم “خطاب الكراهيَّة”! فماذا عن الخطاب “الكاره”، على سبيل المثال، لـ “الامبرياليِّين”، و”العنصريِّين”، و”الصَّهاينة”، و”النَّازيِّين الجُّدد”، و”رموز النِّظام الإسرائيلي”، و”الأعداء الطَّبقيِّين” للعمَّال، والمزارعين، وسائر الكادحين؟! لقد سبق أن أثرت نفس هذا التَّحفُّظ خلال مداولات مؤتمر نيروبي، وأذكر أن مديحة أبدت اعتراضها عليه دون أن يتاح لي، آنذاك، فهم منطلقاتها! فلعلَّ الفرصة سانحة الآن كي نتداول فهماً يبلغ بنا ساحل قناعة مشتركة.
السَّبت
كتب عبد الرَّزاق توفيق، رئيس تحرير صحيفة “الجُّمهوريَّة” المصريَّة، قبل أيَّام، مقالاً نشره، فضلاً عن موقع الصَّحيفة على الشَّبكة الأسفيريَّة، موقع “القاهرة 24″، أيضاً. ولم يستخدم الكاتب أسلوب المداراة بالغمز واللمز، بل جاء غير مسبوق في فظاظة لغته، وفجور خصومته باسم مصر، حاملاً، بشكل سافر، سبَّاً علنيَّاً، وإساءة بالغة للمملكة العربيَّة السُّعوديَّة، دولة وحكَّاماً، وذلك في أعقاب قرارها وضع آليَّة جديدة لمساعداتها الخارجيَّة، بالتَّزامن مع ما تشهده مصر، حاليَّاً، من أزمة اقتصاديَّة حادَّة!
جاء المقال بعنوان “الأشجار المثمرة وحجارة اللئام والأندال”! وقال توفيق فيه: “هناك أغبياء أعماهم المال يدركون أنه لو حدث مكروه لمصر فلن يبقوا دقيقة واحدة بعدها، وأنهم مجرد تفاصيل وتوافه”!
وقال: “شكرا للمحن، والشَّدائد، والأزمات التي تعرِّفنا بالفرسان من الأندال، وأولاد الأصول من اللقطاء”!
وأردف إلى ذلك: “ليس من حقِّ اللئام والأندال ومحدثي النِّعمة أن يتطاولوا على أسيادهم”!
واستطرد بقوله: “هم مجرَّد هواء وفراغ يتلاشى بمجرد هُبوب عواصف بسيطة .. لكنَّ مصر هي الجِّبال الرَّاسيَّات الشَّامخات”!
وتابع قائلاً: “ليس من حقِّ دويلات عمرها لا يزيد على عمر أصغر أبنائي أن تتحـدَّث عـن مصـر إلا بالأدب، والإجــلال، والاحــترام”!
وأضاف، متجاوزاً بشتائمه المملكة إلى “غيرها”، بغمز لا يحتاج إلى كثير ذكاء لإدراك كنهه: “إذا كان يمكنهم شراء بعض أصوات وأبواق الأقزام، والعملاء، والمرتزقة، فلا يمكنهم شراء التَّاريخ، والحاضر، والمستقبل”!
أثار المقال ضجَّة عارمة ليس في السُّعودية، فحسب، بل وفي مصر ذاتها، في خضمِّ توتُّر يرى فيه البعض تعبيراً عن أزمة مكتومة بين البلدين! ويجدر، على هذا الصَّعيد، ذكر مسألتين مهمَّتين لأجل القراءة الأفضل لهذه الواقعة:
أولاهما: أن بوادر الأزمة المشار إليها لاحت بالتَّزامن مع احتضان القاهرة لما سمِّيت “ورشة الحوار السُّوداني – السُّوداني”، خلال الفترة 2 -7 فبراير الجَّاري برعاية الحكومة المصريَّة، وهي فعاليَّة حشدت لها القاهرة قوى سياسيَّة ومسلَّحة سودانيَّة بعيدة عن الرُّؤية الاستراتيجيَّة السُّعوديَّة!
وثانيتهما: أن من أبرز ردود الأفعال على مقال توفيق داخل مصر ما كتبه علاء مبارك، نجل الرَّئيس المصري السَّابق الرَّاحل حسني مبارك، في تغريدة على حسابه بموقع “تويتر” واصفاً المقال بأنه: “تطاول وإساءة غير مقبولة .. في حق الأشقَّاء، وأسلوب مرفوض يستحقُّ المساءلة”! وذلك قبل أن يتم حذفه، ويعتذر عنه توفيق نفسه، في تهافت لا يخفى، بل ويكاد ينكره .. عديييييل!
الأحد
امتدح البعض، في دولة بني العبَّاس، عالِماً خراسانيَّاً جليلاً وصفًوه بالحفظ، والفقه، والفصاحة، والزُّهد، والكرم، والشَّجاعة، والشِّعر الحسن، والتَّصانيف الحسان، وأنَّهم ما علموا خصلة من الخير إلا وقد جعلها الله فيه. ورووا إنه قدم مرَّة الرَّقة (شمال سوريا)، وبها هارون الرَّشيد، فلمَّا دخلها احتفى النَّاس به، وازدحموا حوله، فأشرفت أمُّ ولد للرَّشيد من قصر هناك، فقالت: ما للناس؟! فقيل لها: قدِم العالِمُ فلانٌ من خراسان، فانجفل النَّاس إليه، فقالت: بخٍ بخٍ .. هذا هو المُلْك، لا مُلْك هارون الرَّشيد الذي يجمع النَّاس عليه بالسَّوط والعصا، والتَّرغيب، والتَّرهيب!
***