الرأي

المفوضيات .. فريضة الثورة المنسية!!

ولئن أفردت الوثيقة الدستورية فصلاً كاملاً، هو “الفصل الثاني عشر”، للحديث عن المفوضيات الواجب إنشاؤها لدعم الإنتقال، ومساعدة مؤسسات الدولة على التعافي والنهوض بعد طول تجريف، فقد فصلت فيها بما يبين الرؤية، ويحدد معالم الطريق. لكن تأخر تكوين هذه المفوضيات كثيراً، حتى تجاوزت حكومة الثورة عامها الأول، لتدخل بعد ذلك في طور التجاهل، مما أربك عمل التشكيلة الإنتقالية، وساهم إلى حد كبير في تغول مكونات الإنتقالية على صلاحيات بعضها البعض، وحصدت البلاد جراء غياب المفوضيات هذا، بطئاً كبيراً في إنجاز واجبات الفترة الانتقالية في عامها الأول.
قضت الوثيقة بإنشاء مفوضيات مستقلة، يُرشح لها الأشخاص المشهود لهم بالخبرة والنزاهة، وأن يُعين مجلس السيادة بالتشاور مع مجلس الوزراء، رئيس وأعضاء لمفوضيات السلام، والحدود، ومفوضية صناعة الدستور، والمؤتمر الدستوري، ومفوضية الإنتخابات. في حين يُعين مجلس الوزراء رئيس وأعضاء مفوضيات الإصلاح القانوني وحقوق الإنسان، والأراضي، ومفوضية إصلاح الخدمة المدنية، بالإضافة لمفوضية مكافحة الفساد واسترداد الأموال العامة، ومفوضية العدالة الإنتقالية، والمرأة. فضلاً عن أي مفوضيات أخرى يرى مجلس الوزراء ضرورة لإنشائها. لكنه وبعد عام ونيف من تشكيل الحكومة الإنتقالية، لم تتكون ولا واحدة من هذه المفوضيات – على أهميتها – فبخلاف خبر وحيد عن اختيار البرفيسور “سليمان محمد الدبيلو”، رئيساً لمفوضية السلام، ومقرراً للمجلس الأعلى للسلام، لم يأت ذكر المفوضيات على مستوى التنفيذ. وعلى الرغم من اضطلاع بعض اللجان والمجالس المستحدثة ببعض أعمال هذه المفوضيات، كـ”لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو ومحاربة الفساد واسترداد الأموال العامة”، بدلاً عن “مفوضية مكافحة الفساد واسترداد الأموال العامة”، و”المجلس الأعلى للسلام”، بديلاً عن “مفوضية السلام”، إلا أن هذه الأجسام المستحدثة لم تُشكل بديلاً موضوعياً للمفوضيات من حيث النجاعة والفاعلية، وعليه فقد ظل ملف المفوضيات في حكم المجمد، وظهرت التجاذبات بين أطراف الإنتقالية نتيجة لتداخل الملفات، الشيء الذي فطن له شركاء الإنتقالية بعد حين. ففي اجتماع للشركاء أبريل الماضي، تم وضع خطة للإصلاح تحدثت عن إجازة مصفوفة ملزمة للأطراف الثلاثة، فصلت المسؤوليات، ووضعت مواقيت لتنفيذ مهام عاجلة في عدة محاور شملت الشراكة، والسلام، والأزمة الاقتصادية، وتفكيك التمكين، وإصلاح الأجهزة العسكرية والأمنية، والعدالة، والعلاقات الخارجية. وخرج الاجتماع – بحسب بيان مشترك – بقرارات مهمة، كان من بينها الإسراع باستكمال بناء هياكل السلطة الانتقالية، وتكوين لجنة طوارئ اقتصادية للتعامل مع الأزمة المعيشية، ومواجهة فلول النظام البائد. كما حدد الاجتماع آليات مشتركة لمتابعة تنفيذ المصفوفة ومراقبتها، وتقييمها وضمان إنفاذ المهام العاجلة، والتي تعثرت، من مهام المرحلة الانتقالية .
ويُفهم من هذا البيان المشترك شموله لقضية المفوضيات التي ذكرتها الوثيقة الدستورية في فصلها الثاني عشر، بحيث تكون من ضمن القضايا المدرجة في مصفوفة الإصلاح ولو من باب مهام الإنتقالية التي تعثرت غير أن تسارع الأحداث من جانب والتداخل في الملفات والجهات التي يسند إليها كل ملف من جانب آخر بالإضافة لتجاهل المصفوفة نفسها من الجميع في نهاية الأمر جعل الحديث عن المفوضيات ضرباً من النبش في أضابير التاريخ فيما صارت هذه المؤسسات البديلة المستحدثة تعمل على ملفات الإنتقال الجسام وتواجه في ذلك صعوبات كان من الممكن أن يذللها وجود المفوضيات والتزام كافة الأطراف بالوثيقة الدستورية من حيث تحديد المهام. أما بالنسبة لمفوضية السلام فقد كان لغيابها بالغ الأثر في تعثر العملية برمتها. فمن أديس أبابا، إلى القاهرة، إلى جوبا، تفرقت جهود المتفاوضين دون التوصل لحل، واستمر ماراثوان السلام الطويل، والذي كان من المقرر إنجازه بحسب الجدول الزمني للوثيقة في الستة أشهر الأولى من عمر الإنتقالية بعد توقيع الوثيقة، فإذا به يتطاول لما يزيد عن العام دون التوصل لسلام شامل، على الرغم من التوصل لاتفاق هام ومفصلي مع الجبهة الثورية نتيجة لجهود المجلس الأعلى للسلام، الشيء الذي كان يمكن تجنبه في حالة قيام المفوضية التي تضطلع بكافة الملفات المتعلقة بالسلام في وقت واحد بعد تكوينها وهيكلتها وتقسيمها لإدارات مختصة تضطلع كل منها بما يليها في هندسة السلام، ابتداءاً من الورش التحضيرية، وتقسيم العملية لملفات تتعلق بمختلف القضايا من قبيل الترتيبات الأمنية كنزع السلاح، والتسريح، وإعادة الدمج، والذي كُونت له مفوضية قائمة بذاتها في اتفاق نيفاشا “2005”.
وأما لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو ومكافحة الفساد واسترداد الأموال العامة، والتي كُونت لسد الفراغ الذي أحدثه غياب مفوضية مكافحة الفساد، فقد وقع عليها عبءٌ ثقيلٌ أبطأ من عملها، على الرغم من تكوين لجان فرعية لها في المؤسسات والوزارات والولايات مؤخراً، وحققت إنجازات في مجال تفكيك التمكين في المؤسسات العامة لحد ما، وفي فساد الأراضي والفساد الإقتصادي بشكل عام، وذلك لأن العبء الواقع على اللجنة كبير. وكان من شأن المفوضية القيام بهذا الدور بصورة منتجة وأكثر فعالية وديمومة، تأخذ على عاتقها مكافحة فساد “الإخوان” القديم، وتظل على حالها في محاربة الفساد كمهمة مستديمة، وعلى ذلك قس. فلم يأت اجتراح المشرع للمفوضيات من قبيل الترف أو الزينة، بل لحاجة موضوعية لوجودها، من أجل القيام بمهامها المحددة لها على نحو فاعل، وبصورة تضع البلاد على أعتاب الدولة المدنية الحديثة عقب فترة الإنتقال، وتُساعد المؤسسات العامة المُثقلة بتركة فساد “الإخوان” المشهود، على التعافي.
ومن نافلة القول الحديث عن أن غياب المفوضيات كان له بالغ الأثر على تعثر مسيرة الإنتقالية نفسها، فغياب مفوضية مكافحة الفساد مثلاً ترك المجال مفتوحاً أمام الفاسدين القدامى للفرار بأموالهم، وجعل من الشركات “الإخوانية” مدخلاً لدعم الثورة المضادة بالأموال، والدعم اللوجستي. هي أموال تستخدم في المضاربة في الذهب والدولار، وشراء المواد التموينية بنية إتلافها أو تهريبها، والدفع لعصابات النيقرز وحارقي المحاصيل وذباب الثورة المضادة الإلكتروني في حرب اقتصادية أمنية على ثورة الشعب المجيدة، وغير بعيد عن الأذهان حديث الراحل الترابي في برنامج “شاهد على العصر” على “قناة الجزيرة”، عن أنهم أدخلوا ما يحتاجون له من أجهزة تصنت وأجهزة اتصال متقدمة حتى على أجهزة الجيش نفسه في فترة الديمقراطية الثالثة عبر شركات خاصة مملوكة للإخوان، واستخدمت هذه الأجهزة في تزوير إرادة الجيش في انقلاب الثلاثين من يونيو. لكن وفي وجود مفوضية قومية لمكافحة الفساد بالمعايير التي تم ذكرها في الوثيقة الدستورية، فإن مكافحة مثل هذه الشركات يكون يسيراً، وفي حيز الإمكان عبر إجراءات رقابية صارمة، تُجبرها على الكشف عن أنشطتها بحكم القانون، وبشكل واضح وجلي، وتبحث في مصادر تمويلها، مما يُضعف من تدبير الثورة المضادة وفلول الإخوان، في حربهم المفتوحة على ثورة ديسمبر التي اندلعت، فإذا هي تلقف ما كانوا يأفكون. وكان لغياب مفوضية إصلاح الأجهزة الأمنية بالغ الأثر كذلك في تأخر إصلاح هذه الأجهزة الشيء الذي دفع ثمنه الشعب السوداني غالياً، ولا يزال يدفعه ولو على نطاق أضيق، بفعل ما طرأ من إصلاح طفيف في تلك الأجهزة، ليربح الشعب بإرادته الفولاذية مرة أخرى، في مساومة “الأمان مقابل القبول بمشاركة الإخوان في السلطة”.
والسؤال هنا هل فات الزمن على تكوين هذه المفوضيات؟ الواقع أن الزمن لم يفت بعد على تكوينها إن توفرت الإرادة السياسية عند شركاء الإنتقالية بإجراء مراجعة شاملة لأداء مجلسي السيادة والوزراء، أسوة بمؤتمر إصلاح الحرية والتغيير المزمع عقده، تستصحب معها ما سقط من بنود الإتفاقية بفعل الزمن والظروف، وتعقيدات المشهد السياسي الإنتقالي، ومن بينها تكوين المفوضيات بلا شك. أو فلنقل “استدعاء” المصفوفة التي توافقت عليها مكونات الإنتقالية الثلاث، وأعلنت لها جدول زمني تجاوزته بالفعل قبل أن تدخل إلى أضابير النسيان. وفي ذلك يمكن الإستئناس بما تحقق بواسطة لجان ومجالس ومؤسسات بديلة كـ”المجلس الأعلى للسلام”، على سبيل المثال في “مفوضية السلام”، و”لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو”، في “مفوضية مكافحة الفساد”، فالحق أحق أن يُتبع، ولو بعد حين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى