حوارات

الكاتب والأديب فايز السليك للـ (العرب الدولية) على الكاتب ألا يتعاطف مع شخصياته

حوار- مصطفى عبيد
تستدرجنا وقائع الحياة ومواجعها فتُحلق بنا في سماوات الدهشة، ونوغل في حوادث الناس حولنا فنوقن أن الخارطة العربية منجم حكايات غرائبية وبئر لا تنقطع من الإبداعات. من هنا نتفهم جمال الحكي المصاحب لروايات حديثة تقدم مواجع المجتمعات العربية، منها رواية الأديب السوداني فايز السليك الأحدث “وللبحر ارتعاشات”. “العرب” التقت بالروائي حول عمله الأخير وقضايا أدبية أخرى.
تغوص رواية “وللبحر ارتعاشات” للكاتب في تفاصيل ظاهرة هجرة الشباب العربي إلى أوروبا خلاصاً من أزمات مؤرقة وطلباً لحيوات أجمل.
صدرت الرواية عن دار الشروق بالقاهرة مؤخراً، وقدمت حكايات متنوعة لنماذج مختلفة من الشباب قدموا إلى القاهرة من عدة دول بغرض عبور البحر المتوسط إلى أوروبا أو الهروب عبر سيناء إلى إسرائيل، ويتقاسم بطل الرواية السوداني الجنسية أحلامه مع صديق هارب من جحيم سوريا ومجموعة من المثقفين العرب والأفارقة يحملهم مركب فار إلى آمالهم.
مثل زهرة صبار
يكشف السليك في لقائه مع “العرب” كيف تشكلت لديه الفكرة في مخيلته قبل أن تتحول إلى نص مكتمل يضم شخوصاً لأناس حقيقيين، ويحكي كواليس كتابة النص قائلاً “حين جئتُ إلى القاهرة شعرتُ بإلفة وحميمية مع الأمكنة ومع البشر، وشعرتُ كأنني أعرف المدينة بصخبها وولعها بالحياة، شدني كذلك الوجود السوداني وأوضاع بعض الواقفين في صفوف الهجرة عبر الأمم المتحدة أو الفرار عبر البحر المتوسط أو سيناء إلى إسرائيل، مع اكتشاف عالم تحتي يدير عمليات تهريب البشر وبيع الأعضاء، هكذا تكونت الفكرة لدي بين مقاهي القاهرة”.
ويؤكد أن الدافع وراء كتابة النص كان تصاعد ظاهرة الهجرة غير القانونية، التي صارت حلم الشباب والشابات هرباً من بؤس الواقع في عدة بلدان، وبحثاً عن جنات تجري تحتها كنوز الذهب والحريات والدولارات، وربما كانت الرواية مستحثة لهؤلاء الهاربين والحالمين بأن يواجهوا واقعهم بدلاً من المغامرات المختتمة بالموت غرقاً بين مياه البحر.
ويعترف السليك بأن الرواية تعيد حكي وقائع حقيقية خاصة في ما يخص غرق السفن المكدسة باللاجئين وتجارة الأعضاء وتهريب البشر، لافتاً إلى أن هذه الأحداث حقيقية وتحدث باستمرار، فالكاتب هنا يفترض أن يكون هو قلب المجتمع النابض وضميره الحي وصوته المسموع، ولا شك أن توظيف الوقائع الحقيقية يصبح هنا ضرورة في عملية بناء النص السردي.
توظيف الوقائع الحقيقية ضرورة في عملية بناء النص السردي
وحول اختياره عنوان “وللبحر ارتعاشات” والذي يحمل تعبيراً شعرياً يقول السليك “أنا من الذين تؤرقهم مسألة اختيارات الاسم لأنه يمثل لي بوابة الدخول إلى النص، وكان اسم الرواية في البداية (زهرة البستان) وهو اسم مقهى شهير بوسط القاهرة، لكن بعد أن غصتُ في لجة النص أسرني البحر، وأنا عاشقٌ له، وجدتُ الأنسب اقتباس جملة أو حوار مرتبط عضوياً بفكرة الرواية، فكان الاسم ‘وللبحر ارتعاشات’ مأخوذاً من هذا المقطع الصغير“.
وأوضح الروائي السوداني أن لغة الشعر تستهويه وتمنى في بدايات مشواره الأدبي أن يكون شاعراً، وله محاولات عديدة في هذا الصدد، لكنها لم ترضه، وهو يؤمن بأن الرواية الحديثة سيناريو فني كامل وشامل للفنون ولغة السرد ذات النفس الشاعري أكثر جذباً من الكتابة التقريبية الجافة.
وفي رأيه يجب كتابة الفن بلغة تحمل أنفاس وعبق الشعر من خلال التكثيف، وانتقاء المفردات، واستخدام الجمل القصيرة، وتوظيف المحسنات البديعية في الوصف والتصوير والتشبيه، لكن ليس بالضرورة أن يهدف ذلك إلى الإغراق في بحر اللغة وحشد الرواية بلغة إنشائية، تخلو من حرفية الكتابة الروائية فتصبح الكلمات طبولاً جوفاء.
ويضيف “النص الروائي دون امتلاك تقنية السرد وحيوية الشخوص وجاذبية الأمكنة يصبح مثل زهرة صبار تخلو من العطر والعبق، ويجب الالتزام بشروط السرد الروائي دون إهمال اللغة أو التنطع”.
وحول أساليب البناء في النص يقول السليك “أبني هيكل روايتي في خيالي قبل كتابته، وقبل بدء طقس الكتابة، وأحرص على اختيار شخوص يخدمون ويشاركون في صنع الأحداث مثلما تساهم الأحداث في نمو الشخصيات. وأميل أن تكون لكل شخصية بصمتها الخاصة وشفرتها الجينية داخل النص، وكثيراً ما أصادف أشخاصاًفي الحياة تستفزني بعض صفاتهم شراً أو خيراً، فأركز على أرواحهم وانفعالاتهم الداخلية فأقتبس جوهر الشخصية”.
وتعرف السليك على صديق سوري جاء إلى مصر لاجئاً، وانتقل به إلى نصه الإبداعي فنقل منه سخريته الجميلة من كل شيء ومن واقعه، وعند كتابة الرواية استأذنه في اقتباس بعض كتاباته على مواقع التواصل الاجتماعي، كما التقى بأفواج من السودانيين القادمين إلى القاهرة للعلاج أو الدراسة أو التنقل عبرها لدول أخرى، وتحولت بعض الوقائع المحيطة إلى نصوص حية.
ويؤكد الأديب السوداني أنه يحاول من داخل النص تطويع انفعالات الشخوص والغوص في دواخلهم وتقديم الحوارات الداخلية لكشف دواخل النفوس البشرية، فالشخصيات الروائية بشر من لحم ودم ليسوا ملائكة أو شياطين.
ويشير في حواره مع “العرب” إلى أنه كثيراً ما ترهقه بعض الشخصيات أثناء الكتابة لدرجة أنه يدخل أحياناً في حالة عشق مع بعضها، لاسيما النساء، دون أن يسمح بتعاطف يفقده السيطرة على تصاعد الأحداث واتجاهات سيرها، وربما يحزنه موت شخص، لكن لا يتردد في قتله حال كان ذلك مفيداً للنص.
الرواية مشروع إنساني
حول اهتمامه بالتنقل من مكان إلى آخر يقول الكاتب إن المكان للنص هو الفضاء الفسيح الذي تتحرك فيه الشخوص وتدور في داخله الأحداث، هو بيئة النص التي تحكمه وتبني معه علاقة جدلية من شد وجذب، تضاد وتقابل، تأثير وتأثر، والفضاء ذاته يتحول إلى أمكنة عامة وأخرى خاصة وثالثة افتراضية، فالفضاء العام هو البلاد التي تدور فيها الأحداث والأمكنة هي المدن والبحار والسواحل والسفن والمراكب والسيارات والبيوت والمقاهي.
ويكشف بعضاً من تقنيات البناء لديه قائلاً “أول ما أفعله عند وصولي لأية مدينة في المرة الأولى النزول إلى الداون تاون، أو وسط البلد، فتتعلق روحي ببعض الأمكنة، بل أشعر أنني جئتها في السابق، وأنني أعرفها، مثلما ورد في رواية ‘دي جافو’ وهي ظاهرة نفسية تنعكس في انجذاب وجداني لشوارعتراها أول مرة لكنك تعرفها جيداً”.
وتحكي روايته السابقة “دي جافو” عن وجود للمعارضة السودانية في مدينة أسمرا، عاصمة إريتريا وفي مناطق بشرق السودان، مثلما تدور “وللبحر ارتعاشات” في مصر، لكن الأبطال يتحركون بين القاهرة وأحيائها ومقاهيها مثلما ينطلقون نحو البحر المتوسط ومدينة الإسكندرية، فهم يتحركون للضرورة الدرامية لا بغرض النزهة أو اعتباطاً، ويعكس المكان الحالة النفسية والعاطفية ومشاعر التوتر أو الاستقرار للشخوص.
وحول علاقته بالمكان يقول إنه بلا شك من الصعب فصل شخصية الكاتب عن النص فهو يهوى الأماكن التي يتحرك فيها أبطاله، ويعرف تفاصيلها وزواياها، ولا يستطيع الكتابة عن مكان لم يره، بل يكون حريصاً على اكتشاف الأمكنة بالذهاب إلى مكان الأحداث أو القراءة عنه وجمع كل التفاصيل عنه، وليس بالضرورة المكان هو الفضاء العام وحده، بل يكون شقة أو مقهى، ويسعى لخلق علاقة جدلية بين وجود الشخص والمكان.
وعن حركة الشخوص من الطبيعي ذهاب شخص إلى أحياء شعبية، حال البحث عن شخص مفقود فقير، أو تذهب إلى قسم شرطة حال ارتباط الموضوع بتحرّ أو سجن، وليس من الطبيعي أن تتناول موضوع الهجرة ويغيب عنك فضاء فسيح وكبير مثل البحر المتوسط، وأن تغيب عن السرد الزوارق والأمواج والأعاصير، وألا تكون مدينة جميلة ساحلية مثل الإسكندرية خارج سياق النص، فالسليك يعشق البحر والسفر، لذلك يستمتع عندما تتلبسه حالة النص ويسعى لكتابته فيكتبه النص أحياناً.
وعن مراحل تكوّن اللغة لديه يكشف السليك أنه قرأ محمود درويش وانفعل بنصوصه وانبهر بثراء وبعد الخيال، وقرأ وتابع نصوص الشعراء محمد سالم حميد ومحجوب شريف وعاطف خيري والصادق الرضي وأبكر إسماعيل ومنعم عمر وأزهري محمد علي وهاشم صديق، ومنهم بنى لغته.
ويذكر أن جماليات اللغة في الشعر السوداني انعكست على الكتابات السردية، حيث كان الطيب صالح أول من صدمه بلغته الجزلة كما استفزه كاتب روائي وقاص آخر هو الدكتور بشرى الفاضل في مجموعته “حكاية البنت التي طارت عصافيرها” فما يفعله باللغة يعد جنوناً وخيالاً يفوق الوصف.
أما على المستوى العربي فقد جذبته نصوص وكتابات أحلام مستغانمي وواسيني الأعرج وإبراهيم الكوني وغادة السمان، لكن كانت البدايات مع الأدب المصري خاصة عند نجيب محفوظ ومحمد عبدالحليم عبدالله.
وعلى المستوى العالمي انجذب للأدب الروسي وكتابات ديستوفيسكي وصراعاته النفسية، وأنطوان تيشخوف، ولاحقاً لفت نظره ميلان كونديرا، فضلاً عن أدب أميركا اللاتينية والواقعية السحرية لدى ماركيز، إيزابيل الليندي، وجورجو أمادو، هكذا تأسس مشروعه الإبداعي الخاص.
وبشأن تداخل العمل الصحافي والروائي يقول الكاتب إنه يحاول أن يميز بين الروائي والصحافي داخله، فالروائي يكتب ما تسقطه الصحافة وما يهمله المؤرخ، وما يتحاشاه السياسي، أما الصحافة فتظل هي الموثق والمحقق وناقل الأخبار بواقعية ودقة.
ويضيف “لا شك أنني أستفيد من مهنتي كصحافي في مسائل مهمة مثل عملية البحث والتوثيق وتعدد المصادر في نقل الروايات، وخبرة الصحافي في السفر والتنقل بين البلدان والأماكن وتكوين خلفيات كبيرة حول كثير من المواضيع، يوجد خيط رفيع يفصل بينهما ومساحات تتداخل في بعض الأحيان، وليس بسر إن قلت إن أعظم الروائيين كانوا صحافيين، ماركيز، وإرنست همنغواي، مثلما كان الطيب صالح إعلامياً كبيراً عمل في هيئة الإذاعة البريطانية، وفي مصر يوسف القعيد وصبري موسى وجمال الغيطاني”.
في تصور السليك أن الرواية مشروع إنساني يحارب القبح بكافة أشكاله، ودون شك فالإرهاب والتطرف هما أحد أبرز أوجه القبح في العالم، فالرواية تدعو إلى السلام، الحب، الخير، وهي قيم ضد الإرهاب، لذلك تلعب الرواية الدور التنويري عن طريق زرع القيم وعن طريق مقاومة القبح والظلم والعنف.
وفي رأيه هناك دور كبير يجب أن يلعبه الروائي كشخص، وهو دور كل المثقفين في المنطقة، وهو العمل ضد الإرهاب والعنصرية، ومن هنا يدعو كل المثقفين والمثقفات في السودان ومصر والشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى إنشاء جبهة للاستنارة لمحاربة التطرف والإرهاب وكل أنواع التمييز العنصري.
وفايز السليك كاتب صحافي وروائي سوداني، درس الصحافة وعلم النفس في جامعتي أم درمان والخرطوم، ونال شهادة الماجستير في علوم الصحافة من جامعة كونبياك بالولايات المتحدة، وعمل مستشاراً إعلامياً لرئيس الوزراء السوداني كما عمل مراسلاً لعدد من الصحف العربية.
وصدرت له ثلاث روايات هي “مراكب الخوف”، “أنا والرئيس.. أسرار المرايا وجنون الياسمين”، و”ديجافو”، كما صدر له أيضاً كتاب سياسي تحت عنوان “الزلزال.. العقل السوداني، ذاكرة مثقوبة وتفكير مضطرب“.
نقلا عن العرب الدولية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى