الرأي

الفساد ظاهرة طبيعية في المجتمعات الحديثة ويمكن السيطرة عليها

لنا أن نتخيل كيف يمكن أن يكون هناك فساد في مجتمع ريفي يعتمد إلى حد كبير على اقتصاد كفائي، ولا يوجد فيه تبادل سوى في شراء الحاجات الأساسية، حيث تتم جل المعاملات بين أفراد في مجتمع محدود ويعرفون بعضهم البعض. في مثل ذلك المجتمع الغش في المعاملات أو الموازين أو الكذب، ربما يكون سبب في فقدان الفرد مكانته في المجتمع، وربما هذا ما يفسر تصورات الناس عن أن الناس في القرى والأرياف أكثر صدقاً ويحترمون كلمتهم وهذا فقط لأن تعقيدات الحياة الحديثة ومعاملاتها لم تدفع أي فرد لتغيير نمط حياته بشكل كبير.
في ظل الدولة الحديثة تتعقد العلاقة ما بين الفرد والمجتمع وما بين المجتمع والدولة، مما يتطلب الحاجة إلى قوانين وقواعد تنظم هذه العلاقات ما بين الأفراد فيما بينهم من ناحية، وبين المجتمع والدولة من ناحية أخرى، وهذا ما تم التعارف عليه بالعقد الاجتماعي الذي هو في جوهره حزمة قواعد وقوانين وتقاليد لتعريف وتنظيم هذه العلاقات. ولتتمكن الدولة من القيام بدورها في إنفاذ هذا العقد الاجتماعي فهي في حاجة إلى جهاز دولة ومؤسسات لتطبيق هذه القوانين والقواعد وهذا بالضبط ما يفتح المجال لوجود الفساد الذي يمكن أن يعرف بشكل واسع على أنه “استغلال موثوقية السلطة لتحقيق أغراض خاصة”.
الشاهد أنه لا يوجد مجتمع حديث يخلو من شكل من أشكال الفساد من حيث مدى تأثيره على جهاز الدولة والحياة بشكل عام. من حيث التأثير يمكن تصنيف الفساد إلى نوعين، فساد وظيفي Functional Corruption وهذا عادة ما يكون نتيجة طبيعية لكيفية تفسير وتطبيق القوانين، وهنا يجب أن ننبه أنه لا يوجد نظام قانوني أو اجتماعي بشري يخلو من وجه من أوجه القصور، الفساد الوظيفي هو التجلي لهذا النوع من القصور، وهو عادة لا يؤثر بشكل سلبي كبير على آداء ومدى فعالية جهاز الدولة. ولهذا النوع من الفساد أمثلة كثيرة في طريقة اشتغال مؤسسات وهيئات الدولة في إنفاذ العقد الاجتماعي، فمثلاً في واقع الدولة السودانية كانت وزارة التعليم العالي تقوم بإعطاء تراخيص لجامعات خاصة ولديها موجهات للكيفية التي تستوفي بها هذه الجامعات الشروط العلمية للاعتراف بما تمنحه من شهادات، ولكن لأن وزارة التعليم العالي لا تملك القدرة ولا النظام لمعرفة كيفية التحقق من هذه الشروط أو أنها عن قصد تخلت عن القيام بدورها، فيصبح أمر استيفاء هذه الشروط متروك لهذه الكيانات الخاصة، وهو ما يعرف بالرقابة الذاتية، والأمر نفسه ينطبق على المستشفيات والمستوصفات الخاصة. ففي أمريكا خير مثال للفساد الوظيفي يتمثل في أن نظام الضرائب والإعانات يتوقف إلى حد كبير على مدى استعداد وقدرة الناس على التلاعب بالقوانين والتلاعب بالقوانين لمصلحة الفرد الخاصة قد يكون غير أخلاقي لكنه ليس غير قانوني. أما النوع الآخر من الفساد فهو ما يعرف بالـDysfunctional Corruption أي الفساد المعوق وظيفياً، وهو أيضاً يستمد وجوده من طريقة تفسير وتطبيق القوانين إلا أن الفرق بينه والفساد الوظيفي أن الفساد في هذه المرحلة يصبح معوقاً ومعطلاً لقدرة جهاز الدولة من الاضطلاع بدوره في إنفاذ العقد الاجتماعي ويقلل من كفاءته وفعاليته، وقد يكون سبباً في حدوث فشل مؤسسي كبير، وربما انهيار نسبي في قدرة الدولة وكفاءتها، لكنه لا يعطلها تماماً.
هنالك أنواع أخرى من الفساد وهي تنطلق من نفس التعريف، وقد تتداخل في طبيعتها مع النوعين المذكورين أعلاه، فالفساد المعوق للوظيفة قد يتطور وفي مرحلة معينة يصبح فساد مؤسسي Institutionalized Corruption أو الـ Systemic Corruption والمقصود هنا أن الفساد وصل مرحلة متقدمة في اختراق كل جوانب المؤسسات والهيئات الحكومية غير الحكومية، إلى درجة أنه أصبح ثقافة وقد تم التعود عليه وتطبيعه إلى درجة أن الجميع عادوا لا يندهشون أو يأبهون البتة لوجوده، باعتبار أنه أصبح جزءاً أصيلاً من طريقة اشتغال منظومة جهاز الدولة. الوضع الراهن في السودان في معظم أجهزة الدولة يترواح ما بين الفساد المعوق وظيفياً للنظام والفساد المؤسسي، فليس هنالك حاجة إلى تعلم القيادة قبل استخراج رخصة القيادة، وليس هنالك حاجة للذهاب إلى سجل المواليد لاستخراج شهادة ميلاد موثقة من الخارجية أو للذهاب إلى أي معاملة مع أي جهاز حكومي دون إجراء اللازم، واللازم هنا ليس استيفاء الشروط من أوراق ثبوتية وشهود، بل هو معرفة من سيكون المدخل إلى العصابات التي تسيطر على كل المعاملات الحكومية وهذه إمبراطوريات متكاملة تعمل كدول موازية. ما يحدث في حصائل عوائد الصادر وفي الجمارك يؤكد ما هو ماثل بامتياز في وصف المستوى الذي وصل إليه الفساد المؤسسي في القطاعات الحيوية، أما مطار الخرطوم فهذا قدس الله سره ــ عزيزي القارئ ــ سيحيرك كيف أنه ظل يعمل في ظل انهيار كل شيء في هذا البلد. إذا رغبت في الإجابة فلك أن تعلم أنها لا تكمن في وجود شيء اسمه عقيدة وظيفية أو إحساس بالمسؤولية الوطنية، التي تجعل جل العاملين في المطار يستيقظون كل صباح قائلين لأنفسهم أننا واجهة هذا البلد، فلمنضي إلى عملنا ونحن في قمة نظافتنا وأناقتنا وطهرنا. المؤسف أن المطار نفسه عبارة عن إمبراطورية ودولة موازية ودافع للتكسب الذاتي، وهو الذي يجعله يعمل حتى الآن و functionalفهو ذات النافذة التي خرجت منها كل آثار المتحف القومي ويهرب من خلالها ذهب السودان بشكل منتظم كما يخرج منها ملايين الدولارات “كاش” كل يوم. هذا أمر لا يحدث في أي دولة أخرى في العالم حتى في الصومال، التي انهارت فيها الدولة منذ ثلاثين عاماً. هذا هو الفساد المؤسسي والذي من الصعب جداً محاربته، وذلك لأنه منظومة متكاملة من المصالح لشبكة من المتنفذين، ولهم معرفة بكل الجوانب الفنية والتقنية في التمويه والتضليل وإخفاء الآثار حتى وإن كان الأمر يتم في “الصقيعة”.
أما آخر مراحل الفساد هي مرحلة الفساد المجتمعي Societal Corruption، من ناحية فنية هنا أنا لا أتحدث عن تدهور القيم وصعود الذاتية والنفاق والتكسب بغير وجه حق، فهذه الأشياء لها علاقة جدلية بالفساد المجتمعي، والذي يعني هنا أن الناس أصبحت تتوقع أن يكون جهاز الدولة فاسداً، وبدلا من الدهشة والذهول ورفض سلوك جهاز الدولة، يتباهى المجتمع مع هذا السلوك ويتبناه في معاملاته الخاصة حتى التي ليس لها علاقة بجهاز الدولة. العلاقة واضحة فالفساد المؤسسي يؤسس لمخيال اجتماعية يقنن الفساد ويجعله طبيعياً ومقبولاً، وعليه يمكن القول إن فساد المجتمع هو امتداد لفساد جهاز الدولة والعكس صحيح، خصوصاً إذا كانت الدولة من الضعف بمكان أنها لا تملك القدرة على إنفاذ القانون، والذي إن وجد فإنه لا يطبق وينفذ على الجميع بالتساوي. ففي عهد الإنقاذ لم يسجن القاتل أو يعدم أو حتى يرفض اجتماعياً، وأصبح السارق فهلوي وشاطر ونافع لأهله والمنافق والمتسلق محض مفتح و”ود سوق”. لا يوجد مجتمع أو نظام سياسي لا يقوم على منظومة قيم عليا تتسق مع العقد الاجتماعي الذي يحكمه، بل الحقيقة أن النظام السياسي والاجتماعي لا محالة سيكون انعكاساً لطبيعة القيم السائدة في المجتمع، فمن غير المنطقي أن تقوم دولة القانون بسيادة حكم القانون إذا لم يصبح احترام القانون قيمة مجتمعية عليا، والذي يعتقد أن الدولة هي التي ستقوم بإنفاذ القانون وتعليم الناس اتباعه، لا يدري أنه لا توجد دولة في العالم تستطيع إنقاذ القانون إذا كان نصف عدد سكانها يخرقون القانون صباح مساء. وعليه فربما أن التحدي الأعقد الذي يقف أمام قوى الثورة السودانية هو تحدي إعادة بناء قيم تقدس الإخاء والقبول والتعلي من التسامح والعدالة والكرامة والنزاهة، فكيف لثورة تتحدث عن حرية وسلام وعدالة وجلنا يرفض الحق في الحرية والعدل للعديد من أفراد أسرنا ونكبل قطاعات واسعة في مجتمعنا بفرض الوصاية الذكورية.
إن الفساد سواء كان وظيفياً أو معوقاً لنظام وظيفي، أو كان فساداً مؤسسياً أو مجتمعياً ليس أمراً غريباً أو نبت شيطاني، بل هو نتاج لتعقيدات الحياة في المجتمعات الحديثة، التي تتطلب تطويراً مستمراً للقوانين، والقواعد المنظمة للعلاقة ما بين الأفراد والمجتمع، والأفراد والدولة، والدولة والمجتمع، وهو أيضاً ليس أمراً متعالٍ يستحيل التعاطي معه والسيطرة عليه. فهنالك مراجع علمية وعملية وتجارب إنسانية تخلط ما بين التصميم الجيد للمنظمات، ولأسس العمل وتبسيط القوانين والإجراءآت، وتوطين الشفافية وتوسيع قاعدة المراقبة الداخلية والخارجية، وإشراك المجتمع في كيفية اتخاذ القرارات العامة، وهذا هو أصل وجوهر فكرة الحوكمة الرشيدة مفاهيمياً، والتي هي أكبر من الحكومة. ولكن الخطوة الأهم في إطار اتخاذ الخطوات الصحيحة لمحاربة الفساد بكافة أشكاله هو توفر الإرادة السياسية والمعرفة لمحاصرته عبر خطة عملية طويلة المدى، وفي تقديري أننا لم نبدأ حتى في التوافق على تعريف طبيعة مشاكلنا، ناهيك من التوافق على حلها ولا خيار سوى حوار مجتمعي واسع نسمع فيه بعضنا البعض بدلاً من الزعيق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى