الرأي

السودان: جدل الدولة والتكوَّين (1-3)

ناصر السيد النور
المفاهيم النظرية والمسّار التأريخي
إن على اختلافات التعريفات التي تعج بها الموسوعات والمراجع العلوم السياسية والاجتماعية والقانونية في تعريف الدولة، تظلُّ الدولة كياناً متحققاً في وجوده المعنوي والمحسوس وذات أثر مباشر تنعكس آثاره على حياة الإنسان أينما تعين وجوده التاريخي والجغرافي؛ ومتى ما توطَّن التعريف الاصطلاحي السياسي والقانوني الدستوري والمعجمي الذي يمنحها شرعيِّة نافذة، أمكن التعامل مع مدخل نظري يتيح التتبع والاستقصاء بالمعنى المنهجي. ولكن تعريف الدولة من خلال المدخل اللغوي لمفهوم الدولة بالشكل الذي تداولته مختلف اللغات العالمية على أهميته لا يخفف من وجودها العنيف؛ وإن يكن هذا الوجود فقد وحدَّ شتات التعريفات المعجميِّة بين كل اللغات أغنى عن تعريفها اللغوي المحض. وإذا اتجه المعنى تطبيقاً على المجموعات البشرية التي عرفت الدولة وتلك التي عاشت لعقود فيما يعرف بمجتمعات اللادولة Stateless فقد شملها تعريف الدولة القائم والمُنفَّذ عملياً على حدِّ سواء. وتتيح المعاجم اللغوية (التاريخية) الغربية الاشتقاقات التي تحدَّرت منها مفردة دولة، فإذا أخذنا بالتعريف اللاتيني للدولة Status ومنها أخذت اللغات الأوروبية الأخرى كالإنلجيزية State والفرنسية État والألمانية Staat وغيرها من اللغات التي لم تحور المفردة فيها كثيراً، فإن اللغة العربيَّة تكون الدولة في أبسط تفريعاتها الاشتقاقية تؤخذ من الغَلَبَة والنزع ثُّم التدوال، أي معنىً يستقر في تفهم ظاهرة دَوْلَة على نحو ما تطورت في المحيط العربي على تاريخه الحضاري الممتد وحاضره الذي لم يظل يمارس غلبة الدولة والجماعة توصف بذات الشوَّكة.
الدولة العربية في محيط الانتماء الحضاري والتاريخي للدولة السودانية، ظلت إلى وقت قريب مفهوماً لا يُعرَّف إلا من خلال عصبيِّة الدولة الخلدونية، أي دولة بتعبير ابن خلدون استقرت وتقلص ظلها عن القاصيِّة آخذة في الاضمحلال كما حلّلها العلاّمة البارز، لتقفز إلى الدولة القومية بنسختها الأوروبية التي رسم حدودها الاستعمار؛ وما صحبها من مفاهيم ديمقراطية واشتراكية ولكنها عانت من إفقار نظري انعكاساً لواقع سياسات غيِّبت المجتمع ليظل النظام السياسي الوجه الأقوى في الدولة، أي الحكومة. فإذا ما أخضعت الدولة العربية بنسخها المتعددة للتحليل السياسي، فإن نتائج البحث وحقائقه ستجرد الأطر المزعومة ــ المؤسسة ــ لكيانات الحكم العربية ولا يبقى منها غير الحاكم والرعية. فمن المستغرب أن يبدأ البحث عن الدولة لدى النخب العربية متأخراً عن الحوار الذي أعقب نهاية الحرب الباردة، والجدل النظري الكثيف حول أهمية ووجود الدولة بتعريفاتها التقليدية ومدى صمودها في وجه موجة العولمة وحركة الاقتصاد وقوى المجتمع المدني غير الحكومي. ولكن غاب العالم العربي عن الحوار بحكم ظروفه المعلومة، وأشكال الحكم التي تسود بلدانه. فلماذا إذن البحث مجدداً عن الدولة القوية بعد أن تقلًّص دور وحدود الدولة نفسها؟.
المفهوم الفلسفي للدولة لا يبعد عن التعريف السياسي إلا فيما يوسع من دائرة الفهم الأعمق لظاهرتها الكونية، فيرى البريطاني هارولد لاسكي أحد منظري العلوم السياسية في القرن العشرين بأن الأفراد ليسوا في حاجة إلى إطاعة السلطة من أجل الطاعة فحسب، ولكن تتأتى طاعتهم من اعتقادهم بغرض تأمين حاجياتهم وبالتي يراقبون هذه الطاعة متى ما تم انتقاصها. ويتناسق هذا التعريف مع واقع الدولة أكثر من التعريف الهجيلي الذي يعدها (الدولة) كفكرة إلهية متجسدة على الأرض، أو ظلَّ الله متمثلاً في الحاكم في سياق آخر. والدولة السودانية تنطبق عليها هذه التعريفات وإن ناقضت وظائفها بعض منها بحكم التجارب السياسية غير المستقرة بلغت حداً تناقصت معه الدولة في حدودها الواقعية (جغرافيا) بانفصال الجنوب 2011م وتنازلها عن كثير من أدوارها التقليدية فباتت كياناً مزعزعاً يقترب من شبه الدولة.
الدور والوظيفة
ولكن معنى الدولة، أي دورها ووظفيتها وحدود مسؤولياتها والحاجة إليها لتنوب عن الأفراد في رعاية مصالحهم وحمايتهم، البحث عن دورها الدولة قد شغل فلاسفة السياسية والاجتماع ولعل الطرح الأبرز ما صاغه الإنجليزي توماس هوبز في مؤلفه الشهير (ليفياثان) في القرن السادس عشر كيف أن تبرير الدولة يكون في سيادة العقل بدلاً عن الطبيعية مما يستلزم حكم القانون الذي تنفذه الدولة عبر أجهزتها التشريعية والقضائية والتنفيذية في سياق الفصل بين السلطات المبدأ الأبرز في منح الدولة طبيعتها القانونية. ولكن أختلف دور الدولة عبر التطور السياسي والتاريخي للنظم السياسية، أي دورها وتعريف وظائفها بحسب التوجهات التي تحكمها خاصة في القرن العشرين حيث بروز أيدولوجيات قسمت العالم إلى معسكرين بين غرب رأسمالي ليبرالي أبقى الدولة بعيداً عن التدخل في حق الملكية مما زاد من توحش الرأسمالية التي تعتبر الدولة أحد أدوات صراعها، وبين معسكر شرقي اشتراكي وجهت فيه الدولة واقتصادياتها نحو مركزية قابضة حدَّت من ملكية الفرد على أسس الأيدولوجيا الاشتراكية. وفي أطروحته الشهيرة (الدولة والثورة) يعتبر لينين الدولة عطفاً على تعريف ماركس بأن الدولة لجنة ممثلة للبرجوازية وطبقة سياسية في صراع الطبقات الذي أمل فيه الاشتراكيون بوراثتها للبروليتاريا. ومهما يكن من أمر، فإن الدولة تبقى رهينة لحدود تحكمها ومجتمع (شعب) ولغة وثقافة وتاريخ مشترك، مع أن هذه العناصر لم تتوافر في البلدان التي نُقل إليها جهاز الدولة في المستعمرات السابقة، بل أطبقت دولة وحدود داخل محتوى خرائطي شكل وأعاد ترسيم جغرافية لم تعرفها هذه المجتمعات.
إنَّ الدولة في تعريفها ضمن المفاهيم الغربية التي استنسخت بنسختها الغربية وأطبقت على المستعمرات خارج النظاق الأوروبي، ظلت هي الشكل السائد للدولة في منظومة النظام العالمي على مدى أربعة قرون بمكوناتها السكانية وحدودها الجغرافية ونظم إدارتها السياسية. وكانت قارة إفريقيا وشعوبها قد تعرضت لهجمة استعمارية متكالبة مُبرَّرة بدعوى الحضارة ومدّ توسعي يدعمه تصورات مسبقّة عن شُعوب مُتخيلة بتعبير ناقد ما بعد الكونيالية هومي بابا رسمتها على خلفيات علميِّة ــ أدعت ذلك ــ عن مفاهيم تطورية بيولوجية ذات نزعة عنصرية ولكنها في نهاية الأمر انتهت قوة عسكرية غاشمة بنفوذ أمبريالي توسعي. وإذا كانت الدولة القومية Nation-State منشأها أوروبا (اتفاقية وستفاليا 1648) في أعقاب الحروب الداميّة وسط ممالك القارة الأوروبية، ومن ثَّم أضحت معياراً للشكل الذي ستكون عليه الدولة من حيث تعريفها الدستوري ووجودها الطبيعي وتفسيرها السياسي.
الدولة والنظام السياسي
لم تكن الدولة في تاريخ السودان الحديث (فترة الحكم الثنائي) استثناءً من صيغة المستعمرات السابقة، وقد عرف السودان انماطاً سابقة لأشكال الحكم والتنظيم في سلطانته المتناثرة في حدود ما يفهم تاريخياً بممارسة دور تنظيمي مارس سلطات الدولة، وما يعرف في حقل العلوم السياسية شكل من أشكال التنظيم السياسي. ولكن هذا لايعني أن القارة الإفريقية لم تعرف الدولة ونظمها حيث تشكلت النظم القبلية والممالك والسلطنات التي نهضت في القارة واستقرت بوثائقها الأركولوجية في تاريخ القارة الحضاري. ولقد أتاح الواقع الاستعماري تقسّيم القارة إلى دول بحق الاكتساب ــ بتعريف القانون الدولي التقليدي ــ وعند تصفية الاستعمار أبقت الدول الإفريقية على الحدود التي خلفها الاستعمار حسب توصيات ميثاق منظمة الوحدة الإفريقية سابقاً لجما للدعوات القومية المندفعة لإلغاء الحدود سعياً للوحدة الإفريقية مبتغاة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى