الرأي

الرُوزنامة كمال الجزولي

ضيف على الرُوزنامة
عمر الدِّقير
(رئيس حزب المؤتمر السُّوداني)
سَايْكُوْلُوْجْيَا الذِّئَابْ!
الإثنين
منذ نشوء الدولة الحديثة، عرف تاريخ الحكم نوعين من الخطاب السياسي: أحدهما خطاب الحقيقة والشفافية الذي يصور الواقع كما هو، ويشرك الشعب في مواجهة تحدياته، والآخر هو خطاب طلاء الواقع بقشرة تجميلية، وتغييب الحقائق عن الشعب، والإنابة عنه في الحلم، والتفكير، وصياغة المصير.
ولعلّ المثال الأوضح للخطابين، ونتائجهما، ما حدث خلال الحرب العالمية الثانية، فقد كان خطاب الزعيم الألماني أدولف هتلر غارقاً في الأوهام، والذهول عن حقائق الواقع، حيث اندفع – مزهوَاً بالإنتصارات العسكرية – إلى تبشير الألمان بضمان اجتياح الرايخ الثالث لأروبا، وبسط سيادته عليها لمئات السنين! بينما كان خطاب خصمه، رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، واقعياً، وهو يرى قنابل الطيران النازي تتساقط على عاصمة بلاده، وتهدم سقوف البيوت على رؤوس قاطنيها، وتأتيه الأخبار بأنّ الجيش البريطاني ينسحب عشوائياً، عارياً من أسلحته، ومعنوياته، أمام الجيش الألماني في “دنكرك”، وأنّ فيالقَ من مدرعات النازي تجتاح أراضي حليفته فرنسا، وتسحق العشب والأزهار في شوارع مُدِنِها! مع ذلك وقف تحت قبة البرلمان، بُعيد اختياره رئيساً للوزراء، وسط دويِّ المدافع، وأزيز الطيران الحربي، وخاطب شعبه قائلاً: “ليس عندي ما أُقدِّمه لكم غير الدم، والكدح، والدموع، والعرق. سنخوض غمار الحرب بكل ما أُوتينا من قوة، وبكل ما منحنا الله من عزمٍ، في مواجهة الطغيان الوحشي الذي لا مثيل لبشاعة جرائمه ضد الانسانية. هدفنا النصر، ولا شىء سوى النصر بأي ثمن، فبغيره لن يتسنّى لنا البقاء”!
كان خطاب تشرشل شفّافاً، وصادقاً في تصوير الواقع، وفي تحديد الهدف، فنجح في استنهاض مواطنيه، وحشد إرادتهم، وتأجيج صمودهم، وصمود حلفائهم، لمجابهة التحدِّي، ولتحقيق النصر. أمّا خطاب هتلر المحتشد بالأوهام، فقد انتهى بهزيمة الرايخ الثالث، واستسلامه بلا شروط، كما انتهى بهتلر نفسه منتحراً في مخبئه، قرب حديقة مستشارية الرايخ التي شهدت حرق جثته تنفيذاً لوصيته!
إسقاط واقع بريطانيا، في ذلك الوقت الصعب من تاريخها وتاريخ العالم، على واقع بلادنا اليوم، يبدو ملائماً، رغم الفوارق. كان الشعب البريطاني يواجه، آنذاك، أزمة التهديد النازي لسيادته الوطنية، وربما التفتيت لكيان بلاده الموحّد، ناهيك عن الأزمة الاقتصادية جراء كلفة الحرب وتداعياتها. فلئن كان الشعب البريطاني قد امتلك روح المقاومة، والاستعداد للتضحية، من أجل تحقيق النصر، فقد كان من حسن حظه أنْ توفّرت له قيادة سياسية في مستوى طموحاته، وعلى قدر التحدِّي الذي يواجهه. تمثلت هذه القيادة في حكومة كل الأحزاب (all-party government)، و تجسّدت، تحديدأ، في رئيسها ونستون تشرشل الذي رفض كل دعوات الاستسلام بحجة الواقعية، معتبراً إيَّاها استسلاماً للحظة ضعف تشلُّ الإرادة، وتُنسي قرائن التاريخ، وتهزم الحاضر، وتصادر المستقبل، وبهذا نجحت حكومته في قيادة المعركة، وحَشْد الطاقات المعنوية والمادية كافة، عبر منهج الحقيقة والمصارحة، ووحدة الهدف والإرادة، نحو تحقيق النصر على النازية، وتخليص البلاد، بل والعالم أجمع، من خطرها.
في المقابل، ولأن شعبنا السوداني لا ينقصه وضوح الأهداف، ولا روح المقاومة، ولا الاستعداد للتضحية من أجل هذا الوطن الذي أُهْرِقَ النفيس من دماء أبنائه، على مذابح الحريّة، والكرامة، في سبيل تحقيق الحلم بغدٍ لا يكرِّر كوابيس البارحة، فإن الواجب الملح يبقى أن تغادر القيادة السياسية عقلية الخنادق المتقابلة، والتخوين المتبادَل، وتنهي حالة الاستقطاب النخبوي البائس من أجل مغانم صغيرة ضعف فيها الطالب والمطلوب، وأن ترتقي إلى مستوى قامة شعبها، وأن تُحْسِن الإصغاء إليه، ليفضي ذلك إلى توافقها على برنامج للبناء الوطني، بمنهج إدارة علمي، نزيه، وشفّاف، يمكِّن من عبور مستنقع الأزمات، باتِّجاه الأهداف المباشرة لثورة ديسمبر المجيدة التي اختزلتها عبقرية شعبنا في معاني الثالوث الإنساني الخالد “حريّة، سلام، وعدالة”.
الشرط الأساسي لتجاوز أية أزمة هو مواجهتها بسلاح الحقيقة والإرادة، خصوصاً إذا كانت الأزمة .. وطنية شاملة.
الثلاثاء
أحياناً تكون سيرة حياة الشاعر هي قصيدته الكبرى .. جال هذا المعنى بخاطري الأسبوع الماضي، خلال مشاركتي في أمسية حوارية عن دور الثقافة في التغيير، تخلّلتها فقرة للاحتفاء بذكرى الشاعر، السارد، الفنان محمد حسين بهنس الذي رحل إلى دار الخلود فجر الثلاثاء 17 ديسمبر 2013م. كان رحيله أقرب للفضيحة المُرْكّبة، ثقافياً، وسياسياً، وأخلاقيا! فهذا المبدع متعدد المواهب كان روائياً، وشاعراً، ونحّاتاً، ومصوِّراً، وعازفاً، وملحِّناً، وتشكيلياً، زيّنت بعض لوحاته قصر الإليزيه في باريس. مع ذلك مات وحيداً، شريداً، بإمعاء خاوية، ومعدة تتضوَّر جوعاً، وفرائص ترتعد من شدة صقيع القاهرة، وجسد تجمَّد متكوِّماً على أريكة حجرية في أحد ميادينها، من حيث جرى نقله إلى المشرحة، فدوّنت الشرطة اسمه في خانة “مجهول الهوية”، حتى تعرَّف عليه، بعد أكثر من يومين كاملين، بعض أصدقائه، مصادفة!
ولأن الشّجى يبعث الشّجى، والشيء بالشيء يُذكر، فيلزمنا ذكر طرف مما حفظ التاريخ من سيَر الكثير من المبدعين، خصوصاً الشعراء، الذين انتهوا إلى مثل هذا المصير الفاجع، بعد مسيرٍ حافلٍ بالصراع، والمكائد، والجحود، والنكران! وكان لافتاً أنّ أكثرهم تمثيلاً وجدانياً لشعوبهم، وأصدقهم تعبيراً عن آلامها، وآمالها، لاقوا تلك المصائر على أيدي أبناء جلدتهم، سواء تمثّلت تلك الأيدي في سلطة مستبدة، أو في قوى ظلامية، أو في عدم اهتمام بالمبدع، أو إهماله، وترْكِه يواجه غوائل الدهر وحيداً!
في هذا السياق يبرز، كمثال، اسم ألكساندر بوشكين، شاعر روسيا الأكبر الذي قضى مقتولاً برصاصٍ ضابطٍ من حاشية القصر استدرجه، بتدبيرٍ من القيصر، إلى مبارزة غير متكافئة يكون فيها إمَّا قاتلاً أو مقتولاً، وفق تقاليد ذلك الزمان، بعد أن راود زوجته الحسناء ناتاليا عن نفسها، فأصابه بجرحٍ لا شفاء منه! وليس خافياً، في الحقيقة، أن بوشكين كان مصدر إزعاج لسلطة القيصر، بدعوته الدائمة لمحاربة الفساد، ومناداته التي لا تفتر بالعدالة، وبرفعه المستمر لمطلب إصلاح النظام القيصري!
كما يبرز، في ذات السياق، اسم أبي الطيب المتنبي، شاعر العربية الأشهر الذي كانت رؤاه وطموحاته سبباً في أن يعيش حياته “على قلقٍ كأنّ الرِّيح تحته”، مثلما كانت سبباً فيما تعرَّض له من حسدٍ، وغيرةٍ، ومكائد، إلى أن قضى، بدوره، مقتولاً في مبارزة مشابهة مع فاتك الأسدي الذي ظل يلاحقه للثأر منه على هجائه لأخته بقصيدةٍ مقذعة! فإذا كانت سلطة القيصر وراء موت بوشكين للتخلُّص من معارضته، فإنّ سلطة الخليفة لم تُظْهِر أي اهتمام بموت المتنبي، بل ربّما شعرت بالارتياح له!
أمّا بدر شاكر السّيّاب، أبرز رُوّاد الحداثة في الشعر العربي، وأحد أكثر شعراء العراق حُزْناً وعبقرية، والذي حمل وطنه كالصّليب وطاف به المنافي وهو يُردِّد: “الشّمْسُ أجْمَلُ في بلادي من سِواها والظّلامْ/ حتّى الظّلامُ هناك أجْمَلْ/ فَهْوَ يَحْتَضِنُ العِراقْ”، فقد مات وحيداً وغريباً في مشفىً بالكويت، وحمل أحد أصدقائه جثمانه ليُدفن في مسقط رأسه في البصرة؛ لكنه عندما وصل إلى بيت السّيّاب لم يجد العائلة، بل وجد الأثاث مبعثراً في الشارع، لأنّ مالك البيت استصدر أمراً قضائياً بإخلائه لعجز العائلة عن سداد الأجرة لعدة شهور، بعد فَصْل السّيّاب من وظيفته في دائرة الموانيء، بسبب تطاول مدة مرضه. وواصل جثمان الشاعر رحلته إلى المقبرة تحت المطر، الذي لطالما ألهمه أجمل قصائده، ولم يشارك في تشييعه سوى بضعة أشخاص!
وقبل هؤلاء جميعاً، عاقب الإمبراطور الروماني شاعر الهوى أوفيد بالنفي إلى مكانٍ تختلط فيه الفصول، وتتداخل فيه التقاويم، وذاك بالطبع نفيٌ يليق بالشعراء، لأنَّ أوفيد، الذي كتب “مسخ الكائنات”، تمرّد على الواقع، وغرَّد خارج السِّرب، فوقف وحيداً على ضفاف الحلم، في انتظار لحظة الشُّروق!
ولئن كان رحيل بهنس، بكل ما أحاط به من ملابسات محزنة، قد حدث في حقبة الجمر والرّماد “الإنقاذية”، فإنه من المفجع أن يلحق به، بسبب سوء الحال في سودان ما بعد الثورة، الشاعر السوداني الشاب عبد الوهاب محمد الشهير بـ “لاتينوس”، بعد غرق القارب الذي كان يقله مع ثُلّةٍ من أقرانه، أواخر أغسطس الماضي، في طريق هجرتهم من وطنهم إلى أوربا، بحثاً عن ملاذٍ آمن، وأسباب عيشٍ كريم .. رحل “لاتينوس” بعد أن كتب شهادته في إحدى قصائده: “سأفرُّ مِن وطنٍ يُلْهِبُ ظهرى بالسِّياطِ ليلَ نهارْ/ سأفرُّ من كلِّ شىء/ وأهربُ غير مكترثٍ، نحو العَدَمْ”!
إنها، بالحقِّ، قسوةٌ بالغة عندما يموت المبدع على أيدي أبناء جلدته، أو بسبب إهمالهم له، وجحودهم لعطائه، فثمة ما يشبه استئصال الضمير، أو الانتحار في هذا الموت، أو قل هو انتقام الشعوب من ذاتها، في لحظات التخلي عن ذاتها، بالتفريط في أبهى رجالها ونسائها!
الأربعاء
على أحد الألواح المحفوظة عن الحضارة الهِندِّية، كُتِبَ النّص الآتي: “يصعب على الإنسان ألّا يذوق عسلاً امتدَّ إليه لسانه، وعليه فإنه يصعب على من يدير أموال الملك ألّا يأخذ لنفسه منها ولو شيئاً قليلاً” .. فالفساد، بمعنى إساءة استخدام السلطة العامة لتحقيق مكاسب خاصة، موجود منذ أن وجدت الحكومات، حتى أصبح في العصر الحالي قضية عالمية، لدرجة أنّ الأمم المتحدة أفردت اتفاقية خاصة لمكافحته. تتفاوت نسب الفساد من دولة لأخرى وفقاً للجهود التي توليها الحكومات لمكافحته والحدِّ من انتشاره. لكنَّ حقائق الحياة تثبت أن الفساد قرين الإستبداد، وتوأم روحه، فكلاهما يُعَبِّر عن نزعة السطو والإستحواذ على ما يُفترض أن يتشارك فيه الجميع، السلطة والثروة، وكلاهما يستمدُّ أنموذجه من «سايكولوجيا الذئاب» التي لا يتوقف لُعَابُها عن السّيلان مهما اشتّدَت استغاثات ضحاياها!
من الطبيعي أن يكون السودان، خلال فترة نظام “الإنقاذ” الموسومة بثنائية الاستبداد والفساد، من أكثر الدول فساداً، حسب تصنيف منظمة الشّفافية العالمية. ولكن أنْ يحتفظ السودان بموقعه في ذلك التصنيف، بعد حوالي عامين من الثورة على نظام “الإنقاذ” وإسقاطه، كما هو مثبت في تقرير المنظمة الصادر في يناير 2021م، فذلك ما يدعو للدهشة والحسرة في آن واحد! ولا يحملنا على تصديق تقرير منظمة الشفافية الأخير ما تضجُّ به المجالس من حكاوي الفساد، فحسب، وإنما نتوقف عند قرينتين حائرتين: أولاهما اللجنة التي شكّلها مجلس الوزراء، في مارس الماضي، للتحقيق حول اتهامات بالفساد في ترسية عقود شراء بعض السلع الاستراتيجية، والتي لا يعلم الرأي العام شيئاً عن نتيجة عملها حتى الآن! وثانيتهما الصّمت الحكومي المريب على الاتهام العلني الذي أطلقه وزير الطاقة السابق، بُعيد استقالته، بوجود مخالفات في عقود استيراد الوقود!
نأمل أن تكون مكافحة الفساد في صدارة أولويات الحكومة الجديدة، وحبّذا لو تم التعجيل بإجازة قانون مفوضية مكافحة الفساد وتشكيلها، وقبل ذلك التعجيل بتشكيل المجلس التشريعي لمراقبة الحكومة وأجهزتها، والمحاسبة على أدائها.
الخميس
في قصيدته السّاخرة “قدَّاس وجنَّاز بمشاركة عدة أحزاب”، يقول الشّاعر الأرمني هوفهانيس كريكوريان:
الحزبُ الأولُ يُحِبُّ الشعبَ
وهو يناضلُ كي يرفعَ من مستوى معيشةِ الشعب
الحزبُ الثاني يُحِبُّ الشعبَ كثيراً
وهو يناضلُ ضد الحزبِ الأولِ كي يرفعَ من مستوى معيشةِ الشعب
الحزبُ الثالثُ يُحِبُّ الشعبَ كثيراً جداً
وهو يناضلُ ضد الحزبين الأولِ والثاني كي يرفعَ من مستوى معيشةِ الشعب
الحزبُ الرابعُ يُحِبُّ الشعبَ أكثرَ من الآخرين
وهو يناضلُ ضد الحزبِ الأولِ والثاني والثالثِ كي يرفعَ من مستوى معيشةِ الشعب
وها هو الشعبُ البائسُ بالكادِ يُرى، بين الأكاليلِ الأنيقةِ، مُغلِقاً عينيهِ إلى الأبد
لم يبقَ من الشعبِ سوى العظام، وهو مُحاطٌ بِحُبِّ الأحزابِ الشامل!
الجمعة
من الأساطير اليونانية عميقة المغزى أسطورة “كعب أخيل” التي تحكي عن أنّ غلاماً وُلد لأحد الملوك أسماهُ “أخيل”، وقد تنبأ له العرَّافون بأنه، عندما يكبر، سيُقْتَل في حرب ما! ولتفادي تحقُّق النبوءة، أخذته أمه إلى بحيرة “ستيكس”، حيث تقول الأسطورة أن كلَّ طفلٍ يُغطَّس فيها يُكْتَبُ له الخلود! لكنَّ الأم عندما أرادت تغطيس طفلها في البحيرة أمسكت بكعب إحدى قدميه كي لا يغرق، ولذلك لم يصل ماء الخلود إلى ذلك الكعب!
كَبُر “أخيل” وأكمل حصص التدريب على القتال، فكَلّفه أبوه بقيادة الجيش في إحدى المعارك. حاول الأعداء حسم المعركة بقتل القائد “أخيل”، لكن ذلك استعصى عليهم، إذ فشلت كل ضربات السُّيوف، وطعنات السِّهام، في صرعه، إلى أن دلَّهم أحد الخونة، من جيش “أخيل” نفسه، على سر نقطة الضعف المتمثلة في الكعب غير المغسول بماء البحيرة السِّحري، فاستهدفوا ذلك الكعب، حتى نجحوا في إصابته بسهمٍ أوقع “أخيل” أرضاً، لتجهز عليه، بعد ذلك، ثُلّةٍ من الفرسان! ومن وحي هذه الأسطورة شاع في الاستخدام تعبير “كعب أخيل”، للإشارة إلى نقطة الضعف عند الأفراد والشعوب!
ألا ما أكثر «كعوب خيل” التي تحتاج للحراسة، خلال فترتنا الانتقالية، حتّى لا تؤتي ثورة ديسمبر المجيدة من قِبَلِها!
السبت
جمهورية تشيلي هي بلد الشّاعر العالمي العظيم بابلو نيرودا، الحائز على جائزة نوبل في الأدب، والذي وصف شعبه في إحدى قصائده قائلاً: “نحن فضةُ الأرضِ النقية / ومعدنُ الإنسانِ النّبيل / ولحظةٌ في الظّلامِ لا تُنسينا النَظًرْ”؛ كما أنها بلد الروائية المبدعة إيزابيل الليندي، إبنة أخ الزعيم الإشتراكي سلفادور الليندي الذي انتخبه التشيليون رئيساً لبلادهم عام 1970م وأُطاح به، عام 1973م، انقلاب الجنرال أوغستو بينوشيه، بمساعدة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية؛ وأقلّ من هؤلاء الثلاثة شهرةً عازف الجيتار، والمغني الشعبي التشيلي، فيكتور جارا، الذي أُعْدِم بوحشية بالغة في الأيام الأولى لانقلاب بينوشيه!
خلال مشاركتي في مؤتمر مهني قبل عدة سنوات جمعتني استراحة بين الجلسات بأحد المهندسين التشيليين، وكانت مفاجأة لي حين ذكر أن والده كان صديقاً لجارا، ورفيقاً له في لحظات حياته الأخيرة. وحرص الرجل على أن يروي تفاصيل تلك اللحظات كما سمعها من والده الذي نجا من موتٍ محقق في تلك الأيام العصيبة حسب قوله.
مضى محدثي يروي، نقلاً عن والده، كيف أن نظام بينوشيه – كعادة الإنقلابيين – نفّذ في الأيام الأولى للإنقلاب حملة إعتقالات واسعة طالت العديد من مؤيدي الرئيس الشرعي المغدور سلفادور الليندي. ولمّا ضاقت زنازين السجون بالمعتقلين، حوّل النظام الانقلابي استاد سنتياغو الرياضي إلى سجنٍ كبير زجَّ فيه بمئات المعتقلين الذين كان من بينهم والده وجارا. وفي أثناء طوافه على طابور المعتقلين، قدّم أحد الضباط جيتاراً لجارا وأمره أن يعزف عليه ويغني، إلاّ أن جارا رفض تنفيذ الأمر وصرخ في وجه الضابط بأنه، في مثل هذا الموقف، يغني فقط للحرية وكرامة الإنسان، وانخرط يعزف بأصابعه على الجيتار ويردد النشيد الثوري للجبهة الوطنية التي كان يتزعمها سلفادور الليندي .. استشاط الضابط غضباً وأمر جنوده أن يقطعوا أصابع جارا. وبالفعل قطع الجنود أصابع جارا واحداً بعد آخر بدمٍ بارد، قبل أن يجهزوا عليه بوابل من رصاص بنادقهم تنفيذاً لأمر الضابط المذكور!
بعد سنوات من سقوط نظام بينوشيه، استجابت الحكومة التشيلية – التي كانت ترأسها السيدة ميشيل باتشليت – لطلب أسرة فيكتور جارا بإجراء تحقيق لتحديد مكان دفنه ومعرفة ملابسات وأسباب وفاته والمسؤول عنها، حيث كشف التحقيق مكان دفن جارا وأكد التشريح الطبي لرفاته أن أصابع إحدى يديه قد بُترت كلها وأنه أصيب بالرصاص في مواضع كثيرة من جسده، بينما لم يتم التأكد من هوية الجنود الذين عذّبوه وقتلوه، ولا هوية الضابط الذي أمرهم بذلك!
قررت الحكومة التشيلية تكريم فيكتور جارا بتسمية استاد سنتياغو الرئيسي الذي أُعدم فيه باسمه، كما قررت إعادة دفن رفاته في المقبرة الوطنية بسنتياغو، وكانت مراسم تشييعه مهيبة، ومشحونة بالعاطفة لكثيرٍ من التشيليين الذين فقدوا أقرباء وأعزاء لهم خلال فترة حكم بينوشيه، والذين عبّر بعضهم عن إحساسهم بالراحة والعزاء لإعادة الإعتبار لأحد رموز ضحايا عسف الدولة في عهد الطغيان، مؤكدين أنّ ذلك، وليس النسيان، هو السبيل الوحيد لمداواة جراحهم، واستعار أحدهم عبارة نيلسون مانديلا الشهيرة “نعم للصفح، لا للنسيان”!
كانت أرملة جارا وابنته في مقدمة المشيِّعين تغالبان دموعهما وتنثران الورود، بينما كانت الرئيسة ميشيل باتشليت تقول في كلمتها: “الآن، وبعد مرور كل هذه العقود، يرقد جثمان فيكتور جارا في سلام، لكن لا يزال هناك الكثير من العائلات التي تريد أن يرقد أعزاؤها في سلام، ولذا من الضروري أن نستمرَّ في البحث عن الحقيقة والعدالة، حتى يشعر الشعب التشيلي كله بالسلام”.
أما بعد، ما أشدّ حوجتنا للبحث عن الحقيقة والعدالة حتى يشعر الشعب السوداني كله بالسلام. وفي الأثناء لا تزال المنظومة العدلية والحقوفية تنتظر الإصلاح، ولا تزال مفوضية «العدالة الانتقالية» في ضمير الغيب!
الأحـد
سأل رئيس المحكمة العسكرية قائد الكتيبة المُنسحِبة:
ــ «لماذا خالفتم التعليمات وانسحبتم للعدو من موقعكم الاستراتيجي»؟!
أجاب القائد:
ــ «سيدي القاضي، هناك عشرة أسباب أجبرتنا على الانسحاب، السبب الأول لم تكن لدينا ذخيرة، أمَّا السبب الثاني .. »،
هنا قاطعه رئيس المحكمة بصرامة:
ــ «لا داعي لذكر بقيّة الأسباب»!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى