استنارة

الدين والسياسة في مواجهة تحديات العصر

برهان غليون :

بعكس ما بثته الأيديولوجيات الوضعية والمادية التي سادت منذ القرن التاسع عشر، تظهر أحداث العقود الماضية تجدد الطلب على الدين في الحياة السياسية والمدنية بشكل عام، إذ كان للكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الأرثوذكسية دور رئيسي في التعبئة التي قادت إلى الإطاحة بالنظم الشيوعية، سواء عن طريق ما قام به البابا السابق جان بول الثاني الذي أظهر نشاطا استثنائيا في الدبلوماسية الدولية، أو عن طريق الكنائس المحلية التي نشطت لدعم قوى المعارضة السياسية وشكلت رافعة لها في بولونيا وروسيا وبلدان أوروبا الشرقية عموما. بقدر ما يعبر الإيمان عن الولاء والانتماء والتماهي مع الوجود في صوره المادية أو الذهنية، يندفع المؤمن إلى الإخلاص لما يؤمن به، ويؤهله ذلك للارتفاع على شرطه المادي بل والإنساني ليصل إلى مستوى نكران الذات والاستغراق في الفكرة التي يتعلق بها ويسري الأمر نفسه على ما قام به المجاهدون الإسلاميون في أفغانستان، حين كبدوا النظام السوفياتي هزيمة عسكرية وسياسية لن ينجح في التغلب على آثارها أبدا. ولعب أنصار لاهوت التحرير دورا أساسيا أيضا في هزيمة الدكتاتورية وتعبئة شعوب أميركا اللاتينية أو بالأحرى طبقاتها الفقيرة لتأكيد حقوقهم الاجتماعية، بعد انحسار العقيدة الماركسية. وفي منطقتنا ما كان من الممكن تصور نجاح المشروع الصهيوني الرامي إلى بناء دولة يهودية صافية في فلسطين من دون إحياء الذاكرة الدينية والخلط المتعمد بين القومية والدين، وبالمثل ما كان من الممكن الإطاحة بحكم الشاه الإيراني المدعم بقوة من الولايات المتحدة لولا التعبئة الدينية الهائلة التي عملت عليها، خلال عقود، الحوزة الشيعية. ولا يزال النظام الذي ولد مع الثورة الإيرانية يدين بوجوده واستمراره إلى حد كبير للروح الدينية التي فجرتها هذه الثورة. وتستند معظم حركات المعارضة العربية والإسلامية وأكبرها اليوم إلى الذاكرة والتعبئة الدينية في نشاطها الرامي إلى تغيير الأوضاع أو مواجهة النظم القمعية والفردية، وقد حلت الحركات التي تستلهم العقائد الدينية محل الحركات القومية واليسارية في تعبئة الجمهور وقيادة الرأي العام في صراعه من أجل تحسين شروط معيشته أو ضمان مشاركته في الحياة العامة أو طرد المحتلين من أراضيه، كما هو الحال في فلسطين ولبنان والعراق وبلدان عديدة أخرى. وأجبرت الحركات الإسلامية الناشطة في كل بقاع العالم -ممن يتبنون إستراتيجية مواجهة صدامية ومباشرة مع الغرب- العواصم الغربية والأطلسية على إعادة بناء إستراتيجيتها الدفاعية على أساس مواجهة الحرب الإرهابية. وقد أصبح مقر البابا ممرا إجباريا لجميع أولئك الدبلوماسيين الذين يأملون في إضفاء شرعية دينية على سياساتهم، بما في ذلك قادة الولايات المتحدة الأميركية. وهذا ما ينطبق بشكل أكبر على المرجعية الشيعية التي تشكل اليوم في العراق وإيران مصدر التوجيه الأول للسياسة وللقادة السياسيين الحاكمين. ومن آخر تظاهرات هذا النفوذ الديني المستعاد في سياسات عصرنا انتفاضة رجال الدين البوذيين في بورما أو ميانمار. يصدم هذا الدور المتجدد للدين، أو للأديان، في صنع السياسة وبناء المجتمعات بقوة الأفكار المسبقة التي سودتها حقبة طويلة من التفكير الاجتماعي الوضعي، الذي بدأ مع عصر الأنوار العقلاني في القرن الثامن عشر، وآمن بالعلم مصدرا لخلاص الإنسان، وعارض بينه وبين الدين الذي نظر إليه كنتاج لجهل الإنسان بالطبيعة أو كتعبير عن طفولته الفكرية. كما تصدم بشكل أقوى أولئك الذين اعتقدوا، على خطى ماركس والفلسفات المادية، بأن الدين أفيون الشعوب، وأنه سينحسر لا محالة مع انهيار نظم السيطرة والاستعباد الطبقية وزوال استغلال الإنسان للإنسان والحاجة إلى عزاء من طبيعة سحرية. وبالنسبة للجميع كانت الحداثة تفترض انتصارا مؤكدا لأشكال الوعي الوضعي والعلمي وتراجعا مضطردا للوعي الديني وللأديان بشكل عام. ليس هناك شك في أن الثورة الصناعية، وما تبعها من انقلاب في أساليب إنتاج المجتمعات وحياتها وتفكيرها معا، قد ترافقت مع تحول كبير في عقائديات الناس وتطلعاتهم وغاياتهم من العمل والحياة أضعف من دور الأديان الكلاسيكية في التأثير على السياسة لصالح عقائديات جديدة آمن الناس بها، ليس بالضرورة بديلا عن الأديان السماوية ولكن إلى جانبها، من بينها القومية والشيوعية والوضعية التي انتشرت بقوة في القرن التاسع عشر، وفاضت عنه إلى القرن العشرين. وارتبط انتشار هذه الأيديولوجيات ذات الطابع الزمني بتطور منظومات من القيم والتطلعات تركز على تحسين شروط حياة الإنسان على الأرض، وتؤكد على سعادته الجسدية والعقلية، مقابل تأكيد العقائد ومنظومات القيم الدينية السماوية على الخلاص الروحي والتطلع إلى حياة الآخرة الأبدية. لكن الأمر بدأ يتغير منذ السبعينيات. وهناك ثلاثة عناصر تفسر هذه المفاجأة أو ما يمكن أن نسميه مفاجأة تنامي أثر الدين في الحياة السياسية والمدنية عموما: الأول هو سوء تأويل ظاهرة انحسار الفكر الديني وتوحيدها مع فكرة حتمية زوال الدين أو تلاشيه بوصفه نموذجا عتيقا للتفكير تجاوزه العلم، وهو ما يعكس الطابع التبسيطي والخطي لأطروحات الفلسفات الوضعية والمادية التي بشرت بانحسار الدين لصالح الفكر والوعي العقلاني والعلمي. الدين كالفن صيغة من الصيغ الذهنية لتمثل العالم بطريقة تجعل من التسامي الروحي والأخلاقي مذهب فكر وحياة في الوقت نفسه، ولا يمنع تقدم المعرفة ولا تحرر الفرد من نظم الوصاية والقمع استمرار مثل هذه التجارب الإنسانية الكبرى فانحسار نمط من التفكير والقيم الدينية لا يعني بالضرورة انحسار الدين، كما أن تطور المعرفة العلمية وسيطرة العلم على الحياة العملية، لا ينفي وجود صيغ أخرى لتمثل الواقع أو الوجود والكون لها أيضا قسطها من العقلانية التي تختلف في معاييرها عن العقلانية التي أطلق عليها أصحاب الفلسفة النقدية اسم العقلانية الأداتية. فعلاقة الفرد مع الوجود ليست علاقة معرفية موضوعية فحسب، كما يظهر ذلك الفن والأخلاق والعاطفة، وإنما هي علاقة متعددة المستويات والأبعاد. ومن هذه المستويات علاقة الإيمان الذي يشكل جوهر المنطق الديني أو التجربة الدينية. وبقدر ما يعبر الإيمان عن الولاء والانتماء والتماهي مع الوجود، في صوره المادية أو الذهنية، يدفع المؤمن إلى الإخلاص لما يؤمن به، ويؤهله للارتفاع على شرطه المادي بل والإنساني، ليتحد بالمطلق، أي ليصل إلى مستوى نكران الذات والاستغراق في الفكرة أو القيمة أو الرمز الذي يتعلق به. والإيمان، أي الانخراط الكلي والتسليم كأسلوب للتعامل مع العالم والتصالح مع الذات، كجزء من الكون، تجربة إنسانية أصيلة ليست مرتبطة بمستوى تطور المعرفة البشرية ولا بالاستلاب الناجم عن السيطرة الخارجية أو الاستغلال الطبقي ولا بالتدين الكلاسيكي فحسب، بل يمكن لكبار العلماء أن يعاينوها. وقد كان بين الشيوعيين من تمثل الفكرة الشيوعية بطريقة إيمانية، وكان يتصرف تصرف المؤمنين الذين يهبون أنفسهم للفكرة ويموتون في سبيلها. وقد مات منهم الكثير في السجون والمنافي من دون أن يرف لهم جفن. وبهذا المعنى فإن الدين، كالفن، صيغة من الصيغ الذهنية لتمثل العالم بطريقة تجعل من التسامي الروحي والأخلاقي مذهب فكر وحياة في الوقت نفسه. ولا يمنع تقدم المعرفة ولا تحرر الفرد من نظم الوصاية والقمع استمرار مثل هذه التجارب الإنسانية الكبرى، كما كانت تجسدها بشكل أوضح بعض المذاهب الصوفية الإسلامية. يشكل التدين بهذا المعنى نمطا من أنماط العلاقة بين الفرد والفكرة التي يتمثلها ويتعامل بها مع غيره من الأفراد، إذ المجتمعات لا تعيش من دون عقائد توجه سيرها وتضمن تفاعل عناصرها فيما بينهم. وكما أنه من الممكن أن يتعامل الفرد مع عقائده وأفكاره بطريقة استعمالية، أو أداتية، يستخدمها حسب مصالحه وحاجاته الأنانية، حتى لو كانت عقائد دينية سماوية، من الممكن أيضا أن ينظر إليها كوسيلة للسمو بذاته والارتفاع عن شرطه المادي الفاني وفرصه للاتحاد مع المطلق الإلهي أو الاجتماعي، حسب طبيعة العقيدة. والواقع أن كثيرا من الفلاسفة وعلماء الاجتماع المحدثين كانوا قد رفضوا النظرة التبسيطية التي سيطرت على الفلسفة الوضعية عموما، واعتبروا الدين نظاما رمزيا مرافقا لوجود المجتمع. وكان إليكسي دو توكفيل أول من أشار إلى أهمية الدين في استقرار النظام الديمقراطي الحديث الذي نشأ في أميركا في القرن التاسع عشر لما ينطوي عليه من ذخيرة أخلاقية. كما أن دوركهايم الذي كان أول من سعى إلى تأسيس علم الاجتماع على أسس علمية يعتبر أن الدين ضروري لتحقيق الاندماج الاجتماعي، بما في ذلك في المجتمعات الحديثة. أما ماكس فيبر فقد أكد أهمية المنظومات القيمية في قيام النظم الاقتصادية نفسها، كما أبرز ذلك في كتابه عن المناقبية البروتستنتية وروح الرأسمالية، ونظر جورج سيميل إلى الشعور الديني بوصفه معطى أساسيا في حياة المجتمعات. والعنصر الثاني الذي يفسر هذه العودة ما شهدته الأديان التوحيدية المنحسرة سابقا من تحولات داخلية عميقة، ربما كان من الصعب على المراقب الخارجي وغير المختص أن يتعرف عليها، لأنها تقع في قلب منظومة القيم والتطلعات العميقة للأفراد. وقد استعادت هذه الأديان دورها بقدر ما غيرت من دلالاتها وتحولت إلى أطر فكرية للاحتجاج على حداثة إشكالية، مخربة، تمييزية، مفقرة وسالبة، وأحيانا مستحيلة، بالنسبة لجميع أولئك الذين خرجوا من تقاليدهم الفكرية والدينية القديمة، من دون أن يجدوا ما يملأ فراغهم الروحي والفكري والاجتماعي معا. فليس من المبالغة القول إن تبرير الاحتجاج وتأطيره هو اليوم الوظيفة الرئيسية للأديان التوحيدية المستعادة. والعنصر الثالث هو أزمة الحداثة أو نمطها الكلاسيكي، وانكشاف عجز هذا النموذج، وريث المرحلة الصناعية وما بعد الصناعية، في استيعاب الكتل المتزايدة الخارجة من أنماط حياتها التقليدية، وإدماجها في نموذج الحياة الداعية لها، وبالتالي تبين المآزق التي تقود إليها هذه النماذج القائمة على التنافس في رفع معدل الإنتاجية والمزايدة في القيم الاستهلاكية. الدولة بوصفها دولة مواطنين متساوين يخضعون لقانون واحد، لا تقوم إلا إذا نجحت النخب السياسية في تحييدها عقائديا وإخراجها من دائرة النزاعات السياسية والدينية والارتفاع بها إلى مستوى الدولة المؤسسية غير الأيديولوجية كما أن التطورات التقنية والعلمية والعولمة التي أفرغت المجتمعات من روابطها الحميمة، وعمقت الشكوك في المستقبل، ربما كانت أحد الدوافع الرئيسية للإحياء الديني الراهن. وهذا ما يفسر كيف بدأت المعتقدات الزمنية أو الدهرية التي رافقت تقدم الحداثة، كالقومية والشيوعية، تتراجع وتنحسر شيئا فشيئا، ومعها السياسة ذاتها، لصالح العقائد الدينية وروابطها القائمة على الأخوة والقرابة الروحية، التي بدت في الحقبة السابقة وكأنها الضحية الحتمية لعملية التحديث والتنمية الفكرية والتقنية. هكذا شهدنا منذ السبعينيات تقاربا مطردا بين حركات الاحتجاج والتغيير والإحياء الديني، وربما كانت الثورة الإسلامية الإيرانية هي النموذج الأكثر تعبيرا عن هذا التقارب الذي سيستمر وينتشر ويعبر عن نفسه بصور مختلفة في معظم مناطق العالم النامي، بل في أوساط شعبية متزايدة من العالم الصناعي المتقدم. لا يختلف الأمر عن ذلك بالنسبة للاهوت التحرير الذي شهدته مجتمعات أميركا اللاتينية، وحركة رجال الدين البوذيين في ميانمار اليوم. والواقع أن ما يسمى بالصحوة الدينية لا يعبر عن عودة إلى أشكال التدين القديمة ذاتها ولكنه يعيد استثمار جدلية الإيمان أو ما يسميه البعض بالشعور الديني، الذي هو مزيج من نكران الذات والتفاني -الذي يمكن أن يكون منزها لذاته أو للمبادئ التي يتعلق بها، أو لحساب الجماعة القومية أو الطبقية أو الطائفة- في المعارك التي أثارتها وتثيرها عمليات التحديث نفسها. فهي أقرب إلى أن تكون توظيفا للفكر الديني الكلاسيكي في هذه المعارك الحديثة بالفعل، من أن تكون استعادة للمعارك الدينية والعقائدية التقليدية، وهذا ما يفسر الطابع السياسي لهذا الإحياء في كل مكان. فالدين يستعاد هنا كمورد أو مصدر لتعزيز موقف فئات اجتماعية معينة في صراعها ضد البؤس أو الفقر أو البطالة أو التهميش أو العدوان الخارجي. ويشكل الدين هنا مصدرا لتأكيد هوية جمعية أو عقيدة كفاحية تشجع على التضحية، أو تفعيلا لقيم التضامن الاجتماعي والإنساني. ومن هنا يمكن القول إن الدين لم يعد بعد أن انحسر وإنما أعيد تأهيله وتجديد أفكاره وقيمه ليقوم بأدوار جديدة، إذ المادة التي يستخدمها الدين المجدد قديمة، تتعامل بالأفكار والمفاهيم والمصطلحات والطقوس ذاتها، لكنها وضعت في صورة جديدة أوحت بها حاجات المجتمعات وتحديات الحداثة. من هنا لم يعد هناك معنى لوصف هذه الأديان، كما فعل ماركس، بأنها أفيون الشعوب أو أداة تخديرها، ولا لعزو انتشار الفكر الديني إلى جهل العامة أو غياب المعرفة العقلية. لا يتناقض هذا الإحياء المتزايد للدين مع الحداثة وقيمها إذن ولكنه يصب فيها، فهو يهدف إلى تأكيد قيم الحرية والعدالة والمساواة. بيد أن المشكلة التي يطرحها تظهر بشكل رئيسي على مستوى إعادة بناء المجتمع والدولة. فالسياسة تعتمد بشكل متزايد في هذه الحالة على تعبئة المشاعر والقيم والموارد الدينية، لكن الدولة بوصفها دولة مواطنين متساوين يخضعون لقانون واحد، لا تقوم إلا إذا نجحت النخب السياسية في تحييدها عقائديا، وإخراجها من دائرة النزاعات السياسية والدينية، أي إلا بالارتفاع بها إلى مستوى الدولة المؤسسية، غير الأيديولوجية. وربما هنا تكمن مفارقة السياسة المعاصرة في بلداننا، إذ كيف نوفق بين متطلبات ممارسة سياسية تنجذب أكثر فأكثر نحو استلهام العقائدية الدينية، ومتطلبات بناء الدولة كمؤسسة جامعة، يتساوى في ظلها أصحاب العقائد والمؤمنين جميعا من كل المذاهب والأديان، أي تحويلها إلى دولة قانونية لا أيديولوجية؟ ألا يفسر هذا التحدي الانقسامات العميقة التي تسم مجتمعاتنا وتجعلها تتخبط في معارك ونزاعات مستمرة، تدخل السياسة في طرق مسدودة وتفرغ الدولة من مضمونها كمؤسسة قانونية جامعة؟ في نظري، لا يكمن الجواب على هذه المفارقة التاريخية بالدعوة إلى استبعاد الدين من السياسة، وإنما بالسعي إلى تعميق مفهوم الدين بمعنى الإخلاص، بوصفه نكرانا للذات في سبيل المبادئ الإنسانية، التي هي مقاصد إلهية أيضا، على حساب استغلاله لتأكيد نفوذ الطائفة أو القبيلة أو الأمة، مما يشكل مصدر الخطر الرئيسي على أي تجربة سياسية دينية معاصرة. عندئذ يمكن للدين المساوي للإخلاص القائم على مبادئ الحق والعدالة والمساواة أن يكون عاملا رئيسيا في بناء دولة القانون والديمقراطية العربية أو الإسلامية المنشودة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى