الرأي

 الديمقراطية والانتخابات: أمريكا وامتحان التدوال السلمي للسلطة دروس وعبر

د. بكري الجاك

الديمقراطية نظام حكم بسيط ومعقد في نفس الوقت، بساطته تكمن في أنه نظام حكم يسعي إلى التعبير عن إرادة الناس سواء في اختيار من يحكم أو في السياسات التي سيطبقها من سيحكم بافتراض أن الناخب يملك أدوات الوعي الكافية لاختيار مرشحين لا لذاتهم فقط بل أيضا لما يطرح من برامج وهذا ليس افتراض صحيح حتى في الديمقراطيات العريقة. أما تعقيد النظام الديمقراطي يكمن في أنه لا يمكن قيام نظام ديمقراطي حقيقي دون كفالة الحريات الأساسية من حرية التعبير وحرية التنظيم وحرية الضمير وحرية الحق في الاختيار و لكي تتم حماية هذه الحريات لا بد من عدة شروط: أولها المواطنة المتساوية وثانيها سيادة حكم القانون و ثالثها الموازنة و الفصل بين السلطات، أي السلطة التنفيذية و السلطة التشريعية والسلطة القضائية، الشرط الرابع و الأهم هو وجود مؤسسات ترعى و تضمن و تحمي تحقق الشروط الثلاثة أما الشرط الأهم على الإطلاق هو وجود عقد اجتماعي متوافق عليه يؤمن قيام هذا النظام و يوفر له المشروعية الاجتماعية و السياسية و الثقافية.

هنالك أخطاء كثيرة شائعة عن النظام الديمقراطي أهمهما أمرين: الأول هو أن الديمقراطية نظام حكم الأغلبية، وهذه تستخدم أحيانا لتعني دكتاتورية الأغلبية. لابد من القول أنه في كثير من الأحيان القرارات في النظام الديمقراطية تتخذ بمبدأ الأغلبية البسيطة أي خمسين في المئة زائد واحد وحسب طبيعة النطام في بعض الأحيان لابد من حضور عدد معين من الأعضاء ليكون الاجتماع قانوني غض النظر عن ما إذا كان الاجتماع يخص برلمان أم اتحاد أم نقابة أو جمعية أهلية. حكم الأغلبية لا يعني دكتاتورية الأغلبية بل في النظام الديمقراطي لابد من حماية حقوق الأقليات (سياسية كانت أم إثنية) و ضمان حق الأقليات في التمتع بكافة أشكال الحريات. الخطأ الثاني الشائع هو مساواة الديمقراطية بالانتخابات، و كما أبنت في عليه الديمقراطية نظام متكامل لتنظيم المجتمع و ليس محض عملية تصويت يعبر فيها الناخبين عن إراداتهم، إذ لابد من التأ كيد أن الانتخابات في النظام الديمقراطي تخدم عدة أغراض أساسية و هي1) العمل كآلية للتبادل السلمي للسلطة و2) تغيير القيادة السياسية و 3) استفتاء الشعب عن السياسات والبرامج التي يرغب الناس في تطبيقها. و بملاحظة سريعة يمكن للقارئ الحصيف التنبوء بكوارث الأنظمة الديمقراطية إذا لم يحدث توافق ومن ثم الحصول على أغلبية واضحة مما قد يتسبب في تعطيل الإرادة السياسية والقدرة في اتخاذ قرارات مهمة، و إذا ما سمح الوقت سنعود لتشخيص بعض علل في النظام الديمقراطي في نافذة مستقبلية.

أول انتخابات رئاسية عقدت في أمريكا كانت في الفترة من ديسمبر 1788 إلى 10 يناير 1789 مباشرة بعد إجازة دستور الجمهورية الوليدة في 17 سبتمبر من عام 1787 ، و منذ ذلك التاريخ تعاقب على أمريكا 45 رئيسا بما فيهم الرئيس الحالي دونالد ترمب و 116 كونغرس، الرئيس ينتخب كل أربعة أعوام و الكونغرس (أي مجلس النواب) كل عامين، مجلس الشيوخ كان يتم اختياره بالتعيين بواسطة حكام الولايات ولم يبدأ انتخابه حتى عام 1914 عقب التعديل الدستوري السابع عشر. خلال هذه المسيرة الطويلة من الممارسة الديمقراطية خاضت أمريكا حرباً أهلية بسبب العبودية كما خاضت عدة حروب خارجية لإكمال الاستقلال من الممكلة المتحدة مثل حرب 1812 وخلال هذه المسيرة حدثت تحولات يشيب لها الرأس من تغيير اجتماعي طال توسيع قاعدة الحريات وفتح المجال العام للنساء والأقليات، ورغم ذلك مازالت التجربة الأمريكية بعيدة عن تحقيق القيم المثلى للنظام الديمقراطي بشكل مثالي وربما سوف تستمر أمريكا في حالة البحث عن ماهو مثالي فأي نظام بشري لامحالة ستشوبه عطوب و نقصان و إخفاقات.

الأمر المقلق في الانتخابات التي ستجري يوم الثلاثاء 3 نوفمبر هو أن الانتخابات هذه المرة قد تنتهي بأحداث عنف غير مسبوقة، الغريب في الأمر أن أمريكا أجرت انتخابات عقب انتهاء الحرب الأهلية في 1864 و في أثناء الحرب العالمية الأولى وفي كل المرات ورغم اختلاف التحديات لم تمتحن عملية التبادل السلمي للسلطة مثلما تمتحن الآن في انتخابات 2020. حاليا في معظم المدن الأمريكية قامت جل المحال التجارية بوضع حماية خارجية من الخشب لأبوابها و شبابيكها الزجاجية التي عادة ما تستخدم في المدن لتسهيل عملية عرض المنتجات والبضائع خوفا من انفلات الأمن و اندلاع أحداث عنف. للمرة الثانية قامت حملة المرشح الديمقراطي (النائب السابق للرئيس أوباما) جو بايدن بإلغاء بعض أنشطتها في ولاية تكساس بسبب مضايقات مشجعي الرئيس الحالي دونالد ترمب الذي يسعى لإعادة انتخابه للمرة الثانية، وقد تعالت المضايقات وفي بعض الولايات حيث يقوم بعض جمهور الرئيس ترمب بإغلاق الطرق و الكباري عبر مسيرة من السيارات و الشاحنات و أيضا بوصف كل موالي الحزب الديمقراطي بأنهم شيوعيين و ليبراليين يسعون لتدمير أمريكا هذا مع العلم أن جو بايدن كمرشح يعتبر تقليدي ووسطي و لا يمكن حتى وصفه بيسار الوسط. بالطبع يمكن تتبع المعطيات التي أوصلت المجتمع الأمريكي إلى تحويل مجرد الانتماء السياسي و الاعتقاد الفكري إلى أمر أشبه بالطوائف الدينية التي لا ترى في الآخر المختلف سوى شر متكامل، و ربما ليس من الممكن حصر هذه المعطيات و لكن تشير الدراسات إلى وجود ثلاثة عوامل تؤثر في بعضها البعض:أولها استخدام لغة قطعية في أمور لا تحتمل سوى النسبية، ثانيها تزييف الحقائق ومحاولة خلق عالم موازي بشكل مستمر بالتشكيك في أبسط الحقائق مثل حقيقة فايروس كورونا و الهدف هو تحويل الناس من مجرد تابعين إلى حواريين، ثالث هذه العوامل هو محاربة العقلانية واستبدالها بأشياء أخرى من مصالح طبقية واستعلاء عرقي وتقديم أولويات أيدولوجية من كيفية إدارة الاقتصاد و غيرها من أمور مثل الحق في الإجهاض و حمل السلاح.

أمريكا عن بكرة أبيها و العالم من حولها يحبس أنفاسه عن ما ستؤول إليه الأمور وغض النظر عن النتائج يبدو أنه ستكون هنالك أحداث عنف متفرقة ومتوقعة، برغم أن هذا امتحان عسير لمدى نضج التجربة الديمقراطية الأميركية و مدى رسوخ مؤسساتها إلا أن في ذلك دروس وعبر لنا نحن في السودان الذي مازال يسعى لتوطين و ترسيخ الديمقراطية. أهم هذه الدروس أنه لا يمكن أخذ أي شيء على أنه مؤكد وأن الديمقراطية نظام لا يحمي نفسه بنفسه بل في حاجة إلى تمتين و ترسيخ و حماية عبر نشر ثقافة الديمقراطية، الدرس المفيد لنا أيضا و نحن نسعى و نأمل في التوافق على مصالح عليا تتخلق وتترجم في مشروع وطني جامع ومتوافق عليه و مبادئ تأسيسية للدولة الديمقراطية أن لا نخطئ في توصيف الاختلاف في الرؤى وكيفية البناء واستبدال إدارة الاختلاف بلغة التخوين وتوزيع صكوك الوطنية والثورية فليس هنالك معيار لمدى ثورية أو وطنية أي كائن كان في أمور الاختلاف حول مضمونها هو أكثر احتمالا من الاتفاق حول معانيها، فلنعطي بعضنا البعض الحق في الاختلاف وأن لا نجرم وننصب المشانق لمن يتقدم للعمل العام وأن لا نتعجل في وصف الناس بأنهم ذاتيون و يسعون لمجد شخصي، فإذا فعلنا ذلك سنبقى كلنا في غرف مغلقة نحتج على بؤس من يقودنا وحينها سنكون قد جرمنا و حاكمنا كل من تقدم لقول رأي. فلنحترم خلافاتنا ولنعي أنه حتى التجارب الراسخة مثل أمريكا الثقافة الديمقراطية ومؤسساتها تمتحن امتحانا عسيرا ، البناء أمر معقد و يتطلب رؤية وإرادة و مثابرة و عمل دؤوب.. فهلا انصرفنا إلى العمل..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى