الخبير الاقتصادي الدولي الدكتور التجاني الطيب في حوار خاص مع مجلة (حواس) الاقتصادية
الذهب سيفجّر الصراع بين الجهات العسكرية والمدنية
الدكتور التجاني الطيب إبراهيم، من مواليد ود رملي (شمال الخرطوم بحري)،
حائز على ماجستير في الاقتصاد من جامعة غوتينغن- ألمانيا الاتحادية، ودكتوراه في الاقتصاد من جامعة كولونيا- ألمانيا الاتحادية.. عمل مساعد تدريس في جامعة كولونيا ومحاضراً في اقتصاديات العالم الثالث بالمؤسسة الألمانية للتنمية العالمية بمدينة بون الألمانية، ومحاضراً بكلية الاقتصاد جامعة الخرطوم.
وعمل أيضاً كخبير اقتصادي بصندوق النقد والبنك الدوليين- واشنطن، أمريكا، ووزير دولة للمالية والاقتصاد إبان الديمقراطية الثالثة.. وقد وصل إلى منصب مساعد مدير الدائرة الأفريقية ودائرة العلاقات الدولية بصندوق النقد الدولي، وأول ممثل مقيم لصندوق النقد بجنوب أفريقيا والعراق.. وحالياً يعمل مستشاراً اقتصادياً ومالياً لعدد من المنظمات والمؤسسات المالية والتنموية الدولية.
خبير بكل هذا التأهيل العلمي والخبرات الدولية الثرة الحاجة إليه تزداد لسماع تحليله العلمي لما يدور في الساحة الاقتصادية الآن، خاصة مع الأزمة الاقتصادية الراهنة التي تلقي بظلالها على الساحة.. وقد سعدنا باللقاء مع الدكتور التجاني الطيب الخبير الدولي في حوار عميق مع مجلة (حواس) أجاب فيه عن الأسئلة الملحة التي تشغل الرأي العام الاقتصادي بفهم ورؤية عميقين.
حوار طارق شريف
* مشكلة سعر الصرف ظلت تقلق مضاجع الاقتصاد السوداني.. ما هي وجهة نظرك كخبير لمعالجة هذه المشكلة؟
“عشان نفهم المشكلة لازم نفهم الأسباب والخلفيات” التي أدت إلى مشكلة سعر الصرف.
والحقيقة أن سعر الصرف ليس هو المشكلة، وإنما هو انعكاس لحالة عدم التوازن في الاقتصاد الكلي المتمثلة في تراجع القطاعات الحقيقية والتفلت في الإنفاق الجاري غير التنموي، وإذا أخذنا قطاع الزراعة نجد أن القطاع كان ينمو في المتوسط بنسبة (٨.٥%) في العام في الفترة من (١٩٩٠-١٩٩٩).
هذه النسبة انخفضت إلى (٣.٥%) في العام في الفترة من (٢٠٠٠- ٢٠٠٨ )ثم صارت النسبة سالبة بمعدل (٢.٣%) في الفترة من ٢٠٠٩ إلى يومنا هذا.
والقطاع الصناعي لم يكن أحسن حظاً إذ تراجع أيضاً خاصة في العقدين الماضيين، حيث انخفضت نسبة مساهمته في إجمالي الناتج المحلي من حوالي (٣٧%) إلى حوالي (٢٢%) في ٢٠١٨، علماً بأن سكان السودان ينمون بنسبة (٢.٦%) في العام.
تراجع القطاعات الحقيقية أدى إلى خلق فجوة في المعروض من الإنتاج المحلي والصادر، وهذه الفجوة كان لابد أن تسدّ بالاعتماد على الواردات مما زاد من الطلب على الدولار، بالإضافة إلى الطلب الفائض في القطاع العام.. ومن هنا يتضح أن الدولار ليس هو المرض وإنما هو العلة، وبالتالي إذا لم تحل مشكلة عدم التوازن فستظل مشكلة سعر الصرف قائمة.. وتوحيد سعر الصرف لا يتم بقرار إداري، وإنما يأتي تلقائياً مع المعالجة التدريجية لمشكلة عدم التوازن.
_ رأيك في السياسات التي اتبعت لمواجهة أزمة النقود؟
أزمة النقود كانت مفتعلة إلى حد كبير، بمعنى أن كل المؤسسات الحكومية وشبه الحكومية كانت تضع إيراداتها في البنوك، لكن الحكومة أصدرت قراراً بقفل كل حسابات المؤسسات الحكومية في البنوك التجارية وتحويلها إلى البنك المركزي، وهذا الأمر كان يكشف عملية التجنيب مما يعطي لوزارة المالية الحق في كشف تلك الحسابات وربما الاستيلاء عليها.
وهنا بدأت الجهات الاحتفاظ بالنقد داخل مؤسساتها حتى تتجنب الكشف والمصادرة من جانب وزارة المالية، ما أدى إلى تجفيف السيولة وخلق نوع من الهلع، حتى المواطنون أصبحوا يحتفظون بأكبر قدر من النقود في منازلهم أو أي أماكن حافظة أخرى. وعندما تراجعت الحكومة عن تلك السياسات بدأت السيولة تدريجياً في التحسن، مع مساهمة البنك المركزي في ضخ مزيد من السيولة في الأسواق، لكن يظل السؤال قائماً: إلى متى ستستمر الجهات
(التجنيب) ما زال مستمراً وهو مصدر الفساد
الحكومية في الاحتفاظ بحسابات ومبالغ هائلة بعيداً عن عين ويد وزارة المالية؟
_ التجنيب والفساد من أبرز أسباب الأزمة الاقتصادية.. هل ما زال الفساد مستمراً أم سقط بسقوط النظام السابق؟
التجنيب في الواقع هو مصدر الفساد، وهدفه أساساً هو التمكين لسدنة النظام والصرف خارج أطر الموازنة العامة، وبالتالي الحرب على الفساد تبدأ بوقف التجنيب، واللوائح والقوانين لمنع ذلك موجودة، كل ما هو مطلوب تفعيل تلك القوانين واللوائح وتطبيقها بصرامة. ولكن للأسف التجنيب ما زال مستمراً، والفساد ما زال يتمدّد يوماً بعد يوم .
ومن وجهة نظري لإيقاف التجنيب يجب العودة مرة أخرى لمركزة كل المشتريات الحكومية المركزية أو الولائية.
_ ما هي المعطيات التي أسهمت في ضعف القطاع المصرفي السوداني؟
القطاع المصرفي حاله كحال المؤسسات والسياسات الموجودة، وهي حالة غير مرضية لأن الفساد وضعف السياسات المالية والنقدية أديا بدورهما إلى الفوضى في القطاع المصرفي.. مثلاً آخر إحصائية، هنالك (37) بنكاً تعمل في السودان وعلمت أن الحكومة الانتقالية صدقت على بنك جديد ليصبح العدد (38) بنكاً في اقتصاد حجمه لا يزيد عن (54) مليار دولار.. السؤال: هل يحتاج السودان إلى هذا الكم الهائل من البنوك في تنمية الاقتصاد؟
في رأيي أن القطاع المصرفي يحتاج إلى دراسة دقيقة لدور الجهاز المصرفي في الاقتصاد السوداني، خاصة على صعيد التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والنظر إلى العدد المطلوب من البنوك لتغطية اقتصاد بحجم اقتصاد السودان.
_ وماذا عن رأس مال البنوك.. وما رأيك في إدارة البنوك بواسطة أجانب؟
يجب النظر إلى رؤوس أموال البنوك والتأكد أن ليس هنالك فرق بين رأس المال المصدّق ورأس المال المدفوع، فهنالك بنوك قامت بمبالغ زهيدة مقارنة مع رأس المال المصدّق وخلقت رأس مال من عملياتها في الأسواق مما مكّنها من خلق رأس مال من الأسواق المحلية.
أيضاً هنالك حاجة إلى النظر في إدارة البنوك المحلية بشخصيات أجنبية مما يفتح باباً للفساد.. بغضّ النظر عن تكلفتهم العالية بإمكانهم الهرب من البلاد عندما تكتشف السلطات أية مخالفات.. وكل ذلك يمكن أن يثار بنوع من التفصيل والتمحيص في دراسة أوضاع الجهاز المصرفي الحالي.
البنك المركزي في حاجة إلى إعادة تأهيل
_ كيف تنظر إلى دور البنك المركزي؟
البنك المركزي ودوره في إدارة النظام المصرفي كان وما زال ضعيفاً رغم أنه يعج بالكفاءات الفنية، وظل في خدمة أهداف سياسية أكثر من اهتمامه بجهاز مصرفي فعال وشفاف.. ومن هنا البنك المركزي نفسه في حاجة إلى إعادة تأهيل، خاصة فيما يتعلق بدوره كمستشار للحكومة ومسؤول عن إدارة القطاع المصرفي وفق سياسات محددة تخدم قضية التنمية والنمو في الاقتصاد السوداني.
ومن وجهة نظري أن مشكلة بنك السودان الأساسية هي مشكلة إدارة، وعدم تركيزه في الدور المنوط به.
_ ماذا تقصد بقولك (عدم تركيزه في الدور المنوط به)؟
أقصد الانشغال بقضايا لا علاقة للبنك المركزي بها، مثل شراء الذهب والتمويل الأصغر.. (شراء الذهب ما شغل البنك المركزي)، الذهب ليس ملكاً للحكومة، (90%) للقطاع التقليدي والبقية لشركات التعدين، وواجب البنك التأكد من أن الذهب المصدّر تأتي عائداته للبلاد لتكون جزءاً من احتياطي النقد الأجنبي.. أيضاً التمويل الأصغر يفترض أن يكون جهة منفصلة وحدها، أو جزءاً من وزارة التنمية الاجتماعية.
_ البعض يتحدث عن القيمة المضافة للصادرات.. هل الأمر بهذه السهولة؟
يمكن القول إن الصادرات مربوطة بصورة مباشرة بعملية تحريك القطاعات الحقيقية (الزراعة، والصناعة)، ما يعني أن القيمة المضافة للصادرات لا تأتي من فراغ، وإنما هي نتاج طبيعي لزيادة الإنتاج المحلي.
_ وماذا عن صادرات الذهب؟
فيما يتعلّق بملف التصدير، هذا ملف شائك ومعقد لأن صادرات الذهب جزء كبير منها يُجنّب لمواجهة الالتزامات الحكومية ذات الطابع العسكري والأمني لإدارة الصراعات والحروب التي شهدتها البلاد في الأعوام السابقة، فإذا نظرنا إلى الموازنة العامة فإننا نجد أن قطاع الدفاع والأمن والشرطة يبتلع حوالي (23%) من إجمالي الإنفاق العام حسب تقديرات موازنة العام 2019، لكن هذه الاعتمادات تشمل فقط (المواهي) والأجور، وشراء السلع ولا تتضمن أي صرف ذي طابع حربي.
(90%) من ما يسمى بالخبراء الاقتصاديين لا علاقة لهم بالاقتصاد
_ هل أصبح الذهب بديل النفط؟
أصبح الذهب مصدر تجنيب كبديل للنفط بعد أن ذهب الجنوب ومعه أكثر من (75%) من إنتاج النفط، لذلك من الصعب جداً أن تترك الحكومة ملف الذهب لأية جهات أخرى ما لم توضع كل منصرفات القطاع العسكري والأمني في مكان واحد وينفق على تمويل كامل حاجات القطاع بصورة شفافة وفي إطار الموازنة العامة، حيث توضّح مصادر الإيرادات والإنفاق لاعتمادات القطاع.
وفي اعتقادي أن ملف الذهب سيكون مصدر صراع سياسي في الفترة القادمة بين الجهات العسكرية والمدنية.
_ ما رأيك في الخبراء الاقتصاديين في الساحة الآن؟
من مخلفات نظام الإنقاذ، كثرة ما يسمى بالخبراء والمحللين الاقتصاديين، مع العلم أن (90%) من هؤلاء الخبراء لا علاقة لهم بالاقتصاد كعلم أو خبرة، حتى أصبح الاقتصاد مجال عمل وتخصص للذين لا تخصص لهم أو لا تعجبهم تخصصاتهم الأصلية، وفي اعتقادي أن هذا كان جزءاً من نظرية النظام البائد لنشر أكبر قدر من الضبابية على مشاكل الاقتصاد وتحدياته.. والأغرب من ذلك أن نفس الذين كانوا يملأون الساحة ضجيجاً في ظل الإنقاذ تحولوا اليوم إلى منظّرين ومرشدين لحكومة الثورة بنفس الأسلوب الضبابي ودون حياء، مع أن الجهل الاقتصادي الذي كانوا ينشرونه بين الناس بإيعاز من النظام البائد ما عاد بضاعة تستحق المتاجرة في ظل الأوضاع الحالية، بل هنالك من اعتقدوا أن التحليل الاقتصادي وهو من أصعب الأشياء في علم الاقتصاد لا يحتاج إلى دراسة الاقتصاد.
ودور الصحافة وأجهزة الإعلام دور أساسي وكبير كي لا يستمروا في نشر الجهل الاقتصادي بين الناس، بأن تسأل كل من يدعي أنه خبير أو محلل اقتصادي: أين درس التحليل الاقتصادي وأين اكتسب تجربته.
_ ما هي آخر إصداراتك؟
كتاب (الاقتصاد السوداني قضايا وحلول)، في طور الإعداد، يحتوي على (35) مقالة تحوي رؤية لكيفية الخروج من عنق الزجاجة، وتحتوي الرؤية على أهداف محددة وسياسات مفصلة، كما تحتوي على التكلفة ومصادر التمويل المطلوبة لتمويلها من الداخل دون الاعتماد على الخارج.
*نقلا عن مجلة حواس
Awtar Alaseel news https://www.facebook.com/groups/sraj2222/
alarisha news
http://alarisha.net/wp-admin/customize.