حوارات

الجزولي: لستُ مبتعداً ولكن لا أطيق التزاحم بالمناكب! (2-5)

عبر (د. نصر الدين) ربما بأكثر من (د. حمدوك) عن الرغبة في أن أتولى المفوضية

لن يفلح الحكم الانتقالي بدون المفوضية والمجلس التشريعي

معاكسات ومعوقات منعت العدالة الانتقالية من التقدم

الكشاشا الرواندية توازيها أشكال سودانية عديدة

تازمامرت بالمغرب صارت متاحف أمنية بينما الأمنجية لدينا دمروا بيوت الأشباح

 

حوار- رباح الصادق

في الحلقة الأولى من حواره حول قضايا العدالة الانتقالية شرح الأستاذ كمال الجزولي مفهوم العدالة الانتقالية ووصف تجربة جنوب أفريقيا التي قامت على مفهوم العفو، لكنه انتقد خلوها من الإنصاف فلم يأت قائد مقنع بعد مانديلا، ذاكراً حاجتنا لتجربة مقنعة يقوم عليها قادة أطهار، وانتقد شعارات يحملها ثوار تناقض العدالة الانتقالية، وتحدث عن معاكسات أمام القانون وعن معيقات كتأخر تكوين المفوضية إذ لا زلنا نحبو ونزحف بدون التفكير في تكوينها، فباغته بالسؤال:

  • مع أنه يتردد أنك مرشحٌ لرئاسة المفوضية؟

لا أذيع سراً إن قلت لك إن السيد رئيس الوزراء عبد الله حمدوك تحدث معي مطولاً حول قضايا كثيرة من بينها العدالة الانتقالية، ربما لأنني ركزت في بداية كلامي على رأيي بأن ثمة أمرين كان لا بد أن يُحسما من أوَّل الحكم الانتقالي، وأن تأخيرهما ليس من المصلحة، وهما العدالة الانتقالية والمجلس التشريعي. الرئيس لم يعرض علي شيئاً محدداً، لكنه كان يرى أني مبتعد من نفسي، فشرحت له أن ذلك غير صحيح، وكل ما في الأمر أنني لا أطيق الدخول مع آخرين في تزاحم بالمناكب، فبالنسبة للعدالة الانتقالية أنا حاضر في مشهد نشر الوعي حولها، عبر المئات من المقالات والدراسات والأوراق البحثية والمحاضرات والندوات والسمنارات وورش العمل للكثير من المتدربين من الصحفيين والقانونيين الشباب وغيرهم، داخل السودان وخارجه.

  • هل كلفك رئيس الوزراء بتولي المفوضية؟

لا لم يحدث. اتصل بي الشيخ خضر وقال إنه مكلف من رئيس الوزراء بتحديد موعد كي ألتقي به بمنزله، سألته عما إن كان معي آخرون، فنفى ذلك، وسألته عن الأجندة فقال إن الرئيس لم يخطره بها. ذهبت في الموعد بالفعل، وتحدثنا زهاء الأربع ساعات في أشياء كثيرة، أهمها التحفظان اللذان ذكرتهما، عدم تكوين المجلس التشريعي وعدم تكوين مفوضية العدالة الانتقالية، وقلت له رأيي في أن الحكم الانتقالي لن يفلح في إنجاز أي شئ بدونهما، وعموماً تكلمت معه بصراحة في أشياء كثيرة جداً.

  • وهل فتح معك موضوع مفوضية العدالة الانتقالية؟

كما سبق أن أوضحت لك فإنني أنا الذي بادرت بلمس موضوعها لدى طرحي لوجهة نظري، حيث كان هو قد طلب في بداية حديثنا أن يسمع رأيي، فأكدت له ضرورة إنشاء مفوضية لها بأسرع فرصة، إذ بدون تصفية تركة الماضي المثقلة بالانتهاكات ستصبح تلك الانتهاكات «حِبناً»، ليس تحت إبط الفترة الانتقالية وحدها، بل وتحت إبط ما سيعقبها من فترات. لقد تكلمت بصراحة، وأعتقد أنه انتبه جيداً، واستمع باهتمام شديد.

  • هل تحدثتم عن تفاصيل حول إمكانية توليك للملف؟

لا لم يحدث. لكنني فهمت من ارتباط حديثه عن ابتعادي مع التركيز على موضوعة العدالة الانتقالية، أنه ربما يعني إمكانية تكليفي بهذا الملف، ولذلك رأيت من الأفضل أن أبادر بنفي ابتعادي كما يعتقد هو، فما من ثوري يرفض أداء خدمة تطلب منه للثورة. لكن التحفظ الوحيد الذي أبديته هو عدم استطاعتي العمل مع من لا تكون لدي رغبة في العمل معه! فأبدى تفهماً تاماً، وأكد أن ذلك مطلب عادل جداً.

 

  • متى كان ذلك اللقاء؟

قبل حادثة تفجير سيارته بحوالي شهر تقريباً.

  • ولم يحدث أي اتصال بعدها؟

بعدها اتصل بي الشيخ خضر مرتين أو ثلاث ولا أذكر الآن موضوع الاتصالات بالضبط، ولكن مؤخراً شرفني بالزيارة في المنزل وزير العدل نصر الدين عبد الباري بصحبة آخرين، ودار الحديث عن مشروع قانون للعدالة الانتقالية أطلعني عليه د. نصر الدين، طالباً رأيي فيه، ومعبراً، ربما بأكثر مما فعل د. حمدوك، عن الرغبة في أن أتولى المفوضية.

  • على ذكر القانون المجاز من مجلس الوزراء، ما هي قراءتك للقانون ومدى سداده في مخاطبة التعقيدات المذكورة؟

ثمة جانبان ينبغي أن نميز بينهما: فهناك جانب العدالة الانتقالية كمفوضية، ومؤسسة خدمية تشتمل على هيئات ولجان وموظفين بمرتبات وعمال بأجور ومتعاقدين لأداء مهام مؤقتة، واللوائح التي تنظم ذلك كله، وهناك جانب العدالة الانتقالية كمناهج تطبيقات فنية، قضائية وغير قضائية، من بينها جلسات الاستماع العمومية التي هي إحدى أهم هذه التطبيقات، واللائحة التي تنظمها، وأشراط اعترافات المنتهكين، وأسس الكشف عن الحقيقة، وعمليات الإنصاف، والقواعد التي تحكم المصالحات، والإصلاحات .. الخ.

 

  • إلى أين وصلت العدالة الانتقالية اليوم: القانون، تكوين المفوضية، لجان التحقيق، الخ؟

To no where، لم تصل إلى أي مكان بعد، والسبب أن هناك معاكسات ومعوقات لا حد لها على طريق عمل وزير العدل على هذا الصعيد.

 

  • هل هناك برمجة لسن القانون؟

لم ينعقد المجلسان، الوزراء والسيادي، لإجازته، ولا برمجوا للجلوس!

 

  • تحدثت عن إصلاح المؤسسات التي شاركت في الانتهاكات، ما هو المطلوب لإصلاح الأجهزة القضائية والعدلية عامة لإنفاذ العدالة الانتقالية؟

البعض، كالإمام الصادق، يفضل استخدام مصطلح العدالة الترميمية.

 ـ   (مقاطعة) هو حسب فهمي يشير بالعدالة الترميمية إلى restorative  justice ، أي العدالة التصالحية.

العدالة التصالحية ـ العدالة الإصلاحية ـ العدالة الترميمية، كلها مصطلحات تدور حول مفهوم العدالة الانتقالية التي تبدأ بالحقيقة truth، ثم تنتقل إلى الإنصاف equity، ثم المصالحة reconciliation ، وهذه، بدورها، ترتبط ارتباطاً لا ينفصم بترميم أو إصلاح المؤسسات التي قد تكون استخدمت في الانتهاكات، كمؤسسات الشرطة والأمن والقضاء والسجون وخلافه، لذلك فإن الاصلاح أو الترميم مسألة مهمة جداً للمصالحة التي لا تعني المصالحة مع نظام حكم معين، كما يعتقد البعض خطأ، بل مع التاريخ الوطني، والضمير الوطني، بالأساس، وهي العملية التي يستحيل أن تتم مع بقاء الجراح مفتوحة!

ـ تحدثت عن أهمية الإنصاف الغائب عن تجربة جنوب أفريقيا، ما هي أهم الدروس الأخرى التي يمكن أخذها من تجارب العدالة الانتقالية المختلفة؟

ثمة تجربتان أخريان في المغرب ورواندا. في رواندا أعتمدت تجربة الكاشاشا، وهي تقابل عندنا صوراً لثقافات أهلية مختلفة. صحيح أن الكاشاشا لم تكن كافية في رواندا، حيث أن بعض الجرائم كان لا بد من أخذها إلى شكل التقاضي التقليدي في المحاكم الجنائية، وقد أحيلت بالفعل إلى محكمة رواندا الجنائية المؤقتة بأروشا في تنزانيا، وما يزال ذلك العمل متواصلاً ولن ينتهي «بأخوي وأخوك»!

ـ (مستغربة) محاكم الإبادة في رواندا لا زالت تعمل وقد مر على الإبادة منذ        1994م 16 عاماً حتى الآن؟!

الواقع أن محكمة رواندا الجنائية المؤقتة بدأت عملها في أروشا بتنزانيا في منتصف 2012م. وفي نهاية 2014م طلب منها مجلس الأمن التجهيز لإنهاء متبقي عملها، وتسليم مسؤولياتها لما يعرف بالآلية الدولية لتصريف الأعمال. وبالفعل تم إغلاق المحكمة في ديسمبر 2015م، لكن الآلية الدولية صارت تتولى، منذ ذلك الحين، كمؤسسة مستقلة قائمة بذاتها، تصريف متبقي عمل محكمة رواندا، بما في ذلك استلام والبت في الاستئنافات المقدمة إليها، ولذلك أرى أن هذا العمل، خاصة مراحله الاستئنافية، لن ينتهي «بأخوي وأخوك»، رغم أنه في تناقص مستمر.

 

  ـ ما هي التجارب الأهلية في السودان التي تقابل تجربة الكاشاشا؟

لدينا في دارفور «الراكوبة» و«قعدة العنقريب»، وفي جنوب كردفان «مصماص المصارين»، وفي شرق السودان «القلد»، وهناك أيضاً تقليد محلي للصلح في أقصى الشمال لدى المناصير والنوبيين، حيث انتهاكات السدود «كجبار وغيرها». كل هذه الأشكال وغيرها يمكن استلهامها في تجربة سودانية للعدالة الانتقالية. وفي الذهن ضرورة ابتعاث موفدين إلى مختلف الجهات داخل وخارج البلاد للوقوف تفصيلاً على هذه الأشكال الثقافية. في الداخل لدينا على الأقل خمس مناطق أساسية لا بد من جمع ودراسة تجاربها بغرض إثراء التجربة العالمية. وقد سألت بروفيسور يوسف فضل حسن، وكان مديراً لمعهد الدراسات الإفريقية والآسيوية، عن أنهم يهتمون حتى بدراسة اللغة السواحيلية وغيرها، فلماذا لم يهتموا بتدريس الثقافات المحلية ذات الصلة بتطبيقات العدالة الانتقالية، وقد أبدى أسفه ووافقني في أهمية ذلك!

ولا بد أن أشير هنا إلى أن تجربة معالجة الانتهاكات في دارفور ألهمت الفنان التشكيلي أبو سبيب.

 ـ (مقاطعة) د. محمد عبد الرحمن أبو سبيب تشكيلي معروف له كتابات كثيرة نيرة، ومؤخراً ذاعت لوحته (صائدة البمبان)..

نعم، وقد انفعل بتطبيقات العدالة الانتقالية في دارفور، ورسم لوحة بارعة عن «قعدة العنقريب» أهداها لي، وهي معلقة الآن بمكتبي. لوحة جميلة جداً.

ـ جميل، لنعد الآن للحديث عن دروس التجربة المغربية؟

في المغرب يطلقون على فترة الملك الأب الحسن «سنوات الرصاص»، وبعد موته تولى العرش ابنه محمد السادس، فأقدم على أمر ربما كان نابعاً من إحساسه القوي جداً كشاب عاش ردحاً من الزمن في باريس، بجدوى الحداثة والتحديث، وهو عازف بارع لآلتي الجيتار والساكسفون، وحين صار ملكاً استجاب إلى حد كبير للمطالب الشعبية في بلاده بشأن الديمقراطية وحقوق الإنسان، وكانت أهم خطوة بدأ بها هي إقالة المسؤول الأساسي عن التعذيب والقمع، إدريس البصري، وطرده من الخدمة بل ومن البلد كله، فلجأ إلى باريس حيث قضى بقية عمره في مستشفى توفي فيه بالسرطان. فتح الملك الشاب باباً للعدالة الانتقالية التي يمكننا استلهام بعض تطبيقاتها، فمثلاً كانت لديهم منطقة «تازمامرت» التي اشتهرت كمنطقة «بيوت أشباح» قبيحة جداً، محفورة تحت الأرض، كانوا يعتقلون فيها الناس ويهملونهم هناك بالسنين الطويلة، حتى فاضت أرواح بعضهم هناك. هذه المنطقة حظيت ببعض تطبيقات العدالة الانتقالية حيث حولوها إلى منطقة «سياحة أمنية» إذا جازت التسمية! بسطوا فيها الحدائق، وأقاموا المصانع والمنشئات والمؤسسات التنموية وجعلوا أولوية التشغيل لأبناء وبنات المنطقة فصارت منطقة بديعة، وقد شهدنا تلاميذ المدارس في المغرب يزورونها ليروا الزنازين والحفر في شكلها المتحفي كنوع من التربية.

  • فكرة نيرة حقا..!

نعم، وقد زرنا هذه المنطقة، أنا وفيصل محمد صالح ومرتضى الغالي وآخرين، أثناء مشاركتنا في بعض مؤتمرات العدالة الانتقالية في المغرب، ونزلنا أدنى حفر الاعتقال تلك، ولو وصفت لك الآنية التي كان يوضع فيها الطعام والماء للمعتقلين، لشعرتِ بالغثيان «بطنك تقلب»، آنية صدئة «مطفقة» يأنف الكلب أن يمر قربها، ناهيك عن أن يأكل أو يشرب منها، ولطعات الغائط والدم والمخاط على الحائط، باختصار حفر قميئة تفوح منها رائحة الموت، وقد كتبنا وتحدثنا لاحقاً عن كل ذلك.

المؤسف بالنسبة لنا أننا لو أردنا تنظيم «سياحة أمنية» لتعطي مثل هذه الدروس، فسنفاجأ بأن أمنجية النظام البائد دمروا بيوت الأشباح، مثلاً، ولم يتركوا ما يمكن تحويله منها إلى متاحف!

 

نواصل بإذن الله

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى