الإعلام الانتقالي – معضلات التحرر ومعركة التحرير- الحلقة 8
وسائل التواصل الاجتماعية حافرة قبر الإنقاذ
د. وجدي كامل
دروس وعبر عديدة تصير في متناول اليد وقيد القيمة والفائدة من خلال ما تم من إثبات وتأكيد للعلاقة البنيوية المعقدة بين أداء وسائل الإعلام في الثلاثة عقود التي حكمت فيها الإنقاذ، وبين سياسات جهاز الأمن والمخابرات الذي وضع الإعلام المضاد للإنقاذ عدواً استراتيجياً وأداة في ذلت الوقت للتدجين الثقافي والاجتماعي، مما جعله قوة ناعمة خادمة لمصالح الكليبوقراطية السياسية.
لقد فعل الجهاز وعبر إمكانياته الاقتصادية المهولة كل شيء لمنع تسلل الأفكار المناوئة عبر أجهزة الإعلام الصحفية والتلفزيونية والإذاعية، كما اهتمت بإبراز ذلك الصفحات السابقة.
ولكن، ما لم يدر في خلد التفكير الرقابي وعقلية المكافحة كان شيئاً مختلفاً فاجأ العالم عبر نافذة تطور وسائل الاتصال بفضل الثورة التكنولوجية والمعلوماتية. فمن سوء حظ نظام الإنقاذ أنه جاء في حقبة من الزمان انهار فيها جدار برلين وكذلك الاتحاد السوفيتي، وأصبحت الولايات المتحدة الأميركية تمثل القطب الواحد الحاكم والناظم للسياسات في العالم. لكن التحدي الدقيق جاء إعلامياً عندما بدأ الانفجار المعلوماتي والمعرفي عن طريق الثورة التكنولوجية يصبح واضحاً معلناً بدء العمل بنظام الرقمنة والأسافير كفضاءات مفتوحة، لتتحقق نبوءة المنظر الإعلامي مارشال ماكلوهان (1911-1980) بظهور الإعلام الجديد، بحيث أصبح العالم غرفة بدلاً عن قرية واحدة.
صار محتوى وسائل الإعلام غير منفصل عن تكنولوجيا وسائله، وعلى الرغم من تأثر مراكز التفكير الإعلامي وإعلام الإنقاذ نفسه بالمتغيرات الدولية واتباعها طريق التطور التكنولوجي مكرهة، إلا أنها وفي نماذج بعض أكاديمييها من أمثال ياسر محجوب الحسين، تصف الإعلام الجديد بالزوبعة ومارشال ماكلوهان بالخطرفة. 16
بعد أقل من عقدين، صار في حكم المؤكد أن الميديا الجديدة باتت تمثل لشريحة الشباب النقيض المعرفي والمعلوماتي بالمقارنة بالإعلام المحلي المتمثل في الصحف والإذاعة والتلفزيون القوميين، وكذلك مجموعة القنوات الفضائية والمحطات الإذاعية المحلية الأخرى. وهنا ينشأ السؤال الحيوي المتعلق بـ (لماذا كفت تلك المؤسسات عن اجتذاب اهتمام هؤلاء الشباب ومزيد من الرأي العام المتابع؟).
لا شك أن المحتوى الإعلامي التقليدي والحكومي هو الذي دفع الشباب من الجنسين، وكذلك شرائح المعارضين السياسيين، إلى فضاءات الأسافير التي وجدوا فيها الحرية المفقودة، وما يلبي الاحتياجات التعبيرية لديهم بما يوفره من مواد ثقافية تعليمية وأفكار مغايرة تحفز الخيال وتحترم العقل بتلبية احتياجاته المتنامية مع تنامي عادة الاستهلاك المعلوماتي لديهم. وأمام ذلك المعطى، ظل ما يمكن تسميته بالعقل الإعلامي السوداني الرسمي في ظل حكم الإنقاذ أسيراً لقوالب روتينية مكررة تكاد لا تجد فيها أدنى متطلبات التطور والتحضر الراغبة في حيازتها هذه الشريحة.
غير أن المفهوم من المحتوى الإعلامي لا يعني الأفكار المنتجة في إطار الثقافة السياسية من حيث الموضوعات وكفى، وإنما في الشكل أيضاً. فالمعالجات الشكلية التي تجري في نطاقات القنوات التلفزيونية، وحين مقارنتها بالعربية أو بعض القنوات الأفريقية والغربية، صارت تبعث بالضيق والنفور على العين نتيجة لسببين: أولهما يشي بضعف في الأفكار الإبداعية لوضع المعالجات الإعلامية وضآلة حجم التجديد والإضافة بعد استخدام ملكة الخيال. أما ثانيهما فيتصل بفقر أصاب الميزانيات التي يتم توفيرها للتطبيق الإنتاجي بصفة عامة في شتى أنواع النشاط الإعلامي. فبانتشار الرأسمالية الطفيلية وعقلية التمكين الاقتصادية مفاهيم التكسب من غير صرف كافٍ بمصادر وملحقات الإنتاج الصحفي والتلفزيوني والإذاعي، كل ذلك ومع صعود خدمة الإنترنت قاد إلى أن يختار الشباب موقعة الإنترنت كوسيلة من وسائل إسقاط حكم الإنقاذ بتكثيف النقد والفضح باستخدام المنصات الإسفيرية لدعم حركات الاحتجاج الشعبي، رغم التحذيرات التي اعتاد على إطلاقها النظام وتهديدات جهاز الأمن والمخابرات بحجب الخدمة بقطع الإنترنت، وأحياناً بالرغبة في تشكيل مجلس للإعلام الإلكتروني، كما كانت فحوى تصريحات وزير الإعلام أحمد وقتها.
وهكذا أوصل تصاعد العمل المقاوم عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى الدعوة للعصيان المدني، مما أثار ردوداً انفعالية لدى رأس النظام في حشد جماهيري بكسلا، بأن حكومته لن تسقط عن طريق وسائل التواصل: “لن تسقط عن طريق الواتساب والكي بورد”. 17
يمكن التعرف، وبصفة مباشرة، بأن السياسات الإعلامية الأمنوقراطية لم تنتخب موقفاً نظرياً دون غيره في علاقتها بنظريات الإعلام ذات الصلة بتطبيق السياسات، بالقدر الذي تعاملت فيه مع نظريات إعلامية ثلاثة رائجة إلى روحها وموجهاتها بتناوب أحياناً وفرز مرحلي أحيانا، وبصفة جامعة في بعض الأحيان. فقد طبقت الإنقاذ منذ البداية نظرية (حارس البوابة) لكيرت لوين، والتي تجيز وتعني في عموم متنها التحكم في المدخلات والمخرجات بالسماح والحجب للرسائل الإعلامية، استناداً على تشريعات تصنعها وإجراءات تقرها. وقامت بضبط الخدمات الإعلامية الكلية في كافة الأجهزة على هذه النظرية بنحو غليظ وإقصائي لكل انتقادات تأتي من قبل الخصوم والمناوئين.
على أن هنالك تكتيكات أمنية اتخذت في بعض الأحيان، وهي السماح بنشر الآراء المعارضة، إما لإظهار مرونة مصطنعة حسب الضغوط التي تشنها المنظمات الدولية لمراقبة الأوضاع الإعلامية بأن يخدع الإعلام الإنقاذي بفرده وتخصيصه لمساحات للحريات الإعلامية، وبأن تلعب على فكرة الوقيعة والإيقاع للمعارضين بالدليل الثابت في نشر موادهم أو استضافاتهم لاستجوابهم بمكاتب الأمن والاعتقال السياسي لهم، دون استبعاد ممارسة تعذيبهم بالعبث بأجسادهم ونفسياتهم.
وفيما يتصل بتطبيق نظرية (الرصاصة) لهارولد لاسويل، المستخدمة إبان الحرب العالمية الثانية ضد الفاشية الهتلرية، وهي ذات ما جرى التعبير عنها بوصفها نظرية الآثار الموحدة بتشبيه الرسائل الإعلامية بالطلقات السحرية التي تصل كافة المجتمع أو المجتمعات بطريقة موحدة تخلق استجاباتها الفورية المتشابهة، فإن السياسات الإعلامية الأمنوقراطية قد لجأت ومنذ البداية باتخاذ تعريف ثقافي وديني يتصل بهوية واحدة أحادية مجتمعة خصت به كل المجتمعات السودانية. وعليه فإن طابع الرسائل السياسية المتخذة قد اعتبر تلك الوحدة الثقافية القهرية كقانون وصيغة لخلق الرسالة (الرصاصة) الواحدة لتصيب كافة المجتمعات عند إطلاقها لإنتاج الاستجابات المتشابهة، أو شديدة التشابهات في نتائجها.
هنا يتوجب التفسير بأن الإنقاذ، وفي سبيل بسط التحكم السياسي والأمني، قد استندت على عاملي التوهم والإيهام: توهم الذات وتسويق التوهم لخلق الإيهام للآخر. ولقد نجحت إلى حد بعيد في ذلك بصناعة هذا الغش داخلياً ومحلياً بأن سيطرت على وعي قطاع كبير وواسع من الوعي لدى الغبش والبسطاء الذين عادة ما كانت تستخدمهم في مناسبات المعارك والمواجهات عند الأزمات الداخلية كالحروب الأهلية. أما في ظروف الإدانة الدولية والمقاطعة، أو حتى مثال إصدار محكمة الجنايات الدولية بمحاكمة البشير، فقد صور الأمنوقراطية الإعلامية الأمر بالاستهداف لرمز تطبيق الإسلام في البلاد، وأن القوى الخارجية يزعجها التوجه الإسلامي للدولة والعباد، فتخرج المظاهرات المليونية للشجب ورفض القرارات والمواقف القانونية، دون إتاحة النافذة الإعلامية مفتوحة لتدفق ردود الرأي الآخر وتفنيد حججه في اتخاذ تلك المواقف.
أما العلاقة التطبيقية لسياسات الأمنوقراطية بنظرية إعلامية ثالثة، فقد تمثل في العمل بنظرية ما يعرف بالتلقيح أو التطعيم، عبر حقنه بمصل يحتوي على جرثومة ممثلة للمرض ليقوم جهاز المناعة باحتواء جرثومته وتصميم حالة من المناعة لمكافحتها، بحيث يصبح وفي الإصابة الجديدة بها (محدود الإصابة)، وهو الأقرب في التفسير حالياً بالتلقيح ضد (كوفيد 19) الذي يقوم على تطعيم الإنسان بمصل يحتوي على ذات الفيروس الناقل للعدوى والمرض.
هنا يلزم أخذ الفساد مثالاً حياً بتعميم الإنقاذ كممارسة شملت مختلف المجالات والأصعدة، من الخدمة المدنية والعسكرية إلى الخدمات والعلاقات التجارية، لينتشر كثقافة اجتماعية تصاب بها الغالبية، لتتكون بالتالي حالة من المناعة الطبيعية المتدرجة ضده كمرض أو جائحة، فتقل فرص الاحتجاج عليه والمناهضة له باعتبار أن الجميع فاسدون ومفسدون. هنا تتحول الرشوة إلى ممارسة تسهيلية، واللص إلى مستفيد وشاطر، والمخترق للقانون كـ (مجازف).
أما وفي إعادة إنتاج المظاهر السالبة إعلامياً عن طريق الأجهزة الإعلامية، خاصة التلفزيونية، فتقوم الفضائيات بنقل حفلات الزفاف أحياناً (برنامج كان يتم عرضه في قناة النيل الأزرق)، وبالتالي فهي تقنن للمعروضات الملبسية والسلوكيات المجتمعية ذات الحمولات العالية من ثقافة المظاهر الخادعة وثقافة الغناء الهابط. وليس من باب المغالاة ولكن من باب الاعتراف بالتماهي مع سياسات تسويق الفساد الثقافي إعلامياً، يوجه النقد هنا لوسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت ومنذ أوقات مبكرة من عمر الإنقاذ تنحو، وبشكل طبيعي ودون رعاية أمنوقراطية مباشرة، لأن تصير لاعباً متقدماً يساعد ويعين في ذيوع مثل تلك الثقافة الاجتماعية إعلامياً. ولا غرو هنا أن شاهدنا كبار اللصوص والمضاربين بالعملات وفاقدي الأهلية التربوية كنجوم مجتمع وأبطال اقتصاديين، أشار لهم الإعلام الأمنوقراطي بالبنان.
ولتنظيم وضع الملاحظات والتداخل الاستعمالي الذي قام بين الأمنوقراطية والنظريات الإعلامية المشار إليها من قبل، نستخلص أن السياسة الأمنوقراطية قد استخدمت وفيما يتصل بنظرية (حارس البوابة):
1- التحكم في العملية الإعلامية ومؤسساتها بتحكم تفصيلي في مصادر الخبر والمعلومة.
2- انتخاب المجتمع الإعلامي الموالي بتصنيف السِير السياسية واعتماد معياري الانسجام والتناقض على أساس الولاء والضدية السياسية.
3- التحكم في مدخلات ومخرجات المعلومات بواسطة نظام رقابي أمني صارم بفرض الرقابة على مصادر المعلومات واحتكارها، كما اتباع منهج الرقابة القبلية، واعتماد سياسة تكميم الأفواه عبر السيطرة الأمنية.
وفيما يتصل بنظرية (الرصاصة)، فقد اتبعت السياسة الأمنوقراطية:
1- سياسات تصميم الرسائل الموحدة ذات المصدر الأيديولوجي والتصور الواحد باعتبارها (طلقات).
2- مخاطبة المجتمعات السودانية قاطبة كمجتمع سياسي، وثقافي، وإثني، وديني واحد وليس متنوعاً، بتعريف الفرد المتلقي كونه واحداً عبر الرسائل المصممة.
3- استهداف التنوع الاجتماعي والثقافي بواسطة استخدام الرسائل كميكانيزمات الإزاحة والاستيعاب.
أما فيما يتصل بنظرية (التطعيم) أو (التلقيح) فقد عملت السياسة الأمنوقراطية على:
1- إغراق المجتمعات السودانية على تنوعها في ثقافة الفساد الإداري والأخلاقي الاجتماعي، بتكثيف وتكرار موجاته ونسخه، بحيث يغدو وبتكرار تناوله إعلامياً ضرباً من الاعتياد والإصابة سلبية النتائج.
2- إفساد الإعلاميين أنفسهم بالتجنيد ضمن كتائب الجهاز الأمني، وبتقديم الرشا لهم في شكل ترقيات وتسهيلات وحوافز وخدمات، خاصة أثناء الأعياد، كإهداء الخراف في أعياد الأضحية عبر مؤسسات إعلامية رمادية وسيطة ظلت تلعب دور المسوق الخفي والسمسار، فخلقت تلك الخدمات غير الحميدة استجابات سالبة لدى شرائح مقدرة من الإعلاميين ومنعهم من التصدي لقضايا الفساد وإخفائها أحياناً عن الرأي العام أو الدفاع عنها بالباطل.
3- زرع الإعلاميين الأمنيين داخل المؤسسات الإعلامية لإبطال مفعول الاحتجاجات، ونقل عدوى المزاج النقابي الثوري بين العاملين، وجعلهم حاجزاً بين العاملين والتعبير النقابي الثوري الرصين.
ـــــــــــــــــــــ
– ياسر محجوب الحسين – صحيفة الشرق القطرية – 14 أغسطس- 16
14- 17- عمر حسن البشير في مخاطبة جماهيرية بمدينة كسلا بتاريخ 12 ديسمبر 2018 – موقعا سودانيز أونلاين