الإعلام الانتقالي – معضلات التحرر ومعركة التحرير أهم خصائص سياسات الإعلام الأمنوقراطي 6
د. وجدي كامل
في سبيل دراسة وفهم وتحليل مكونات ومنطلقات أي ممارسة إعلامية، هناك أهمية قصوى لإعمال النظر والانتباه لملكية اقتصاداتها، في إطار تشكيلة الاقتصاد السياسي الذي يحكم. وهنا، من المهم الانتباه للخصائص الأكثر تأثيراً في تعريف الإعلام الأمنوقراطي، والمتمثلة في:
ملكية وتملك الاقتصاد الريعي ورموزه للمؤسسات الإعلامية:
يعد طابع تحكم ملكية الاقتصاد الريعي في المؤسسات الإعلامية من أهم خصائص إعلام الإنقاذ، ولسجلات ملكية المؤسسات الإعلامية أيلولة واضحة للتنظيم السياسي ذي التمكين الاقتصادي، ورجال أعماله الموالين. تحكم جهاز الأمن والمخابرات في ملكية عدد من المؤسسات بالتأسيس والرعاية والشراء، ظل خاصية لا تخطئها العين في مكونات الحياة الإعلامية الرسمية.
فإذا أخذنا السياسات الإعلامية وتداخلها مع السياسات الأمنية والثقافية على نموذج التلفزيون القومي، سنعثر على أن تطبيق ذلك عادة ما يكون بواسطة تعيين شخصيات قيادية تنظيمية أو موالية في نظرتها السياسية، بحيث تساهم في تصميم سياسات إعلامية منتجة لرسائل إعلامية ذات طبيعة ثقافية ومفاهيمية متصلة بنمط الإسلام السياسي: (الطيب مصطفى، محمد حاتم سليمان). بالإضافة إلى أن الطيب مصطفى يعد من الأصوليين المتطرفين في نظراتهم السياسية والثقافية، الذي ربما كان مستقوياً بعلاقة القربى بالرئيس المخلوع. فما أدخله من أهداف في مرمى تقاليد العمل التلفزيوني تاريخياً، يفوق ما يمكن أن يحرزه تنظيم سياسي بأكمله. ففي إدارته، لم تصب الأنشطة التلفزيونية بالدوار نظير استقرار الأفكار والمفاهيم والقيم السلفية، وانتصارها في حيز الإنتاج التلفزيوني. ولكن ثمة علاقة وطيدة ربطت بين فنيات إدارة المسجد وإقامة الصلوات والمؤسسة التلفزيونية.
لا تهيمن سلطة الريع على الإعلام بانفصال عن توظيف القوانين لمعاقبة ومحاسبة (المتجاوزين) بسن القيود، (من القيود المباشرة التي تضعها السلطة السياسية على حرية الرأي واستقلال وسائل الاتصال، عرقلة الحريات التي تمنحها قوانين بنصوص مقيدة في قوانين أخرى. فالقانون الجنائي السوداني لعام 1991 م يشمل الباب الخامس منه على (8) مواد خاصة بالجرائم الموجهة ضد الدولة، وطبيعة مثل هذه الجرائم موضوع خلاف بين السلطة السياسية الحاكمة ومناوئيها. وكذلك اشتمل الباب السادس من ذات القانون على (6) مواد تتعلق بالجرائم الخاصة بالقوات المسلحة والنظامية، فطبيعة العمل العسكري المتعلق بالفعل السياسي تجعل الخيط واهناً بين الخيانة والوطنية، حسب نجاح مثل هذا الفريق على حساب الآخر أو فشله. 16
مكافحة الشفافية في الخبر والمعلومة:
يجري تعريف الشفافية الإعلامية بأنه العمل بمفهوم وآلية نقل وتدفق المعلومات عن طريق وسائل التواصل المتعددة، بحيث تعكس الأنشطة والأحداث وكافة الفعاليات من اجتماعات وما وراء صناعة القرار، من داخل غرف السلطة.
وبالنظر إلى واقع العملية الإعلامية نجد أن السياسات الأمنوقراطية الإعلامية، وفي سبيل الدفاع عن ما وصفته أستاذة الاقتصاد، والباحثة الاقتصادية، سبنا إمام، بمحاضرة لها على اليوتيوب بـ (سلطة المصالح المتجذرة) 17. اتخذت موقفاً مناوئاً إزاء تدفق المعلومات والأخبار من مراكز القرار، يمنع تدفقها ولا يساعد على الكشف عنها، مما خلق مكافحة واضحة واستراتيجية وخرقاً لمبدأ الشفافية. من ذلك، نعثر على تشدد التشريعات والقوانين لمقاومة الشفافية، ليتمثل ذلك في التغطية على الفضائح المالية، وقضايا الفساد، والحروب الأهلية، والقتل خارج القانون، والانهيارات الاجتماعية بسبب الفقر والفاقة.
ومن المهم هنا ذكر أن العمل بتلك السياسة ساهم في نزع الثقة بين المواطن والدولة، مما جعله يلجأ إلى المصادر الخارجية الدولية والإقليمية للتعرف على ما يجري في بلده. ويكفي الاستدلال بأن كل المعارك الحربية والاحتجاجات الشعبية وشن المواجهات بالسلاح على المواطنين العزل طيلة حكم الإنقاذ، لم تتعرض لها وسائل الإعلام الحكومية، ولم يتمكن الصحفيون من التعرض لها من وجهة نظر مستقلة: (حرب الجنوب، حرب دارفور، أحداث كجبار، احتجاجات سبتمبر ٢٠١٣).
أما فيما يتعلق بالكشف عن الفساد، فقد تصدى له عدد من الصحفيين الذين واجهوا جراء النقد والمطالبة بالشفافية مصائر مجحفة.
التركيز على إعلام الإثارة:
وبالنظر إلى محتوى الصحافة الورقية والبرامج التلفزيونية في القنوات الفضائية، واستناداً على قوانين كقوانين النظام العام والأحوال الشخصية الذي ينتهك حقوق النساء، صار من الملاحظ أن الناتج من تطبيقات قوانين كتلك قد رسخ لإعلام الإثارة والفضائح، بوجود صفحات في الصحف عن كل ذلك. كما تم التركيز على الجريمة الاجتماعية بالنحو الذي جعل المحتوى الإعلامي يخوض في الأعراض والخصوصيات الاجتماعية للمواطنين.
يمكن القول إن العمل بمعايير الانتقاء قد ساد السياسات التحريرية لإعلام الإثارة، بالتركيز على أخبار الفضائح الاجتماعية وسمعة الناس، قياساً بالصمت عن جرائم الأجهزة الشرطية والعسكرية والمجتمع السياسي الحاكم المحصن بقوانين الحماية البنيوية، بتمكين لحق بمؤسسة القضاء والعدالة التي صارت مصممة على لعب دور محامي الشيطان.
التشجيع وإنتاج إعلام الكراهية وبث الفرقة:
رمت السياسات الأمنوقراطية بنحو خاص إلى تقسيم المجتمعات السودانية، عبر إحياء القبلية، وعدم نبذ الفرقة بين مكونات القبيلة الواحدة. كما تم الترويج لثقافة العنصرية القائمة على المصدر الإثني والديني والثقافي واللوني، بحيث مثلت السياسات الإعلامية ترجماناً وداعماً لها بالنحو الذي ساهم في إيقاظ الفتنة عبر: النكتة، الأغنية، الفكرة الإعلامية، المظهر في الشاشات التلفزيونية.
وقد وثقت كاميرات الموبايلات لكثير من الخطب للشخصيات الرسمية القيادية، وهي تدعو للكراهية والعنصرية والقتل خارج القانون.
تثبيت الموقف التحريضي المضاد للأحزاب والقوى السياسية المعارضة:
وفي سبيل الحفاظ على النظام الكليبتوقراطي، استهدفت السياسات الأمنوقراطية الأحزاب عبر شراء الذمم ونشر الفتن داخل أبنيتها بغرض تقسيمها، فلعبت السياسات الإعلامية دور المحرض ضد الأحزاب المعارضة ومنظمات المجتمع المدني، عبر صناعة الأخبار المضادة الزائفة لخلق صورة ذهنية سالبة عنها، وتصوير رجالها ونسائها كخونة فاقدين للأهلية الوطنية وغير جديرين بها. واتخذت اللغة الإعلامية هنا مصطلحات ومسميات روتينية نمطية، كالطابور الخامس، ومعارضة الخمسة نجوم، وغيرها، حتى باتت مفهوماً لدى المواطنين البسطاء وشرائح الغوغاء الذين احترفت السياسات الأمنوقراطية الإعلامية إنتاجهم بدرجة منتظمة ومتفاقمة.
الإحجام عن نقل الأحداث بشهودها الحقيقيين من الهوامش وتكريس المركزية الإعلامية:
انحازت السياسات الإعلامية للإنقاذ، في معاداة نقل الحدث على الأراضي السودانية وتكريس المركزية، بالرغم من التطور الأفقي لإعلام الولايات وظهور قنوات فضائية خاصة بها. فالحكومة المركزية لم تستهدف تنمية الإعلام الولائي من خلال إنشاء القنوات، بالقدر الذي رأت فيها مشروعات استثمارية موجهة لأبنائها المغتربين والمهاجرين، والاستثمار في مادة الحنين للأصول الجغرافية، فأصبحنا نشاهد مواد وبرامج أقرب للمواد السياحية الترويجية الدعائية، كما البرامج سيئة الإعداد والتقديم والإخراج بسبب ضعف التدريب للكوادر الولائية، أو هروب القدرات الأدنى مهنية إليها في ظروف المنافسة المهنية الحادة في القنوات الرئيسية في المركز والولايات والأقاليم، وبما تشهده من أحداث واقعية ومعاناة على الأرض، لم تكن جزءاً من مهام هذه القنوات بسبب تبعيتها للحكومات الولائية، والعمل على سياسات تمكينها، رغم الحروب والفاقة والمرض الذي يتفشى في أنحائها.
التحريض على تعميق الفروقات الطبقية:
سعت وتسعى أغلب الفضائيات التلفزيونية في الأداء الإجمالي للشاشة، إلى استخدام الدعاية كوسيلة تبدو ذات أغراض تنزع للترويج التجاري للموضوعات الإعلانية. ولكن، وبالتمعن في الكثافة الإعلانية ذات المخاطبة المباشرة للأوضاع الاقتصادية للناس، واستفزاز مشاعر الفقراء، بهيمنة الإعلانات البنكية، وسيطرة رعاياتها للبرامج والنشرات، واستخدام المذيعات ومقدمات البرامج على شاكلة من المظاهر النمطية في ظهور درجات معينة من البشرة، والترويج لسبل تغيير الألوان، وقلة تمثيل المذيعات من ذوات البشرة السوداء، نستطيع التأكد من سيطرة ذائقة ثقافية وطبقية واثنية بنحو طاغ ومهيمن.
بالإضافة للخصائص سالفة الذكر، التي وبلا أدنى شك، أورثت رأياً عاماً مصاباً بالكثير من الأمراض المزمنة، في مقدمتها الانقسام المجتمعي والسياسي والثقافي والمعرفي والطبقي، فإن القابلية لرعاية الفتنة وتربية سوء الظن الوظيفي بين التيارات المتنوعة للرأي العام، قد أفصحت عن سيطرة آليات القمع الاقتصادي، والحروب الفيزيائية والنفسية التي ضلعت في إدارتها الجهاز الأمني للنظام السياسي والاقتصادي الطفيلي، ليتمكن من تصميم المقابل لها من سياسات إعلامية بغرض صرف الأنظار عن واقع الدمار الماثل أمام أعين الجميع.
ولا شك كذلك، أن مجمل السياسات الأمنوقراطية الإعلامية رمت إلى تخويف الرأي العام بالتكثيف من جرعات تضخيم أخبار ومعلومات الدولة الباطشة الغارقة في خرق العدالة المنتهكة لحقوق الإنسان، في كافة المجالات. فلم يكن ثمة مجال لرأي ورأي آخر، أو إفساح حريات لنقد أداء الدولة الاقتصادي أو الأمني بمواجهة وحماية شخصية أحياناً من رأس النظام.
وهنا يلزم التذكير بوقائع اختفاء عدد من الناشطين، وعدم معرفة مصائرهم حتى اللحظة، بسبب أنشطتهم المعارضة. أما، وفيما يتصل بوقائع التحريض بإيقاع الأذى على الصحفيين، فنذكر ما وقع من اعتداء جسدي على الصحفي عثمان ميرغني، مالك ورئيس تحرير صحيفة التيار، وما عرف من دوائر أمنية وسياسية ضيقة، أن المحرض الفعلي على ذلك كان رئيس الجمهورية، بما يملكه من كتيبة خاصة للتأديب الجسدي للمخالفين.
———————————
16- هاشم الجاز- الإعلام السوداني ص 109
17- سبنا الإمام – محاضرة في قناة سودان بكرة على اليوتيوب بتاريخ 19 أغسطس 2021 م
يتبع…