الرأي

أَيُعِيْدُنِي لِلْشَعْرِ مَوْتُكَ المَنْثُور؟!

كمال الجزولي

الإثنين
في الثَّاني من أغسطس 2011م، نشر علاء الاسواني مقالة بعنوان «كيف تقضي علي الثَّورة في ستِّ خطوات!» نعيد نشر ملخص لها، هنا، للذِّكرى والتَّاريخ:
[أيها الجنرال؛ بعد ان فاجأتك الثورة، واضطرتك لخلع رئيسك، لا تخف .. فقط قم بالخطوات الآتية:
أولاً: أعلن إدانتك للعصر البائد. أنت، طبعاً، متعاطف مع المخلوع، لكن يجب أن تلعنه وتهتف بحياة الثورة! سيصدقك النَّاس لأنهم أقرب إلى تصديق ما يتمنون! لن يفكروا فى ملازمتك للدِّكتاتور دون أن تعترض، ولو مرة واحدة، على جرائمه! لا تسرف فى لعنه حتى لا تثير الشكوك، لكن احتفل دائماً بالثورة. يجب أن ينام المواطنون ويستيقظوا على أناشيد الثورة، ليشعروا بنجاحها، رغم أنها لم تحقق ولا هدفاً واحداً!
ثانياً: إياك والخضوع لمطالب الثوار. في البداية سيضغطون عليك. انتظر حتى تصل ضغوطهم ذروتها، ثم قم بتغيير صغير لا يمس قواعد النظام القديم. السفينة، عندما تشرف على الغرق، يلقى ربانها إلى البحر بالأشياء الثقيلة. لذا اختر بعض الرموز المكروهة وقدمهم للمحاكمة. لكن اجعل محاكمتهم بطيئة، معقدة، كثيرة الإجراءات، حتى ينسى الناس الغرض منها! إشرح للمقبوض عليهم أن القصد مجرد امتصاص غضب الشعب. إنهم جنودك المخلصون. لو فرطت فيهم ستجد نفسك وحيداً بلا سند. القاضي الفاسد الذي تملى عليه الأحكام بالتليفون، ووكيل النيابة الذى يفسد البينات حسب طلبك، والمذيعة التي تتلقى تعليمات الأمن قبل التصوير، وضابط الشرطة الذي يعذب ويقتل دفاعا عن النظام القديم .. إياك أن تضيعهم من يدك!
ثالثاً: أترك أحوال البلد تتدهور حتى تصل إلى الحضيض، فالمجتمع كان منقسماً إلى ثلاثة أقسام: المستفيدون من النظام؛ والثوريون، والناس العاديون. الثوريون كانو قلة، وتأثيرهم ضعيفًا، لأنهم كانوا مقموعين. أغلب الناس العاديين كانوا متضررين من النظام، لكنهم لم يكونوا يملكون شجاعة الاعتراض. حدثت الثورة عندما نجح الثوريون فى إقناع الناس العاديين بالانضمام إليهم. لذا يجب أن تضغط على الناس العاديين حتى يعودوا إلى مقاعد المتفرجين! كيف؟! بالأزمات! يجب أن تتفاقم الأزمات! الفلاحون والعمال يجب أن يعانوا! الموظفون ينبغي أن تتأخر رواتبهم! الشرطة يجب أن تختفى، لتنتشر البلطجة، والسرقات، والاعتداءات. عملاء الأمن يجب أن يعطلوا مرافق الخدمات. عملاؤك فى الإعلام يجب أن يروعوا الناس، ويضخموا الأزمات، ويلصقوا كل المشكلات بالثورة، حتى يرسخ فى الأذهان أنها سبب الغلاء والفوضى.
رابعاً: الثوريون هم أعداؤك الحقيقيون، فشق صفوفهم، وتحالف سراً مع فريق ضد الآخر. ويفضل أن تتحالف مع الفاشية الدينية ضد الديمقراطيين. الفاشيون يعتقون أنهم يمتلكون الحقيقة الكاملة، فيحتقرون المختلفين معهم. لذا سيضعون أنفسهم تحت تصرفك، فيسحقون كل من يخالفك، ويؤيدون كل ما تفعل وتقول! هؤلاء الفاشيون الذين يتحدثون باسم الدين سيدهشونك بقدرتهم على الكذب والنفاق! أطلب منهم استعراض قوتهم بمظاهرات ضخمة، يشاهدها المواطنون فيصابون بالفزع، ويتشكَّكون في ما إن كانت الثورة، حقاً، عملاً صائباً! إذا نجحت فى ذلك سيصبح الثوريون محاصرين. الفاشيون يعتدون عليهم، والعاديون يعتبرونهم سبب الأزمة. عندئذ سيعودون، كما كانوا، قلة متحمسة!
خامسا: نظم، بعد ذلك، حملة واسعة لتشويه سمعة الثوريين، رجالاً ونساءً، عن طريق أتباعك فى الإعلام، والوسائط، والشرطة، والقضاء. من السهل تلفيق الاتهامات، والوثائق، والصور، والمستندات. يجب أن تسجل عشرات البرامج، وتعقد عشرات الندوات، لمناقشة ما إنْ كان الثوار وطنيين، أم عملاء، وما إن كانت الثورة وطنية، أم مدبرة من الخارج؟! سيؤيدك الفاشيون بقوة، وسيكذبون لتشويه الثوريين، وسيصاب العاديون بالاضطراب، حيث سيصدق الكثيرون هذه الأكاذيب، وستضحك طويلاً حين ترى اتهامات العمالة تلاحق شباب الثورة الذين كان يُنظر إليهم كأبطال!
سادسا: وجه ضربتك القاضية، فعندما تسوء الأحوال بشدة، ستنهار معنويات الناس، ويكرهون الثورة. عندئذ صارحهم بأن الأزمة طاحنة، وأن عليهم أن يوقفوا المظاهرات والاعتصامات حتى تدور عجلة الإنتاج. بالطبع لن يقبل الثوريون، وسيشعرون بأنك خدعتهم، وسرقت الثورة، بعد أن تظاهرت بحمايتها، في حين أنك، فى الواقع، احتويتها، وعطلتها عن تحقيق أهدافها، فينزلون بأعداد قليلة، ويهتفون بسقوطك. ساعتها ستكون نهايتهم. سيعتدى عليهم الفاشيون بشراسة. وسيشعر العاديون بالضياع، وسيلعنون الثورة. طبعاً سيحاول الثوريون توضيح الحقيقة، لكن دون جدوى، فلا أحد سيسمعهم! الفاشيون سيتهمونهم بالفساد، والعاديون سيحملونهم مسؤولية الفقر والفوضى. إبعث من يصور لك ما يحدث فى الشوارع، لترى من كانوا مستعدين للموت فداءً للثورة، يطاردون الثوريين في كلِّ مكان. عندئذ تكون قد نجحت، ويحق لك الاحتفال بقضائك على الثورة!]

الثُّلاثاء
حتَّى لو لم يكن حمدوك قد أعلن حكومته الجَّديدة، فإن البرهان لم يكن يملك أيَّ حق دستوري للتَّهديد بتشكيل ما أسماها «حكومة طوارئ»، إلا إذا كان «يتلمَّظ» بارتكاب انقلاب عسكري! ونستخدم مفردة «ارتكاب»، لكون الإنقلاب «جريمة» لا تسقط بالتَّقادم! ولا نقول ما نقول إلا بسبب السُّلوك السِّياسي للبرهان ورهطه. فلئن كان هدف «العدالة الجَّنائيَّة» قطع الطريق أمام «تكرار الجَّريمة» مستقبلاً، فهل، تراه، صديقنا السِّر الحبر مطمئناً إلى أن أداء ديوانه، في ما يليه من محاكمة الانقلابيِّين، سيحول، مقدار قلامة ظفر، دون «تكرارها» مستقبلاً؟!

الأربعاء
في المؤتمر الصَّحفي للحزب الشِّيوعي، بمركزه العام، حول الميزانيَّة الجَّديدة، كشف صدقي كبلو عن مسألتين في شأن رفع الدَّعم، تستدعيان ألا تكتفي الحكومة بموقف الصَّمت حيالهما، فإمَّا أن تنفيهما أو تؤكِّدهما: الأولى تتعلق بلجنة كانت الحكومة كوَّنتها للبتِّ في رفع الدَّعم عن السِّلع الأساسيَّة، فجاء قرارها برفض هذا الإجراء، ومع ذلك لم تلتزم الحكومة بقرار «لجنتها» تلك، بل ولم تعلنه! أمَّا المسألة الأخرى فأخطر، إذ تتعلق باتِّخاذ الحكومة موقفاً غريباً جدَّاً ضمن مفاوضاتها مع صندوق النَّقد الدَّولي، فالصُّندوق كان «أرأف» بشعبنا منها، إذ أبدى إشفاقه من ألا يستطيع تحمُّل «رفع الدَّعم»، كون البلاد خارجة للتَّو من أزمات النِّظام البائد، لكن الحكومة أصرَّت على «الرفع» .. انتهى حديث صدقي؛ فما تقول الحكومة؟!

الخميس
ها أنا أحسُّ دبيب القوافي، يا حبيبي، في الشَّرايين، فهل تُراه يعيدني للشِّعر موتك المنثور، يعيدني فنجانك المكسور للقهوة الباردة، أنا الذي اعتدتُّ انتظار زيارتك الرَّاتبة لي، بفارغ الصَّبر، مساءات الجُّمع، تضطَّجع على أريكة وأضطَّجع على أخرى، وبيننا، في «زمن التَّداعي» هذا، طيوف الأحبَّاء الرَّاحلينَ، بيننا دوارق الشَّاي والقهوة ـ تحبُّ القَّهوة، كنت، جدَّاً ـ ونحكي، نتسامر، حتَّى تستبين الخيوط البيضاء من السَّوداء من فجر كلِّ سبتٍ، بصنوف من شجن المشيب، من خزين الأدب والشِّعر، من سلاسل مغيب العمر، من ذكريات الصِّبا الأوَّل، من سيرة اتِّحاد الكتَّاب، من عجين الثَّورة والثُّوار، ومن أحوال البلد وناسها، ما استجدَّ، وما لم يستجدُّ، في كلِّ الزَّوايا. ليس أمتع من قصِّك على حزنه، ولا أحلى من شعرك على مرارته، ولا أعذب من نسجك البارع للحكايا. ودائماً ما كنت تبتدرني، يا حبيبي، بالسُّؤال الحميم عن الرفاق والصِّحاب، من شتَّتتهم متاعب الأرزاق، والهموم، في عرصات المدينة، أو بعثرتهم وقائع الجَّسارة والنِّضالات العنيدة في المنافي البعيدة! واليوم كرَّستُ، كالعادة، طاقتي كلها، كي أفرغ من أخر لمسات هذه الرُّوزنامة كي أكون على أهبة استقبالك مساء الغد؛ فإذا بجرس الهاتف يرنُّ، وإذا بمامون الباقر يصرخ، كمن غاص نصل، بغتةً، في قلبه، ينقل ليَ الخبر الشُّؤم! كتمتُ، بالكاد، صرختي بدوري، إشفاقاً على فائزة وهي تغطُّ في إغفاءة المغرب بعد أن عادت، مرهقة، من الجَّامعة. وحين نظر ولدي أُبي، من خلف مقود السَّيارة، ورأى، على جبيني، ظلال الرِّيب، وفي عينيَّ غمائم الظنون، وهو يأخذني مع عمِّه بشير عبد القيُّوم إلى بيتك، حيث كان العنقريب يُجهَّز، والجَّنازة تُغسل، والحنوط يعبق، أحبَّ يخرجني من بلبلة الشَّكِّ، ويدخلني في سكينة اليقين، فربت بكفِّه على كفي، يبذر كلماته، في حنوٍّ، خلف أضالعي: «لن يأتي غداً، يا أبي، بل لن يأتي في أيَّة جمعة قادمة، لقد مضى بعيداً .. بعيداً، أبعد مِن أن يضمُّه كابوس، أو تحتويه فاجعة»! وما لبث الخبر أن سرى في الأسافير، فتهاطلت التَّعازي، عبر الهواتف، حتَّى ونحن لمَّا نزل في الطريق إليك. وهزَّني بقوَّة، من بينها، عزاء أميرة الجِّزولي حين تهادى إليَّ، وهي لا تني تنشج كمداً، وتنتحب حنظلاً: «كنَّا نجده بيننا، دائماً، وكان كثيراً ما يردِّد لي، يا كمال، إنَّك أخوه الذي لم تلده أمُّه»!
اللهم أنزل نوراً منك على عبدك مبارك بشير؛ واشمله، يا ربُّ، بواسع رحمتك، وغفرانك، واجمعنا به في سوح عفوك ورضوانك؛ وألق على نفوسنا المضطربة، لفقده، السَّكينة؛ وأثبه، يا ربُّ، وأثبنا فتحاً مبينا، واكتبه عندك في الصَّالحين، والصِّدِّيقين، والشُّهداء، والأخيار، والأبرار؛ وهب أولاده، وأهله، ورفاقه، وأصدقاءه، وتلاميذه، وجيرانه، وهبنا، يا ربُّ، في غيابه، جميل الصَّبر والسُّلوان؛ إنا لله وإنا إليه راجعون.

الجُّمعة
لكأن القائد الطاهر أبوبكر حجر، رئيس تجمُّع قوي تحرير السُّودان، وعضو المجلس الرِّئاسي للجَّبهة الثَّوريَّة، وعضو مجلس السَّيادة لاحقاً، كان مستغرقاً في نومة أهل الكهف، فلم يسمع بأن أهل النِّظام البائد حاولوا، بأيديهم وأرجلهم، دون جدوى، ادِّعاء القدرة على محاكمة جرائم دارفور منذ العام2003م! فالقائد المحترم استيقظ، في ما يبدو، فجأة، ليعلن عن وجوب تأسيس محكمة خاصَّة بجرائم دارفور منذ العام 2002م!
الإنقاذ كانت أكثر تواضعاً منه عندما أعلن وزير «عدلها» نائبها العام عن تعيِّين مدَّعٍ عامٍّ، ابتداءً، لدارفور، قبل أن يعلن رئيس «قضائها» عن تكوين محكمة تختصُّ بجرائم الإقليم. يومها سعينا لإفهام أولئك النَّاس، لولا الصَّناجة وقوَّة الرأس، أنهم لم يكن بإمكانهم محاكمة مرتكبي تلك الجَّرائم، لسبب بسيط لا يحتاج إلى درس عصر، هو افتقار القانون الجَّنائي السُّوداني، خلال فترة الجَّرائم، لعناصر القانون الجَّنائي الدَّولي، فلا مهرب من تسليم أولئك المتَّهمين لجهة الاختصاص، وهي الجَّنائيَّة الدَّوليَّة، أو القـبول، على الأقل، بتشـكيل محكمة هجـين hybrid تطـبِّق القانون الجَّنائي الدَّولي!
لكن أهل النِّظام البائد سدُّوا أذناً بطينة، وأخرى بعجينة، فوقعوا على زمِكِّهم، فكسروه! وها هو القائد حجر، أيضاً، لا يسمع الكلام، ويصرُّ، في ما يبدو، على المضيِّ قدماً بنفس الطَّريق المسدود، ونخشى أن السَّايقة .. واصلة!
ثمَّ إن اشتمال خطاب حجر على قضايا المساءلة، وجبر الضرر، والتعويضات، والمصالحات، دون أيَّ ذكر لمشروع «العدالة الانتقاليَّة»، يعني اجتزاء هذه القضايا من سياق هذا المشروع، على غرار نفس ما تمَّ من إشارات لبعض هذه القضايا، مجتزأة من نفس هذا السِّياق، أيضاً، ضمن «سلام جوبا»! مثل هذا الطرح من شأنه أن يطوِّح بمشروع «العدالة الانتقاليَّة» نفسه خارج سياق التَّرتيبات التي لا يمكن بدون مراعاتها استكمال مهام الثَّورة المجيدة!

السَّبت
رغم تعدُّد «الغرائبيِّات» التي وسمت بعض جوانب التَّشكيل الوزاري الجَّديد، إلا أن تولية مريم الصَّادق، عضو كيان الأنصار، ونائبة رئيس حزب الأمَّة، على منصب وزيرة «الخارجيَّة»، في هذا الوقت بالذَّات، يكاد يكون «الغرائبيَّة» الأخطر، بالنَّظر إلى حقيقتين أساسيَّتين متشابكتين: الأولى هي أن الملف الرَّئيس الذي ستجده، حتماً، على منضدتها، من أوَّل صباح لها بالوزارة، هو ملف «تطبيع» علاقات السُّودان «الخارجيَّة» مع «دولة» إسرائيل، كخامس حالة على هذا الصَّعيد، بعد حالة مصر (1979م)، وحالة الأردن (1994م)، وحالتَي الإمارات والبحرين (2020م)! أمَّا الحقيقة الثَّانية فهي الموقف المعلن، إزاء هذا الملف، من جانب حزب الأمَّة القومي، وكيان الأنصار، فضلاً عن الإمام الصَّادق المهدي شخصيَّاً، عليه رحمة الله ورضوانه؛ وهو ما سيعرِّض مريم للمفاضلة، أرادت أم لم ترد، بحسبان وضعها في كلٍّ من الكيان والحزب، بين أمرين أحلاهما مرٌّ: فإمَّا أن تستقيل، بعد مدَّة قصيرة من إمساكها بحقيبة العلاقات «الخارجيَّة»، أو أن تواصل أداء دور مستحيل أشبه ما يكون بدور «دكتور جيكل ومستر هايد» في فيلم الرُّعب الشَّهير المأخوذ عن رواية الأديب الاسكتلندي روبرت لويس ستيفنسون!
وكيما نستوثق من أبعاد هذه «الغرائبيَّة»، يتعيَّن أن نستصحب التَّفاصيل الآتية:
(1) أكَّد عمر قمر الدِّين، وزير «الخارجيَّة» المكلف، حسبما نقلت وكالة سونا الرَّسميَّة للأنباء، في 23 أكتوبر 2020م، صدور القرار الحكومي الانتقالي بـ «الموافقة» على «التَّطبيع» مع إسرائيل. ومعلوم أنه، وإلى حين مصادقة الأجسام التَّشريعيَّة على القرار، يبقى ملزماً، وواجب المراعاة، سياسيَّاً، من مؤسَّسات الدَّولة كافَّة، وأوَّلها «الخارجيَّة».
(2) من تلك اللحظة، وحتَّى وفاته، ظلَّ الصَّادق المهدي، رئيس حزب الأمَّة، وإمام كيان الأنصار، ووالد مريم نفسها، هو الأكثر تشدُّداً في رفض القرار، ابتداءً من بيانه الصَّادر في اليوم التَّالي، مباشرة، 24 أكتوبر 2020م، والذي اعتبر فيه أن «التَّطبيع يناقض الموقف الشَّعبي، والمصلحة الوطنيَّة العليا، ويساهم في القضاء على مشروع السَّلام في الشَّرق الأوسط، ويمهِّد لإشعال حرب جديدة، كما وأنه يتجاوز صلاحيَّات سلطة الفترة الانتقاليَّة»! ثمَّ أضاف إلى هذا الاحتجاج الفكري موقفاً عمليَّاً تمثَّل في انسحابه من المشاركة بورقة كان قد وعد بتقديمها في مؤتمر لوزارة الشُّؤون الدِّينيَّة والأوقاف! ولا شكَّ في أن صدور هذين التَّعبيرين الصَّارمين، فكريَّاً وعمليَّاً، من شخصيَّة شديدة التأثير كالإمام الصَّادق، من شأنه أن يعرِّض بالسُّلطة الانتقاليَّة تعريضاً غاية في المرارة! وكان قد سبق للإمام نفسه أن وصف إسرائيل بأنها «دولة غير طبيعيَّة وشاذَّة»، كما وصف «التَّطبيع» بأنه «لا صلة له بالسَّلام .. بل هو (اسم الدَّلع) للاستسلام»، مشدِّداً على أن «الموقف من القضيَّة الفلسطينيَّة تحدِّده عوامل التَّضامن العربي والإسلامي».
(3) ولأن أحداً لا يستطيع، بحكم وضعيَّة الإمام في الحزب والكيان، أن يحبس تعبيراته القاطعة هذه في حيِّز موقفه الشَّخصي، فقد جاءت منسجمة، تماماً، في ذات سياقها، تصريحات محمد المهدي حسن، رئيس المكتب السِّياسي للحزب، وأحد أبرز رموز الكيان، حيث أكَّد، بحسب العديد من المصادر الصَّحفيَّة والإعلاميَّة، أن موقف الحزب المبدئي هو رفض التَّطبيع الذي يُعتبر، أصلاً، غير مقبول في البلاد. وبنفس القدر أعلنت «هيئة شؤون الأنصار» رفضها القاطع للتَّطبيع.
(4) جاء التَّأكيد على ذلك، عمليَّاً، ضمن الموقف الذي اتَّخذته «وزارة الشُّؤون الدِّينيَّة والأوقاف»، برفض المشاركة في فعاليَّة نُظمت بالخرطوم لدعم «التَّطبيع»، تحت عنوان «الملتقى الأخوي الأوَّل للتَّسامح والسَّلام الاجتماعي»! فبحسب تقرير إسرائيلي من «هيئة البثِّ الرَّسميَّة ـ النُّسخة العربيَّة»، في 7 فبراير 2021م، أشرف على تنظيم الملتقى أبو القاسم برطم، رجل الأعمال والبرلماني السَّابق، بمشاركة شخصيَّات حكوميَّة وغير حكوميَّة داعمة لقرار «التَّطبيع»، بالإضافة للحاخام ديفيد روزين، من القدس، والأسقف انغبورغ ميدتوم، من النرويج، ومصطفى أبو صوي من جامعة القدس، وذلك عبر دائرة تلفزيونيَّة مغلقة! غير أن كيان الأنصار المعني، دينيَّاً، بالملتقى، أعلن رفضه المشاركة فيه. كما أعلنت «وزارة الشُّؤون الدِّينيَّة والأوقاف» التي ينتمي وزيرها إلى الكيان والحزب، رفضها، أيضاً، المشاركة في الفعاليَّة، قائلة، في بيان خاص، إنها «تفاجأت» بوجود اسم وزيرها نصر الدِّين مفرِّح ضمن برنامج الملتقى!
(5) وكان إيلي كوهين، وزير الاستخبارات الإسرائيلي قد زار الخرطوم، بحسب (الأناضول) في 27 يناير 2021م، قبيل أيَّام من إعلان الحكومة الجَّديدة، وتولِّي مريم حقيبة «الخارجيَّة»، وأعلن أن بلاده، تضع «اللمسات الأخيرة»، لتوقيع اتِّفاق «التَّطبيع» بواشنطن خلال الشُّهور الثَّلاثة القادمة، أي نفس الشُّهور الأولى لتولي مريم هذه الحقيبة! كما صرَّح كوهين لصحيفة «يدعوت أحرونوت» بأن الدَّولتين بصدد «إبرام اتِّفاقات تعاون اقتصاديَّة وزراعيَّة، كما سيسمح للطائرات الإسرائيليَّة بالتَّحليق في سماء السُّودان»! وأضاف أنه التقى البرهان، ووزير الدِّفاع ياسين إبراهيم، وأنه «تفاجأ بالرَّغبة السُّودانية في المضي قدماً، وبالرُّوح الإيجابيَّة تجاه الإسرائيليين»! وصرَّح بأن الدَّولتين «وقَّعتا اتِّفاق تعاون استخباراتي» بـ «مبادرة» سودانيَّة (!) حيث «قدَّم لهم وزير الدِّفاع مسودة الاتِّفاق للتَّوقيع عليها (!) فترجموها بسرعة من العربيَّة إلى الإنجليزيَّة، وأعملوا فيها بعض التَّصحيحات، ووقَّعوها رسميَّاً»! وأضاف كوهين للصحيفة «وصلنا الخرطوم بمخاوف، وغادرناها ونحن راضون تماماً .. لقد أصبح الأعداء أصدقاء»! وكشفت هيئة البثِّ الإسرائيليَّة الرَّسميَّة أن من بين المواضيع التي بُحثت خلال الزِّيارة «إمكانيَّة ضمِّ إسرائيل إلى مجلس الدُّول العربيَّة والأفريقيَّة المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن»! كما أوضحت أن «وفداً سودانيَّا سيزور إسرائيل قريباً»! ومعلوم أن وفداً كهذا لا يمكن أن يُبتعث إلا بمعرفة، وتنسيق، ومشاركة وزارة «الخارجيَّة»!
(6) وكانت وكالة (الأناضول) قد أوردت تصريح محمد الفكي سليمان لصحيفة «حكايات»، بأن «زيارة الوفد الإسرائيلي ذات طبيعة عسكريَّة بحتة»! وأن الوفد «قام بطواف على منظومة الصِّناعات الدِّفاعيَّة، والتقى بعسكريين»! كما نفى الفكي انفراد المكوِّن العسكري في مجلس السَّيادة بإدارة ملف «التَّطبيع» بعيداً عن المكوِّن المدني والحكومة، قائلاً: «هذا حديث غير صحيح، فكلُّ أعضاء مجلس السَّيادة من مدنيِّين وعسكريِّين مشاركون في ملف التَّطبيع، بالإضافة إلى وزارة الخارجية»!
نخلص إلى أن ملف «التَّطبيع» من أبرز الملفَّات التي ستتولاها مريم، تنفيذيَّاً، وفي ذهنها، دون شك، موقف كيان الأنصار، وحزب الأمَّة، فضلاً عن الموقف المبدئي الصَّارم لوالدها الإمام الذي توسَّد مرقده الأخير تحت القبَّة الفضِّيَّة، تاركاً موقفه هذا وديعة بين أيدي الكيان والحزب؛ فبأيِّ منطق ستتعاطى مريم؟!

الأحد
تَبِع مجنون ليلى، ذات يوم، كلبها، يستدلَّ به على مكانها، فمرَّ بجماعة يصلُّون، ثمَّ مرَّ بهم لدى عودته، فسألوه مستنكرين: «أتمرّ بنا، يا ابن الملوَّح، ونحن نصلِّي، ولا تصلِّي معنا»؟! فسألهم مندهشاً: «أكنتم تصلُّون»؟! فأجابوا: «نعم»! فقال: «والله ما رأيتكم، ووالله لو كنتم تحبُّون الله كما أحبُّ ليلى لما رأيتموني»!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى