الرأي

أَنَا .. رَادِيكَالِي!

 

الإثنين

لو كان التُّرابي أقلَّ «دغمسة» للحقائق، والصَّحفيون أكثر اعتباراً بالتَّاريخ، والذَّاكرة الشَّعبيَّة أقوى مِمَّا هي عليه، لما تحوَّلت دعوة «الجَّبهة الإسلاميَّة القوميَّة» للصَّادق المهدي وحزبه، للمشاركة في انقلاب يونيو 1989م، من واقعة تاريخيَّة، إلى مغالطة سِّياسيَّة (!) ولما ظلَّ خبرها يتواتر، لثلاثة عقود، والتُّرابي ساكت، بينما القاعدة الفقهيَّة أن السُّكوت في موضع الحاجة للكلام .. كلام (!) وحتَّى عندما اضطر للكلام، فإنه لم يفعل أكثر من الالتواء بالمعنى قائلاً: «من يريد أن يعمل انقلاباً لا يستشير الصَّادق»!

ولعلَّني أوَّل من اهتمَّ بتحقيق تلك الواقعة، ودور أحمد سليمان فيها؛ فالرَّجل كان قياديَّاً شيوعيَّاً بارزاً، لعب، من خلف ظهر الحزب، دوراً مهمَّاً في انقلاب علي حامد 1959م، وانقلاب النِّميري 1969م، ثمَّ انضمَّ، عقب أبريل 1985م، إلى حزب التُّرابي، لينخرط مع قيادته في تدبير انقلاب 1989م! وحدَّثني الصَّادق المهدي، عندما زارني، أواخر يوليو 1992م، ليحمد لي سلامة الخروج، وقتها، من بيت الأشباح، وكان معي شقيقي محمَّد وصديقي وجاري عثمان النِّيل، فقال: «كنَّا طالعين، لتوِّنا، في مارس 1989م، من اضطرابات ديسمبر 1988م، عندما جاءني، ذات أمسية، في ما حسبتها زيارة عاديَّة، أحمد سليمان، القيادي في (الجَّبهة) المؤتلفة معنا في (حكومة الوفاق) التي كانت تجابه أزمة الغلاء، وزيادة الأسعار، والفوضى الأمنيَّة، والانفلاتات الصَّحفيَّة، والاحتجاجات النِّقابيَّة، دَعْ (مذكرة الجَّيش) لمجلس السَّيادة، في 20  فبراير 1989م، تطالب بإقصاء (الجَّبهة) من الحكم! وأثناء المؤانسة حول تلك الأمور، سألني أحمد فجأة: ألسنا الأكبر تفويضاً شعبيَّاً؟! ففهمت أنه يعني حزبينا، فأجبته: بحسب صناديق الانتخابات .. نعم. فالتقط الإجابة مستطرداً: حسناً، المخرج عندي أن نحسم قضيَّة السُّلطة عسكريَّاً، ونتحوَّل إلى النِّظام الرِّئاسي، ونغلق البلد لعشر سنوات، نعكف، خلالها، على علاج مشكلة الجَّنوب، وإنعاش اقتصادنا المنهار، وتسوية ديوننا الخارجيَّة، وترميم علاقاتنا الإقليميَّة والدَّوليَّة، وحسم الفوضى الحزبيَّة والنِّقابيَّة والصَّحفيَّة، فنهيِّئ البلد لديموقراطيَّة راشدة، ولا أرى أنسبَ منك، خلال هذه الفترة، لرئاسة الجُّمهوريَّة! فعقَّبت بقولي: قد تبدو هذه الخطة، نظريَّاً، متماسكة sound، لكنها، عمليَّاً، ليست كذلك! أنظر .. ها نحن سحبنا الزِّيادات، وعالجنا احتجاجات ديسمبر، وأزمة مذكرة الجَّيش، وهذا لا يعيب النِّظام الدِّيمقراطي، كونه من طبعه، أما الشُّموليَّة فشغلها الشَّاغل، بحكم قوانينها الباطنيَّة، تأمين نظامها، فتمضي من تضييق إلى تضييق، مع الإسراف في الإنفاق على الأمن والدِّفاع، وهيهات أن تنجح، مع ذلك، في تحقيق أيِّ استقرار! ثمَّ ختم روايته لي قائلاً: لم يخطر ببالي، قط، أثناء حديثنا، سوى أنه هو مَن ورَّط الشِّيوعيِّين، بمثل هذه النَّزعة الانقلابيَّة في مايو 1969م، وها هو يريد أن يسوِّق لـ (الجَّبهة)، ولنا معها، مغامرة جديدة! ثمَّ واصل: بعد أيَّام، وأثناء مناسبة عائليَّة، حرص التُّرابي على الاقتراب مني ليسألني هامساً: أحمد جاك؟! ففكَّرت برهة، لكنِّي حين أدركت المقصود، والتفتُّ إليه، ألفيته فصَّ ملح وذاب! هكذا بلغتني الرِّسالة: ننتظر ردَّك»!

لم أشر إلى رواية الصَّادق تلك، إلا مطالع مايو 1999م، عبر ندوة دعانا للحديث فيها أحمد البلال الطيِّب بصحيفة «أخبار اليوم» حول «لقاء جنيف» المفاجئ بين التُّرابي والصَّادق، بوساطة كامل إدريس وعمر التُّرابي، وكان اللقاء، وقتها، ما يزال مستمرَّاً دون أن يرشح منه شيء. وضمن من شاركوا في النَّدوة: إبراهيم أحمد عمر، علي حسن تاج الدين، علي السيد، تاج السر محمد صالح، الحاج ورَّاق، يحيى الحسين. ولاحقاً باح الصَّادق نفسه بالرِّواية، علناً، ضمن كلمة ألقاها في مقرِّ حزبه بالقاهرة، فور عودته من جنيف، أثناء احتفالهم بعيد العمال، خلال النصف الثاني من مايو 1999م.

دفعني لإيراد الواقعة في ندوة «أخبار اليوم» احتياجي لأن أسند بها تحليلاً للقاء بدت لي وجاهته، وفحواه أن الفتق اتَّسع على الرَّاتق بين التُّرابي الذي ترجَّح عندي أنه كان يريد المضي في خطة السَّنوات العشر حتى النِّهاية، وبين تلاميذه الذين أرادوا تكريس تحالفهم  مع العسكر. ومن ثم خلصتُ إلى أن «اللقاء» لا بُدَّ وقع من خلف ظهر أولئك التَّلاميذ، خصوصاً أنَّهم فاجأوا زعيمهم، قبل خمسة أشهر من ذلك، بـ «مذكرة العشرة» في ديسمبر 1998م، قبل أن يُقْدِموا على إقصائه من السُّلطة نهائياً بـ «قرارات رمضان» في ديسمبر 1999م!

عام 2009م، في مغارب عمره، أجرى أحمد سليمان حوارين مهمَّين: الأوَّل مع «الصَّحافة» أعيد نشره في 2 أبريل، والآخر مع «الرَّأي العام» أعيد نشره في 3 أبريل. اشتمل كلا الحوارين على رواية مغايرة لرواية الصَّادق، لكنها متناقضة ومفتقرة للتَّماسك. في «الصَّحافة» قال إنه أقنع التُّرابي بتلبية دعوة المهدي للتَّفاكر حول «مذكرة الجَّيش»، ورافقه إليه، حيث «عرضت أن يقود معنا (انقلاباً) داخل البرلمان لتغيير نظام الحكم .. إلى رئاسي .. ويكون هو رئيس الجُّمهوريَّة .. (لكنه) شعر وكأنني أستدرجه لقيادة انقلاب عسكري»! أمَّا في «الرأي العام»، فقد أكَّد أن التُّرابي اتَّصل «وحده» بالصَّادق لإقناعه بالمشـاركة في الانقلاب، لولا أن «الصَّادق تَردَّد. لم أكن الوسيط، ولكني أثَّرت على التُّرابي ليقابله»!

نقطة الضعف الأساسية في روايته الأولى هي زعمه أنه كان يهدف للتَّغيير ديموقراطيَّاً «من داخل البرلمان»! وهو زعمٌ يصعب شراؤه، كونه يتعارض، ليس، فقط، مع رواية الصَّادق الرَّاجحة بالمضاهاة، وإنما مع مجمل ما عُرف عن أحمد من تغليب، في مستوييْ التَّنظير والعمل، للأسلوب «الانقلابي»! وليس أبلغ، في التَّدليل على ذلك، من تباهيه، هو نفسه، قبيل وفاته، بأنه، عندما كان في قيادة الشِّيوعيِّين، درج على الدَّعوة للإنقلاب؛ مثلما كان، في قيادة الجبهة الإسلاميَّة، يدعو له، علناً! (الرأي العام، 3 أبريل 2009م)؛ بل وبلغ به ذلك التَّباهي حدَّ «تبرئة» عبد الخالق من أيِّ «تأهيل انقلابي!»، على حدِّ تعبيره، محتكراً ذلك لنفسه، حيث «كنت.. أسهر الليل كله مع الضُّبَّاط ومسؤولي الأمن، وأعرف منهم تفاصيل ما يدور؛ أما عبد الخالق فقد كان يفتقر لمثل هذه التَّجارب التي «تؤهِّل» لقيادة انقلاب عسكري ناجح!» (الصَّحافة، 2 أبريل 2009م). وإلى ذلك ما رواه بنفسه عن تحريضه لانقلابيّي 30 يونيو، في اجتماع مشترك بين «مجلس الثَّورة» و«قيادة الجَّبهة»، على الاستمساك، جيِّداً، بـ «الشموليَّة»، سائقاً «الموعظة» من غفلة «مجلس ثورة» غواتيمالا، حسب ما روى وود وورد في كتابه «القادة The Commanders»، حيث اقترح عليهم وزير داخليَّتهم المتأثر بـ «الليبراليَّة» إجراء انتخابات، «ففعلوا، فراحوا في ستين داهية!» (المصدر)!

أمَّا الطيب زين العابدين، عضو مجلس شورى «الجَّبهة» السَّابق، فقد قطع بشأن صلة أحمد سليمان بالانقلاب، قائلاً: «ساهم حتَّى في إقناع التُّرابي نفسه بالموضوع دا .. وكان يردِّد قولته المشهورة: الانقلاب زي الموزة، أحسن تأكلها أول ما تنضج، مش قبل ما تنضج، أو بعد ما تنضج خالص!» (الوطن، 7 فبراير 2009م). والشَّاهد أن الطيِّب غلَّب، كالصَّادق تماماً، تحمل كلفة الاستحقاق الدِّيموقراطي على مخاطرة المشروع الانقلابي (المصدر).

وأمَّا علي الحاج، أحد أبرز قادة الجَّبهة، فبصرف النَّظر عن تناقضه، حيث أنه «مع الانقلاب، لكن ليس مع نتائجه!» (سودانايل، 11 نوفمبر 2009م)؛ لدرجة أن التُّرابي وصفه بأنه «خطيئة الإسلاميِّين!» (الأخبار، 5 نوفمبر 2009م)؛ فقد أفاد بشأن ما ورد عن تكليفهم أحمد سليمان بإقناع المهدي: «لم نكلفه، لكنه شخص انقلابي بطبعه، وقد حكى لنا الأمر كمبادرة شخصيَّة منه!» (المصدر).

خمس روايات، إذن، ترجِّح رواية الصَّادق: واحدة للصَّادق نفسه، وأخرى لزين العابدين، وثالثة لعلي الحاج، واثنتان متناقضتان لأحمد سليمان، بينما التُّرابي يفضِّل «الدَّغمسة»؛ فانظر مدى وعورة استجلاء الحقيقة بتكبُّد التقاط تلك الجُّزازات، وتدقيقها، ومضاهاتها، ثمَّ لصقها إلى بعضها، على طريقة «الكولاج»، للظفر بـ «صورة» قد تقارب، أو لا تقارب، «الأصل»!

 

الثُّلاثاء

تصرُّ وزارة الزِّراعة والغابات على أنها أوقفت استيراد البرتقال المصري، مشيرة لدعم الانتاج المحلي، كسبب، دون غيره مِمَّا يتداول النَّاس همساً وجهراً! مع ذلك، أينما يمَّمت وجهك في الشَّوارع، ترى هذا البرتقال المشرَّب حمرةً يحتلُّ منصَّات بيع الفاكهة، دَعْ أذرع الباعة الجَّائلين، ومطاردي السَّيارات! فمن، ترانا، نصدِّق: عيوننا أم الوزارة؟!

 

الأربعاء

عندما هاتفني صديقي حيدر إبراهيم علي، أوَّائل أيَّام الثَّورة، ليزفَّ إليَّ خبر حضوره من القاهرة لاستئناف نشاط مركز الدِّراسات السُّودانيَّة بالخرطوم، كانت نبرات صوته طليقة، منشرحة: «تعال ياخ وجيب معاك مبارك خلونا نتكلم شويَّة»! وذهبنا إليه، وظللنا، طوال أشهر، نتابع، بإشفاق، معافرته، برغم عدم ملاءمة وضعه الصِّحِّي، كي يبلغ عُشر معشار نشاط المركز قبل إغلاقه، كان متفائلاً لأقصى حد! لكنه، عندما هاتفني، بالأربعاء 7 أبريل 2021م، ألفيتُ نبراته كتيمة، حزينة، ليس، فقط، لأننا فجعنا برحيل صديقنا مبارك بشير، كالكثير غيره من الأحباب، بل لينقل لي خبراً شؤماً آخر: قرَّر المغادرة، بالجُّمعة 9 أبريل، إلى القاهرة، و .. بلا عودة!

 

الخميس

أزداد اقتناعاً، يوماً عن يوم، بأن «إعلان المبادئ» بين البرهان والحلو، في جوبا، بالأحد 28 مارس الماضي، هو محض زائدة لا جدوى منها. فدولة المواطنة، والجَّيش الواحد، وإنهاء التَّهميش، والاعتراف بالتَّعدُّد والتَّنوُّع، والاقتسام العادل للسُّلطة والثَّروة، كلها قضايا واردة، وإنْ بتعابير آخرى، في كلِّ المواثيق السَّابقة، بل وتضمَّنها «اتِّفاق» أديس أبابا «المبدئي» بين حمدوك والحلو بالخميس 3 سبتمبر 2020م. وإذن، ليست ثمَّة ضرورة لـ «تكرار» تضمينها اتِّفاقاً إضافيَّاً، بل لتنفيذها الذي لم يتحقَّق، منذ أيَّام النِّظام البائد، وإلى الآن، وما ذلك إلا لانعدام الإرادة، وضعف الإمكانات. ورأيِّي، بصراحة، أن السَّبب الحقيقي لهذا «التِّكرار»، الآن، هو الرَّغبة في «الإعلان» عن «قيُّوميَّة» البرهان على البلد، وعلى السَّلام، وعلى الحكومة، وعلى رئيسها، حتف أنف الوثيقة الدُّستوريَّة!

 

الجُّمعة

لولا دي سيلفا، رئيس البرازيل الأسبق (2003م ـ 2011م) خرج من السِّجن ليصبح، من جديد، أمل ملايين البرازيليِّين. فعلى غير انتظار، ألغى إدسون فاتشين، قاضي محكمة الاستئناف الاتِّحاديَّة، أربعة أحكام فساد كان قد أوقعها سيرجيو مورو، قاضي المحكمة الأدنى المرتشي، على لولا، مِمَّا مكَّنه من مغادرة السِّجن، شامخ الهامة، بعد أكثر من 500 يوم قضاها فيه ظلماً، دون أن يسمح له بالمشاركة في تشييع شقيقه، أو حتَّى رؤية زوجته المريضة. القرار القضائي الجَّديد فتح أمامه مصاريع الأبواب، ليس فقط لمقاضاة القاضي الفاسد سيرجيو مورو الذي كوفئ بمنصب وزير العدل، بل أيضاً للتَّرشُّح لمقعد الرِّئاسة، مرَّة أخرى، وبأوسع الفرص المتوقَّعة للفوز. بعد يومين من خروجه وقف لولا خطيباً في مقرِّ نقابة عمَّال المعادن، قريباً من سان باولو، أمام جماهير غفيرة من مؤيِّديه، ليؤكِّد أنه لم يشعر، في سجنه، بالألم جرَّاء محاكمته غير العادلة، أو تعريضه لإهانة مقصودة بدوافع سياسيَّة، بقدر ما ظلَّ يأسى لما يعتبره جريمة أكبر، بما لا يُقاس، من كلَّ ما ارتكبوه من ظلم بحقِّه، وهو هذه المعاناة التي يعيشها ملايين الفقراء في البلاد من أوضاع الجُّوع وعدم المساواة، بينما الرَّئيس الحالي جانير بولسينارو، غارق في الكذب، ومراكمة السِّلاح، وإهمال قضايا الاقتصاد، والأجور، والصَّحَّة، والتَّعليم، والبطالة، والبيئة، وغيرها، في بلد تجتاحه الفوضى والاضطراب. وكعادته القديمة أنهي لولا خطبته الملهمة لأنصاره بتأكيده القوي، قائلاً: «لا تخافوا عليَّ .. أنا راديكالي، أريد الوصول إلى جذور مشاكل هذه البلاد، كي أبني عالماً أكثر عدلاً وأكثر إنسانيَّة»!

 

السَّبت

على حين كانت د. آمنة المكي، والية نهر عطبرة، تصدر، بالسَّبت 3 أبريل 2021م، مرسوماً يُجرِّم التَّمييز «العنصري» و«القبلي»، كونه يفضي إلى الفتن والانفلاتات الأمنيَّة بالولاية، مثلما يُجرِّم مقاومة السُّلطة هناك، أو رفض الانصياع لتوجيهاتها، ويعاقب مَن يرتكب أيَّاً مِن هذه الأفعال بالسِّجن مدَّة قد تبلغ ستَّة أشهر، أو بالغرامة بما لا يجاوز مائة ألف جنيه، أو بالعقوبتين معاً، كانت الجِّنينة، عاصمة ولاية غرب دارفور، على موعد، بالأحد 4 أبريل 2021م، مع انفجار الحرب الأهليَّة، مجدَّداً، بين المساليت والعرب، والتي بدت أسبابها «قبليَّة»، في الظاهر، ناشرة، مع الدَّويِّ المفزع للقنابل، والمدافع، والدَّانات، حالة من الهلع والرُّعب بين المدنيِّين. أمَّا قوى «الأمن» فقد بدت كمن «يُؤخذ» على حين غرَّة، مع أن «الاحتقان القبلي» كان في تمام الجاهزيَّة، لكلِّ من ألقى السَّمع وهو شهيد، كي يُستغلَّ مِمَّن يشاء، يفاقم منه التَّخطيط السُّكَّاني الذي يُحرِّض على فتق النَّسيج الاجتماعي، إذ يجعل من «أحياء الجَّبل»، مثلاً، والتي شهدت اندلاع القتال، نموذجاً لهذا الاحتقان، حيث يتركَّز العرب المسلحون في جانب، والمساليت المسلحون في جانب آخر!

وكنت أشرت إلى الطَّابع الطبقي للحريق في ولاية نهر النِّيل، بصرف النَّظر عن أن مستصغر شرره ربَّما بدا، للوهلة الأولى، ناشباً من صراع شخصيٍّ، أريد له أن يتَّخذ الشَّكل «القَبَليٍّ»، على خلقيَّة قرار لجنة إزالة التَّمكين بنزع ثلاثة دكاكين من تاجر «جعليٍّ» بشندي. فقد كان من الممكن أن يكون هذا الأخير «شايقيَّاً»، أو «بديريَّاً» أو خلافه! على أن الصُّدفة الموضوعيَّة جعلته «مكَّاً» نافذاً في «قبيلته»، والأهمُّ أنه، يمثِّل، أحد رموز النِّظام البائد، المستفيدة منه، المنتمية إلى مختلف تكويناته الحزبيَّة الحليفة، والتي لطالما شكَّلت جزءاً أساسيَّاً من الفلول الاجتماعيَّة الدَّاعمة لتحيُّزاته السِّياسيَّة والاقتصاديَّة حتَّى لحظة سقوطه. ومِمَّا يعضِّد هذا التَّحليل أن نفس هذه الفلول هي التي نفَّذت، في ذات التَّوقيت، وفي سياق ذات الصِّراع، اعتداءً آثماً، باسم «مجلس القبيلة»، على إحدى فعاليَّات «الثَّورة» التي كانت «قوى الحريَّة والتَّغيير» قد شرعت في تنظيمها بالمدينة، وهو ما أسمته حُكومة الولاية «الفِعل الإجرامي المُبطن بأهداف سياسيَّة»، أو هو، بالأحرى، دون أن ننزع عنه طابعه «الإجرامي»، الفعل «السِّياسي» المغلَّف بغطاء «قبَلِي»!

هكذا، ليس ثمَّة سبب واحد يجعلنا نصاب بـ «الحَوَل»، إزاء التَّطابق «السِّيامي»، من حيث المرامي «السِّياسيَّة» للحادثتين «القبليَّتين» في شندي والجنينة، وربَّما في غيرهما خلال الأيَّام القادمة! فالفلول المدجَّجة، حتَّى أسنانها، بالضَّغينة الطبقيَّة المكتومة، على الثَّورة، وقواها الأساسيَّة، وحكومتها الانتقاليَّة، وبإزاء فشلها في «حسم» تهديدات «الثَّورة» لمصالحها، انتقلت لخوض المعركة بأسلوب مغاير! فبالنظر للمخاطر المحدقة في الظرف المحيط، لم تجد مناصاً من «التَّخفِّي» وراء «أقنعة القبيلة»، عامدة إلى النَّفخ في صور العصبيَّة القديمة لـ «الإدارة الأهليَّة»، بعد مضيِّ نصف قرن على إلغاء قانونها، عام 1970م، بقرار من زمرة المايويِّين، المسنودين، حينها، في لهوجة انقلابهم، ببعض الشِّيوعيِّين السَّابقين، مِمَّن توهَّموا، حتف أنف الماركسيَّة، أن القضاء على مؤسَّسة البنية الفوقيَّة  superstructure ممكن بمحض القوانين، واللوائح، والإجراءات؛ ثمَّ توهَّم الإسلامويُّون، لاحقاً، إمكانيَّة تكريس هذه المؤسَّسة في خدمة نظامهم البائد، بما أجروه على هياكلها من تعديلات خلال العقود الثَّلاثة الماضية؛ ثمَّ ها هم، الآن، يتوهَّمون إمكانيَّة تسخيرها في هزيمة «الثَّورة» بإفشال «الفترة الانتقاليَّة»!

هكذا زُلزلت الثَّورة المضادَّة زلزالها، وأخرجت، من خبوب «القبليَّة»، أثقالها، فإذا بالشَّرارة التي انقدحت، مظهريَّاً، من واقعة دكاكين «المكِّ»، في شندي، ومن خطاب كراهيَّة المساليت في الجِّنينة، تندلع ألسنة من اللهب في وجه الثَّورة بأسـرها (!) وإذا بالفلول تنشط، في ولاية نهر النِّيل، تحت مظلة «مجلس شورى الجَّعليِّين» الذي بوَّأ «صاحب الدَّكاكين الثَّلاثة» رئاسته، مثلما أقدمت، في ولاية غرب دارفور، على إشعال فتيل «الحرب الأهليَّة»، وزعزعة الاستقرار، بهدف تحويل الرَّأي العام، هنا وهناك، من تأييد الحكومة الانتقاليَّة، إلى تمنِّي عودة النِّظام البائد! وليس أوضح، في السِّياق، من اتِّهام محمَّد عبد الله الدُّومة، والي غرب دارفور، لناشطين «قبليِّين» بأنهم يبثون «خطاب الكراهيَّة العنصري» بهدف ما وصفه بـ «الدِّعاية السُّوداء»، وليته لم يحجم عن ذكر «القبائل» التي يتحرَّكون باسمها، حين أشار إلى أن «النظام المباد» هو الذي سلَّحهم ووزَّعهم في الولاية لتصعيد النِّزاعات «القبليَّة» بهدف زعزعة الاستقرار!

أمَّا المطالبة، في نهر النِّيل، بإقالة د. آمنة، فمحض غطاء خارجي cover story، وإن كانت تمثِّل، أيضاً، «العصفور» الإضافي الذي يمكن للفلول المختبئة وراء «الأقنعة القبليَّة» أن «تصطاده»، هو الآخر، بذات الحجر الواحد (!) فالوالية، بالأساس، «امرأة»، والمطالبة بإقالتها تنسجم والثَّقافة الذُّكوريَّة التي تصدر عنها هذه القوى، مِمَّا عبَّر عنه «المكُّ»، صراحة، بقـوله، وهـو لا ينفكُّ «يشـنِّق» عمامـته في التلفزيون: «يمكن لها أن تشتغل وزيـرة للصـَّحَّة، أو التَّعليـم، أمَّا حاكمـة .. فلا»! واستطراداً، فإن النَّاطقين باسم هذه القوى لم يُخفوا، تلفزيونيَّاً، أيضاً، بذاءة سخريَّتهم من «قطار عطبرة»، إحدى أيقونات الثَّورة المجيدة التي استشهد، وأصيب، وفُقد، في سبيلها، آلاف الشَّباب، قائلين: «يمكننا أن نسيِّر مثله .. وأكثر»! أمَّا «التَّفاوض» حول الأزمة هناك، فواضح أن مَن انتُدبوا لإنجازه مِن «أفنديَّة» الحكم الاتِّحادي، قد انبطحوا تماماً، أمام هذه الفلول، إذ كشف أحد رموزها على «اتِّفاقها» مع أولائك الأفنديَّة على إزاحة د. آمنة ضمن تدابير التَّعديل المزمع في طاقم الحكم! وأشكُّ في أن يكون ذلك قد تمَّ في عهد وزيرة الحكم الاتِّحادي الحاليَّة، الرَّفيقة بثينة دينار، فهلا أخضعته للتَّحقيق؟! وكنَّا وصفنا الخبر، وقتها، بأنه أوَّل الوهن؛ ولذا حقَّ لنا، اليوم، الابتهاج بمرسوم د. آمنة، تُرِي به هذه الفلول نِّجوم الظُّهر! كما أتوقَّع أن يتحرَّك صديقنا الدُّومة صوب ولايته، ليصدر، هو الآخر، مرسوماً مشابهاً، يحزم به من يتلهُّون بتكتيك «القبليَّة» حزم السَّلم، بدلاً من تضييع وقته في التَّصريح لصحف الخرطوم بأنه لم يهرب من الجِّنينة، أو حتَّى في محاولة الإقناع بأن ثمَّة خللاً في وزارتي الدِّفاع والدَّاخليَّة اللتين لم تعيناه بشئ خلال الأحداث، فذلك مفهوم، ومنذ فترة طويلة! أمَّا البديل فهو إعداد وتدريب لجان المقاومة لحماية المدنيِّين، وكفانا فهماً قاصراً لشعار «السِّلميَّة»، فـ «السِّلميَّة»، بالفعل، نهج قويم، لكن، فقط، حين تمارس بحقِّها، وحقُّها هو أن أوار «العنف الهمجي» لا تخمده غير مطفأة «العنف الثَّوري»، وليس أكثر «ثوريَّة» من التَّصدِّي لـ «قانون القوَّة» بـ «قوَّة القانون»!

الأحد

خلال الفترة الماضية زرت جوبا مرَّتين، حيث لاحظت أن التَّيَّار الكهربائي نادراً ما ينقطع. وقد أوردت الصُّحف، مؤخَّراً، «خبر» رجل شوهد، هناك، يمشي حافياً على أسلاك الكهرباء العارية، مِمَّا استدعى تدخُّل البوليس للقبض عليه! وفكَّرت .. لو نشرت الصحف أن رجلاً شوهد يفعل ذلك هنا، في الخرطوم، لما اعتُبر ذلك .. «خبراً»!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى