الرأي

آن أوان اليسار الديمُقراطي الجديد في السودان.. (3/3

في الجزأين الأولين كنا قد كتبنا عن الأحزاب التي ظلت تُشكل مفهوم اليسار التقليدي في السودان لعقود طويلة في مُجمل الحركة السياسية في السودان، ولمسنا بالنقد المباشر تجربتي الأحزاب العربية كالبعث والناصرين والقوميين وكذلك تجربة الحزب الشيوعي السوداني، ونتيجة تناول هاتين التجربتين ومن واقع تتبعهما ووجودهما في واقع اليوم وصلنا إلى قناعة ونتيجة بيِّنة بعدم قدرتهما على التطور ولا استصحاب الواقع ولا الحاضر وليست بالتالي لهم القدرة على الوصول للمُستقبل وتوجيه خطاب معرفي سياسي جديد لوجود كل كوابح التغيير والتجديد فيهم.

واليسار الذي نطرحه ليكون بديلاً يُناسب الواقع ويتلاقى معه ويتوافق مع الحاضر ويستشرف المُستقبل في السودان بكل تنوعه وثرائه الإثني والثقافي والديني الثقافي ويتناغم مع الحداثة هو اليسار الديمُقراطي الجديد.

وكلمة الجديد هذه لتوضيح أن اليسار التقليدي الموجود حالياً هو يسار قديم وغير مواكب وليس في ذلك أي تجني.

فما هو مفهوم اليسار الديمُقراطي إذن؟

ولماذا هو مُهم لواقع السودان الحالي ومستقبله؟

وكيف يُمكننا إيجاده ليكون فاعلاً ومؤثراً؟

سنحاول الإجابة على هذه التساؤلات وفي ذات الوقت لينفتح نقاشاً سياسياً اجتماعاً في أوساط كل المُهتمين ومن يهمهم مستقبل هذا البلد. فالإجابات النهائية والحاسمة دوماً تأتي من حركة الفعل الجماهيري والتنظيم وقدرتها على خلق التغيير الإيجابي وتحويل الأفكار إلى واقع.

لم يعُد اليسار في كل العالم مُرتبطاً فقط بالنمط القديم الذي رسخته الأيدلوجيا الاشتراكية والماركسية والأحزاب الشيوعية، فالتطور الذي مرت به البشرية كان من الطبيعي له أن ينتج أشكالاً جديدة لمفهوم اليسار.

ارتبط كذلك مفهوم اليسار في شكله العام بدعوات ومحاولات نشر وتعميق مفهوم العدالة الاجتماعية والحد من الفقر وبالمساواة والحرية وحقوق المرأة وغيرها من شعارات اليسار التي ناضل من أجلها الكثيرون طويلاً .

ولعل بذلك ظل عامل تحقيق العدالة الاجتماعية وقيّم الحرية والمساواة هو القاسم المشترك بين كثير من حركات وقوي وأحزاب اليسار.

فهل لتتحقق عدالة اجتماعية فالبوابة الوحيدة لذلك هي بوابة الفكر الماركسي والاشتراكية والأيدولوجيا الشيوعية؟.

الإجابة قطعاً لا.

بل على العكس فشلت الشيوعية في تحقيق العدالة الاجتماعية في كل البلدان التي تبنت النموذج الاشتراكي، فالعدالة لا تتحقق اجتماعياً بسيطرة الطبقة العاملة ولا بنظرية الحزب الواحد الشمولية. وهذا ما غرسته الأيديولوجيا الشيوعية طويلاً فلم تُثمر شئياً، ورؤيتها القائمة على الصراع الطبقي التناحري لجلب العدالة الاجتماعية أيضاً لم يخلق عدالة اجتماعية حتى في جانبها الاقتصادي والذي ركزت عليه الأيديولوجيا الشيوعية وجعلت من صراعها المركزي والتاريخي مع الرأسمالية والمجتمعات الرأسمالية هو ما يُحرك خطابها الجماهيري والسياسي.

وبالانتقال للواقع السوداني ظلت نفس المعايير هي التي تبناها الحزب الشيوعي وإن ركز على حالة المُزارعين وعمال السكة حديد (لعدم وجود حركة صناعية متقدمة في السودان) وحاول خلق تحالف يضمهم والطلبة وبعض المثقفين. ولكنه فشل فشلاً كبيراً في اختراق السواد الأعظم من الجماهير الكادحة والمُهمشة والفقيرة في السودان وأطرافه وريفه واستقطابها لصالح مفهوم العدالة الاجتماعية في السودان رغم إحداثه لحركة نشطة في الوعي خاصة بين المثقفين والطلبة، لكنها لم تكن كافية لإحداث تحولات ونقلات كُبرى في مجموع الشعب السوداني ومجموع الكادحين والمُهمشين والفقراء وفئات الشعب التي تتوق لبسط العدالة الاجتماعية والاقتصادية والمساواة في السودان ونيل الحقوق.

فالتجربة إذن وبذات أدوات الحزب الشيوعي وأفكاره وخطابه السياسي وعمله وسط الجماهير لم تنجح في إحداث ما ظل يعمل ويدعو له طوال 75 عاماً من تاريخه الطويل منذ التأسيس .

فالعدالة الاجتماعية لا تحققها الأيدلوجيا المُنغلقة وقاصِرة النظر وغير الديمُقراطية هذا بكل بساطة وهو ما ينطبق على الحزب الشيوعي السوداني تمام الانطباق.

على عكس مفهوم اليسار الديمُقراطي للعدالة الاجتماعية وتحقيقها، فهو لا يربطها بالنظرة الطبقية والتناحر الطبقي، ولا يربطها بسيطرة طبقة على طبقة أو طبقات أخرى، وهو لا يتبنى تفكير منغلق للاقتصاد والسير عكس تيار الاقتصاد العالمي ولا يقف ضد اقتصاد السوق في خطابه السياسي والفكري والاجتماعي ولكنه يسعى لردم الفجوة ما بين سيطرة القطاع الخاص ودعم الدولة وتحكمها في توجيه الضرائب وتحصيلها وقوانينها في دعم التعليم والصحة ومعاش المواطنين بنسب تخلق التوازن للمجتمعات ولا تحولها بالتالي إلى فقراء لا يجدون فرص التعليم ولا العلاج ولا العمل وكل الدخل تتحكم فيه فئية صغيرة يذهب لها وهي وحدها من تتحكم وتتعلم وتتعالج.

اليسار الديمُقراطي يسعى ويعمل لتكون الدولة مُحركة للتنمية المتوازنة وللقسمة العادلة للسلطة والثروة والمساواة أمام القوانين ولكل حقوق المواطنة المُتساوية وحقوق الإنسان في الحرية والعدالة والتعليم والعلاج والصحة، وهي تسعى لعدالة اجتماعية حقيقية بإقرار دستور يُساوي بين الجميع وأن لا يعلو عِرق على عِرق ولا ثقافة على ثقافة ولا نوع على نوع. وأن تكون الفوارق الفردية والمهارات والمجهود في العمل والإنتاج هي الفارق في الدخل لكل فرد في السودان.

اليسار الديمُقراطي يُنادي بديمُقراطية حديثة وحقيقية لكل الدولة ومؤسساتها، ليست تقليدية ولا مركزية ولا مُوجٓهة. ديمقراطية تتحول إلى سلوك وترسخ في كل المجتمع، وليست ديمُقراطية ظاهرها الحريات وباطنها الاستبداد والشمولية.

يسار ديمُقراطي مُنفتح على كل العالم لا يُعادي أحداً ولكنه يدعم كل من يتبني خطه وأفكاره في كل العالم ويتحالف معه من أجل عالم أفضل تسوده قيّم السلام والتسامح والتعايش السِلمي والتعاون.

يسار ديمُقراطي يدعم كل المهمشين وفئيات الشعب الفقيرة والكادحة والمقهورة والمظلومة لتنال حقوقها التي يقرها الدستور الديمُقراطي العلماني لسودان لا يُستغل فيه الدين في السُلطة ومؤسسات الدولة ولا تعلو هوية على هوية ولا ثقافة على أُخرى بل يتوحد فيه الجميع.

يسار ديمُقراطي يتقدم فيه الشباب حقيقة لشغل مواقع الدولة والعمل والإنتاج، ويحارب البطالة والمحسوبية والفساد، وينال فيه النساء كل حقوقهم المُتغول عليها بموانع التقاليد البالية والنظرة الإقصائية والمُتخلِفة للمرأة ودورها في المجتمع على قدر المساواة مع الرجال.

يسار ديمُقراطي يؤمن كامل الإيمان بضرورة فصل الجيش عن السياسة وعدم وجوده في السُلطة وأن يعمل لصالح المُحافظة على الديمُقراطية ومدنية الدولة سياسياً ولإداء دوره كغيره من مؤسسات الدولة كما يُنادي به الدستور المدني الديمُقراطي للدولة السودانية.

يسار ديمُقراطي يتكون بتحالف كل من يؤمنون بهذه الأهداف من كل بنات وأبناء السودان ويعملون جماعياً وديمُقراطياً لتحويلها لواقع في كل المواقع .

آن أوان اليسار الديمُقراطي الجديد في السودان لكي يخلِصه من العنصرية وسيطرة الثقافة الواحدة والإستعلاء الثقافي والإثني ومن القداسة والطائفية المذهبية والسياسية التي أقعدت السودان كثيراً وجعلته مطية لتحالف القوى التقليدية والمُتخلِفة والتي ترى السودان من زوايا الأتباع وليس فيه كل فرد سيداً لذاته إنما مُجرد تابِع لشخص أو فكرة.

من المؤكد أن السودان بعد الثورة قد تغيرت فيه كثير من المفاهيم وتسعى فيه أجيال جديدة تماماً وأحداث نحو التغيير الحقيقي لسودان أفضل دون أدنى شك وبكل عزيمة وتصميم وصمود. هذه الأجيال هي جوهر هذا التغيير الذي يتبناه اليسار الديمُقراطي الجديد في السودان. أجيال ترفض التقوقع وعُقم الأفكار والأيدولوجيا وتؤمن بالحداثة وتمضي نحو المُستقبل بوعي وهي راكزة وذات إرادة فولاذية في الحاضر الآن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى