الرأي

جاءت الـ”سي أن أن” بخبر ذهب السودان لتصبح هي نفسها خبرا

المعدن الأصفر هو سلعة الصادر الرئيسة منذ نضوب النفط بانفصال الجنوب في 2011

د. عبد الله علي إبراهيم

وقعت الـ”سي أن أن” بتقريرها عن روسيا وذهب السودان في 29 يوليو الماضي في محظور إعلامي، وهو أن تكون أنت الخبر في حين أنك لم ترد سوى أن تكون الراوي للخبر. فعكّر الخبر، التقرير، أجواء الخرطوم الملبدة بالخصومة أصلاً تعكيراً صارت به الـ”سي أن أن” نفسها في قفص المحاكمة، خبراً تتناقله الأقلام والأفواه.

وقع الخبر في بيئة سياسية للسودان بلغ فيها الاستقطاب حدوده القصوى. فجاء لخصوم الحكومة القائمة بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021 كمفاجأة سعيدة. ولربما لم يحتَج هؤلاء الخصوم إلى خبر الـ”سي أن أن” لو اتفقت لهم ثقافة استقصاء مدققة لصون حرمة موارد السودان. فلو شبّعوا سياستنا بهذه الثقافة، لا مجرد اجترار الشكوى من هذا الاستنزاف لماماً وبغير أكيدة إحصائية، لنزل خبر الـ”سي أن أن” سهلاً. لو حدث هذا التشبع لما جرؤ جبريل إبراهيم، وزير المالية، ليقول منذ نحو شهر فقط عن شركة “فاغنر” المتهمة في تقرير القناة بأنها التي تستنزف ذهب السودان: “أنا شخصياً لا أعرف حقيقة أي شيء عن هذه الشركة غير أنها تعمل في المجال الأمني، فأسمع بإشاعات كثيرة، لكن لم أجد دليلاً على ما يقال عن هذه الشركة في السودان، وأنها تعمل في مجال الذهب، فليس لديها امتياز في أي جزء من البلاد، وليس لدينا دليل على أنها أخذت غراماً واحداً من الذهب من أي ركن من أركان البلد. فكل الكلام عبارة عن حديث مطلق، لكن لا دليل لما يقال”.

أما أنصار الحكومة القائمة، فصوبوا نيرانهم على الـ”سي أن أن” من جهة نواياها ومفارقة تقريرها للمهنية في قولهم. ولم يجدوا، وصراع أميركا وروسيا كما نرى، صعوبة في الطعن في التقرير كمفردة في استراتيجية أميركا لتنال من روسيا بالكذب بحق السودان. فوصف أحدهم تقرير القناة بأنه “غاز مسيل للدموع في إطار صراع الولايات المتحدة وروسيا”. وأحصوا التقارير التي صدرت في وسائط أميركية أخرى عدداً ليقولوا إن أميركا أرادت بها تخريب علاقة السودان بروسيا. بل وأرادت وقف النشاط التعديني بذريعة أنه يمول الحرب الروسية وحرمان الحكومة السودانية من مورد صادراتها الرئيس. وذكروا بالاسم تقرير “حاميها حراميها” (6 يوليو 2022) الذي استهدف بنظرهم النيل من الجيش السوداني والأجهزة النظامية.

أما مربط الفرس في أيلولة الـ”سي أن أن” إلى خبر، فهو في المآخذ العديدة على مهنيتها التي جاءت عن أنصار الحكومة. فقالوا إن التقرير اعتمد على أقوال عامة مبثوثة هنا وهناك. فلم يسع للحديث إلى وزارة المعادن ذات الاختصاص في الموضوع، للتحقق من “فرضياته” في قولهم. ووصفته وزارة المعادن في بيان لها بأنه بني على “معلومات مغلوطة وبعيدة من المهنية والأمانة الأخلاقية”. وكان سبباً في إثارة “كثير من اللغط والبلبلة وتضليل الرأي العام”. وكانت أكثر نقاط طعنهم في التقرير وروداً، هي التي تعلقت بمبالغة التقرير في حجم إنتاج الذهب في السودان. فجاء في التقرير أن إنتاج الذهب عام 2021 هو 223 طناً، بينما هو في الواقع 85 طناً، بحسب تقدير مجلس الذهب العالمي للإنتاج السوداني.

ليس بالطبع من تبرير للـ”سي أن أن” ألا تلقى وزارة المعادن لتأخذ وجهة نظرها في اتهامات تقريرها، الذي طالها بالإهمال بل والتواطؤ مع الروس في حقول الذهب السوداني. ولكن لا يعني هذا أن الـ”سي أن أن” لم تلتمس في تقريرها وجهة نظر جهات سودانية أخرى لحقها رأس السوط.

وهنا صح التفريق بين تقريرين للـ”سي أن أن”. فاتهامات من اعترضوا عليها أخذوا بالتقرير التلفزيوني الذي أعدته نعمة الباقر وقدمته. وهو تقرير مستمد من تقرير موسع منشور على صفحة القناة حررته نعمة الباقر ضمن آخرين. ومصادر القناة في هذا التقرير الموسع مهنية وكثيرة. فطلبت إفادات من وزارة الدفاع السودانية عن صلتها بالشركة الروسية، ولم تتلقَّ رداً. ولم تتلقَّ رداً كذلك من وزارتي الدفاع والخارجية الروسيتين ومن إدارة الشركة الروسية الأم. ورجعت القناة إلى سجل الشركات في السودان لتكشف كيف غيّرت الشركة الروسية، مروي غولدن، اسمها إلى صولاج بعد العقوبات الأميركية التي طالتها. واستعانت القناة بمركز الدوسير المتخصص في ملاحقة حركة أموال الأوليغارشية الروس، الذي يرعاه ميخائيل خودوركوفسكي. وهو نفسه أوليغارشي روسي تمرد على الرئيس بوتين. كما استعرضت القناة جداول الطيران على حساب قوروجان على “تويتر”، كشفت به حركة طيران روسي ناشط بين الخرطوم واللاذقية في سوريا وأفريقيا الوسطى. فالتقرير التلفزيوني مستمد من التقرير المنشور حسن الخدمة المهنية.

ولم يخل المعترضون على تقرير الـ”سي أن أن” من سوء نقل. فجاء في التقرير التلفزيوني إحصاءان عن إنتاج الذهب في السودان. قال في الأول إنه 60 طناً، ناظراً إلى سجل رسمي من تلك التي قالت القناة إنها اطلعت عليها كما تقدم. وزاد التقرير بقوله إن بعض من تحدثوا إليه من الباطن قالوا إن الإنتاج كان 223 طناً. وتغاضى نقدة القناة بإجماع غريب الرواية الأولى بالمرة، وروجوا للثانية وهجموا عليها كمبالغة ليس بوسع مواعين صناعة الذهب استخراجها. ومن المفارقة أن رواية القناة الأولى (60 طناً) أقل من تقدير مجلس الذهب العالمي للإنتاج السوداني وهو 85 مليون طن كما تقدم. فلو لم تحمل شعواء الخصومة عائبي القناة لتوخوا القسط في النقد.

من جهة أخرى، فوجئت الأوساط الصحافية بضعف حجة بيان وزارة المعادن في دحض تقرير الـ”سي أن أن”، الذي وصفته بأنه “فقير وضعيف وغير دقيق في بعضه وأرقامه مضخمة، بل خيالية”. وأخذت وزارة المعادن كغيرها بقول التقرير الثاني عن إنتاج السودان من الذهب (223 طناً) بينما أضربت بالكلّية عما جاء في الرواية الأولى من أنه 60 طناً. فنهت الوزارة عن شيء وفعلته: نهت عن سوء النقل عنها وساء نقلها عن تقرير الـ”سي أن أن”.

الذهب هو سلعة الصادر الرئيسة منذ نضوب النفط بانفصال جنوب السودان في 2011. وكان ما صدّرنا منه 46 طناً بعائد تجاوز 2 مليار دولار في 2012. ولم نبلغ ذلك الحجم من الإنتاج في السنوات العاقبة إلى يومنا. وآفته النقص بالتهريب الذي لم تنكره لا الوزارة ولا النقاد في الوسائط الإعلامية. فذهب السودان باختصار حياة السودان.

وبناء عليه، ود المرء لو كان تقرير الـ”سي أن أن” جرس إنذار لحراسة مواردنا بنباهة أكثر لا سبباً للتخلص منه جدلاً حول الأرقام، أو التجريم بسوء النية وكفى. فلو أنتجنا طناً أو ألفاً، وجب أن نعرف من ينجم عن الذهب في وسطنا، وما شروطنا لإنتاجه، وما العائد منه. فللموارد حرمة. ولذا اقترح أحدهم قيام مركز لمعلومات الذهب والمعادن لسد الفرج على التنابذ بالأرقام. بل بلغ السقم ببعضهم ليدعوا إلى إيقاف تعدين الذهب بالكلّية حتى نحيط ببيئة إنتاجه كما لا نفعل الآن. فنقف على آثاره السلبية في محيطه من البشر والطبيعة، وكفالة حقوق الجماعات التي ينبثق الذهب في مناطقها. وتصادف أن جاء تقرير الـ”سي أن أن” والتظلم من آثاره الضارة في هذه المناطق قد استفحل. فأغلقت جماعة من سكان أهم مواقع التعدين في ولاية نهر النيل شارعاً، هو شريان الحركة بتلك الجهة، تطالب بالتعويض العادل عن آثار التعدين عليهم.

في سوالف السودانيين حكاية عمن جاء يتفرج على أمر فصار هو موضوع الفرجة. قال “جيت أتفرج فرجوبي”. وبدا لي أن الـ”سي أن أن” جاءت تخبر بتقريرها عن ذهب السودان فصارت، في بلد في سكرات الاستقطاب السياسي، هي نفسها خبراً.

* نقلا عن اندبندنت عربية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى