روزنامة الأسبوع

عَرْضَةْ جُوَّةْ الدَّلُّوْكَة!

كمال الجزولي

 

 

 

 

الاثنين

البرهان

ما ينفكُّ البرهان يتلمَّظ اشتهاءً، ويتحرَّق تشهِّياً، لمنصب «رئيس الجُّمهوريَّة»، ويتميَّز غيظاً من شويَّة الأولاد والبنات الذين يترِّسون الشَّوارع، منذ قرابة العام، مجمعين على سدِّ الطريق أمام تحقيقه لحلمه هذا بأخي وأخيك! لذا، فمن المرجَّح، لدى نشر هذه الرُّوزنامة، أن يكون الرَّجل قد استكمل، أو أنه على وشك أن يستكمل، انقلابه المدعوم من فلول النِّظام البائد، حيث ظلَّ ينذر «القوى السِّياسيَّة»، بإمهالها مدداً أقرب إلى الاستحالة، كانت آخرها مدَّة 10 أيَّام، كي تتوافق على رؤية «واحدة» واضحة حول الأوضاع  الرَّاهنة (!) وإلا فإنه سيقْدم على اتخاذ قرارات لم يكفَّ، يوماً، عن التَّهديد بها، وعلى رأسها إعلان تشكيل «المجلس الأعلى للقوَّات المسلَّحة»!

عبود

كان أوَّل وآخر عهد السُّودانيِّين بمثل هذا المجلس، وبالاسم، النِّظام الشُّمولي لأرستقراطيَّة الجَّيش (1958م ــ 1964م)، برئاسة الفريق إبراهيم عبُّود الذي قاد كبار الجَّنرالات لتسلم السُّلطة من رئيس الوزراء، حينها، عبدالله بك خليل، في ما عُرف، مجازاً، بانقلاب 17 نوفمبر، حيث قضى على دولة الاستقلال المدنيَّة الدِّيموقراطيَّة. قام ذلك المجلس مقام «رأس الدَّولة والجِّهاز التَّشريعي والرَّقابي»، بالمفهوم الدُّستوري، لكنَّ أعضاءه تولُّوا حقائب أهمِّ الوزارات، فانشغلوا بها تماماً، لا سيَّما وقد اتَّخذوا قراراً بتفويض أكثر صلاحيَّات المجلس، واختصاصاته، إلى قائدهم الفريق عبود، فصار، فعليَّاً، هو «رأس الدَّولة»، حتَّى هزمته ثورة أكتوبر 1964م!

وفي 25 مايو 1969م، وقع «انقلاب الرُّوَّاد» الذي قضى على الدِّيموقراطيَّة الثَّانية، وأسَّس للنِّظام الشُّمولي التَّالي (1969م ــ 1985م)، بقيادة البكباشي/ اللواء/ المشير جعفر نميري. وتأسِّياً بنظام يوليو المصري، نشأ، في قمَّة نظام مايو، «مجلس لقيادة الثَّورة» كان بمثابة «رأس الدَّولة والجِّهاز التَّشريعي والرَّقابي» في إطار التَّنظيم الدُّستوري. وتولَّى أعضاؤه مهام وزاريَّة، مثلما فوَّضوا صلاحيَّات مجلسهم، واختصاصاته، إلى «رئيسهم القائد»، فصار النِّميري، فعليَّاً، «رأس الدَّولة»! ثمَّ استغلَّ قوَّة منصبه لتدبير استفتاء صوري صار بعده «رئيساً للجُّمهوريَّة»، فقضى بقيَّة نظامه الشُّمولي يمارس دكتاتوريَّة الفرد المطلقة، تنفيذيَّاً، وتشريعيَّاً، ورقابيَّاً، ونظاميَّاً، قبل أن تدحره انتفاضة أبريل 1985م!

الترابي

وفي 30 يونيو 1989م وقع انقلاب «الجَّبهة الاسلاميَّة القوميَّة» الذي قضى على الدِّيموقراطيَّة الثَّالثة، وأسَّس للنِّظام الشُّمولي التَّالي (1989م ــ 2019م)، بقيادة العميد/ المشير عمر البشير. وعلى غرار النِّظام المايوي، أقام الاسلامويُّون، على قمَّة نظامهم، «مجلساً لقيادة الثَّورة»، اعتُبر، بالمفهوم الدُّستوري، «رأس الدَّولة والجِّهاز التَّشريعي والرَّقابي». وتولَّى أعضاؤه مهام وزاريَّة، كما فوَّضوا صلاحيَّات مجلسهم، واختصاصاته، لرئيسهم البشير الذي ما لبث أن اصطدم بالتُّرابي، القائد الرًّوحي للنِّظام، فدبَّر له مؤيِّدوه انتخابات نصَّبته رئيساً للجُّمهوريَّة حتَّى أنهت نظامه الشُّمولي، في أبريل 2019م، ثورة ديسمبر 2018م.

لكن «قوى الحريَّة والتغيير»، بدلاً من أن تكوِّن، مباشرة، كقيادة للثَّورة، أجهزة السُّلطة الانتقاليَّة، مضت تفاوض، في ذلك، لجنة البشير الأمنية التي اضطرتها الثَّورة للانقلاب عليه في 11 أبريل 2019م، بزعم الانحياز إلى الثَّورة! منذ ذلك الحين ألفت قوى الثَّورة نفسها في خضمِّ معارك لا تنتهي، وتشقُّقات بلا حصر، وتباينات لا حدَّ لها، وانقسامات ما كان أغناها عنها، وتضحيات يوميَّة باذخة بأرواح شهدائها، ودماء جرحاها، ومصائر مفقوديها، لاستعادة زمام المبادرة التي أفلتتها، بخطئها ذاك، من بين أيديها!

وها هو البرهان، الآن، ومن ورائه الفلول وقوى أجنبيَّة معلومة، يعتزم تنصيب نفسه «رئيساً للجُّمهوريَّة» بقوَّة الانقلاب، وذلك بأن يستعيد، أوَّلاً، ومن وراء أكثر من ستِّين عاماً، «مجلس عبود الأعلى للقوَّات المسلَّحة»، ليتنازل له عن اختصاصاته، وصلاحيَّاته، غير مدرك لكون التَّاريخ لا يعود إلا  بإحدى هيئتين: فإمّأ كملهاة، أو كمأساة!

الثُّلاثاء

البشير

بعث «مستشفى علياء» إلى محكمة قتل المتظاهرين عام 2019م، بالتَّقرير الذي كانت طلبته منه حول صحَّة المخلوع الذي درج، كمتَّهم، على التَّغيًّب عن الاجراءات، بزعم لزومه سرير هذا المستشفى. وقد أكَّد التَّقرير أنَّ المذكور «ما زال في حاجة دائمة ومستمرَّة للعلاج»! وأنه «لا يمكن إبعاده عن المستشفى لعدم انتظام ضغطه، وتأثيره على بعض أجزاء جسده»!

عدد المصابين بارتفاع ضغط الدَّم في البلاد يقدَّر، حسب الاحصاءات،  بالملايين، ومع ذلك يتناولون أدويتهم، ويذهبون إلى أعمالهم، ويمارسون حياتهم العاديَّة، ولا يموتون نتيجة عدم حجزهم «دائماً وباستمرار» في مستشفيات «لا يمكن إبعادهم عنها»!

الأربعاء

بَرّي

أثناء مشاركتي، عام 1998م، في إحدى الفعاليَّات الإقليميَّة، بنيروبي، حول «مشكلات المجتمع المدني الأفريقي»، شدَّت اهتمامي، ضمن المشاركين، سيِّدة صوماليَّة عضوة في برلمان «منظَّمة الوحدة الأفريقيَّة» آنذاك. لم تكن عضويَّتها في البرلمان الأفريقي هي ما أثار اهتمامي، وإنَّما رغبتي في معرفة تجربة الصُّوماليِّين، عقب ذهاب دكتاتورهم سياد برِّي، في تجاوز آلة «الدَّولة»، والامساك بأمور حياتهم بأيديهم! شغلني ذلك السُّؤال طوال الوقت، حتَّى واتتني الفرصة حين تخفَّفت الفعاليَّة من بعض قيودها الاجرائيَّة، فرجوتُ من خبير المعلومات Resource Person أن يخصِّص للسَّيِّدة بعض الوقت لتحكي عن تلك التَّجربة، فوافق.

حدَّثتنا السَّيدة حديثاً عجباً، عن بلد بإدارة ذاتيَّة لم نكن سمعنا بمثلها من قبل. فمثلاً استولى بعض منسوبي شركة الطيران الحكوميَّة على طائراتها، فصار على مَن يريد السَّفر شراء تذكرته منهم، كما عليه أن يحصل على العملة الأجنبيَّة من موظفي البنك المركزي الذين اختطفوه، وحوَّلوه إلى مؤسَّسة خاصَّة تدير المال! ونشأت، كذلك، إدارات ذاتيَّة للأراضي، والصَّحَّة، والتَّعليم، والموانئ، والشَّحن، والنَّقل البرِّي والبحري، وما إلى ذلك! وقالت السَّيِّدة، للغرابة، إن سعر عملتهم لم يهتز! كما أن أسعار السِّلع انخفضت بعد أن أزيلت عنها الجَّمارك، والضَّرائب، وغيرها من الرُّسوم الحكوميَّة! وصار بالامكان الحصول على المستندات، والوثائق، والأختام المختلفة، في ما يتَّصل بالمواليد والوفيَّات.. الخ، من بعض الإدارات التي كانت حكوميَّة، في ما مضى، ثم صارت أهليَّة، أو قل، بوضوح، قطاعاً خاصَّاً، وقِسْ على ذلك!

حاولت الاستعانة بمعارفي الماركسيَّة الكلاسيكيَّة لفهم تلك التَّجربة العجيبة. لكن الماركسيَّة الكلاسيكيَّة تتحدَّث، فحسب، عن «اضمحلال الدَّولة» حين تبلغ «دكتاتوريَّة البروليتاريا» أقصى سلطتها في ظلِّ البنية الشِّيوعيَّة، فتقضي على جميع الطَّبقات، بما فيها طبقتها هي نفسها، وبالتَّالي لا يعود ثمَّة «صراع طبقي»، أو احتياج لـ «جهاز دولة» ينظِّم هذا الصِّراع! فأين التَّجربة الصُّوماليَّة من ذلك؟!

لم يكن كافياً لتصوُّر الظَّاهرة، دَعْ تحليلها، محض ملخَّص مختصر، خلال ما لا يزيد عن ساعة! كان الأمر طريفاً فحسب! كما لم يُتح لي، لاحقاً، الوقوف على تفاصيل المسألة. أمَّا ما استدعاها، الآن، إلى ذاكرتي، فهو الضَّائقة المعيشيَّة التي تشهدها بلادنا، حاليَّاً، تحت «سلطة الأمر الواقع» الانقلابيَّة، وارتباك الأسواق المريع، وما كشف عنه اتِّحاد الغرف السُّودانيَّة من أن الضَّرائب والرُّسوم التي تقتضيها الدَّولة من المنتجين تمثِّل 70% من أسعار السِّلع عند وصولها للمستهلك النِّهائي! فمثلاً، تضاعفت أسعار الكهرباء، وفقاً لهذه الحقيقة، 116 مرَّة خلال أقلِّ من عام! ورسوم الموانئ ارتفعت بأكثر من 300%! ورسوم الأرضيَّات على المواد الخام وغيرها من البضائع تضاعفت 4 مرَّات! أمَّا الدُّولار الجُّمركي فقد زاد مرَّتين، خلال فترة قصيرة، حتَّى أصبح يساوي 564 جنيهاً، بعد أن كان يساوي، إلى وقتٍ قريب، 445 جنيهاً، بنسبة زيادة تبلغ 26,7%، مِمَّا انعكس فوراً في ارتفاع الأسعار، وركود الأسواق، والشَّلل التَّام في الحركة التِّجاريَّة بيعاً وشراءً!

وتناقلت المصادر، مؤخَّراً، أن وزارة الماليَّة طلبت من هيئة الجَّمارك إدخال الأجهزة الكهربائيَّة تحت مظلَّة التَّحصيل الجُّمركي، بل والتَّشدُّد في التَّحصيل، شاملاً حتَّى شاشات التلفزيون المفردة، بواقع دولارين للبوصة، بما قد يصل بجمارك الشَّاشة الواحدة إلى 64 دولاراً، وذلك لزيادة ربط الجَّمارك الشَّهري بنسبة 20%!

وخلُص اتِّحاد الغرف إلى أن الزِّيادات المتتالية في الضَّرائب، والرُّسوم، وسعر الدُّولار الجُّمركي، ستفضي إلى المزيد من التَّعثُّر في الانتاج! وتوقَّع المستثمرون الصِّناعيُّون، وأعضاء اتِّحاد الصِّناعات، أن يؤدِّي هذا إلى خروج المزيد من المصانع من دائرة الانتاج! وأوضحت المصادر أن 80% من مصانع البلاد إمَّا قد توقَّفت، أصلاً، عن العمل، نهائيَّاً، بسبب هذا العسف الضَّريبي والجُّمركي، أو أصبحت تعمل بأقل من 20% من طاقتها الانتاجيَّة! وأن ما تفرضه «الدَّولة» من ضرائب، ورسوم، وزيادات في سعر الدُّولار الجُّمركي يتسبَّب في تقليل القدرة التَّنافسيَّة للصِّناعة الوطنيَّة، الأمر الذي يؤدِّي إلى خروج الكثير من المنتجين والمصنِّعين من السُّوق!

الخميس

سلفا

لكي تتصالح الشَّخصيَّة السُّودانيَّة مع ذاتها، لا بد أن تتصالح، أوَّلاً، مع واقعها الذي يمكن أن تُذرف في بيان تنوُّعه وتعدُّده أطنان من الكلمات الكبيرة، والنَّظريَّات العميقة، شديدة التَّعقيد، مثلما يمكن أن تلمحه، أيضاً، العين المنتبهة لتمظهراته، حتَّى في أبسط الرُّؤى الشَّعبيَّة، الشَّاملة له، المشمولة فيه، لا المادِّيَّة، فحسب، بل والميتافيزيقيَّة أيضاً!

من سنخ هذا التَّمظهر الميتافيزيقي البسيط للتنوُّع السُّوداني، قصَّة حقيقيَّة رواها لنا الفريق سلفا كير ميارديت، النائب الأوَّل لرئيس الجمُّهوريَّة، رئيس حكومة الجَّنوب، ورئيس الحركة الشَّعبيَّة لتحرير السُّودان، يوم قصدناه في جوبا، ذات نهار خريفي من أواخر يوليو 2010م، نقدِّم له واجب العزاء في الفقيد د. سامسونق كواجي، وزير الزراعة بالإقليم، وأحد الرموز النضاليَّة للحركة. كان ذلك على أواخر أيَّام السُّودان الموحَّد. وكنَّا وفداً خليطاً من عناصر شتَّى، مستعربة وغير مستعربة، مسلمة وغير مسلمة، من حكومة الخرطوم، ومن المعارضة السِّياسيَّة، والمجتمع المدني في شطري البلاد.

قرنق

التقينا بسلفا في صالونه الملحق بأمانة الحكومة الإقليميَّة. ولدى بعض المنعرجات التي تشقَّقت إليها مؤانسات العزاءات المعتادة في مثل ذلك المجلس، حكى لنا، وكانت تلك أوَّل مرَّة أقترب فيها منه، وألامس أسلوبه الشَّائق في الحكي، أنه، وفي أحد الأيَّام التي أعقبت مفاوضات نيفاشا، وقبيل التوقيع النهائي على اتفاقيَّة السَّلام الشَّامل CPA، لاحظ الزَّعيم الرَّاحل د. جون قرنق لوفده أنَّهم، في ذلك التَّفاوض، فعلوا كلَّ شئ، إلا شيئاً واحداً لا يجوز إغفاله: مشاورة السَّلاطين والكجور! ثمَّ عَمَد لاصطحاب مجموعة تضمُّ قيادات سياسيَّة وعسكريَّة وإعلاميَّة بالحركة، واتَّجه بهم إلى منطقة نيوسايت المحرَّرة، وقتها، بالجَّنوب، للالتقاء ببعض السَّلاطين المحليِّين وشخصيَّات الكجور القبليَّة. وكان الغرض من اللقاء التَّأكيد على الدَّور الرُّوحي فائق الأهميَّة، والذي لعبته تلك الشَّخصيَّات، خلال مرحلة الحرب، والتَّأكيد على ما يُنتظر أن يلعبوه خلال مرحلة السَّلام.

وواصل سلفا حكايته قائلاً: نَصَبَ الرِّفاق صيواناً ضخماً في ساحة واسعة بنيوسايت، وذُبحت الذَّبائح، وقُدِّم الطَّعام والشَّراب، وقُرعت الطُّبول، وعزفت الآلات الموسيقيَّة المحليَّة، ورقص النَّاس، شباباً وشيباً، وردَّدوا عذب التَّرانيم مع الصِّبية والصَّبايا، واتَّخذت الأجواء، عموماً، الطابع الاحتفالي التَّقليدي. وفي نهاية اللقاء، مثلما كان متوقعاً، أُحضر ثور ضخم، وانخرطت شخصيَّات الكجور في طقس صلاة خاصَّة لمباركة السَّلام. اشتمل طقس الصَّلاة على همس الكجور الأكبر في أذن الثَّور ببعض التَّمائم والأدعيَّة الأرواحيَّة، ثمَّ سؤاله عمَّا إن كان ما اتُّفق عليه مع حكومة السُّودان، في كينيا، مباركاً، فيُقبلون على توقيعه، أم غير مبارك، فينفضون الأيدي عنه فوراً، بصرف النَّظر عمَّا بُذل فيه من جهد، وسياسة، ووقت!

سرِّي

كان، ضمن من جاءوا معنا من نيروبي، الرفيق الصَّحفيُّ النُّوبيُّ من أقاصي الشَّمال مصطفى سِرِّي. وشرح له بعض الرِّفاق الجَّنوبيِّين أن الثَّور، بعد سماعه همس الكجور وسُّؤاله، إمَّا سيهزُّ رأسه جزلاً، وينبطح على العُشب، ميمِّماً وجهه شطر الشَّمال، ثمَّ يتبوَّل، دلالة على أن الصَّلاة مقبولة، وأن السَّلام مبارك (!) وإمَّا سيواصل وقوفه جامداً، لا يُبدي أيَّة حركة، ما سيعني أن عليهم صرف النَّظر عن الأمر برمَّته! ومضى سلفا يقول: على الرَّغم من أن مصطفى ظلَّ صادقاً، دائماً، في تفهُّمه، وحماسه لمشروعيَّة الاختلاف، ولفكر التنوُّع، إلا أنه، مع ذلك، لم يصدِّق حرفاً مِمَّا قالوه له، حيث ضرب، ضاحكاً، كفَّاً بكف، وكان مقعده إلى جواري، وأبدى لي، بصوت خفيض، سخريَّته من أن يكون مطلوباً منه تأييد حركة «تقدُّميَّة» كحركتنا تعوِّل على مثل هذه «الخزعبلات»!

على أن ما حدث بعد ذلك، حسب سلفا، كان أمراً فائق الإعجاز، حيث ما كاد الكجور ينهي همسه في أذن الثَّور، حتى هزَّ الأخير رأسه، وانبطح على العُشب، ميمِّماً وجهه شطر الشَّمال، ثمَّ ما لبث أن تبوَّل مليَّاً! في تلك اللحظة، بالتحديد، والحديث ما زال لسلفا، حانت مني التفاتة إلى صديقنا مصطفى، فرأيت وجهه يشحب رويداً رويداً، إزاء المشهد المرعب، حتى إذا أكمل الثَّور تداعيه على الأرض، بكلِّ ثقله، وعيناه جاحظتان، وأطرافه متيبِّسة، وبوله يرشح ويسرسب من تحته، أطلق صديقنا ساقيه للرِّيح، الأمر الذي كبَّد الشَّباب رهقاً لأجل اللحاق به، وطمأنته، وإحضاره إلى حيث وجَدَنا مستغرقين في ضحك مجلجل، بما فينا قرنق ذاته، بل وشخصيَّات الكجور أنفسهم!

وقبل حتى أن يختم سلفا حكايته تماماً، كنا قد استغرقنا، نحن، أيضاً، المتحلِّقين حوله داخل صالونه، في ضحكٍ مجلجلٍ، رغم أجواء المأتم! وجعلت أفكر، وسط لجَّة الصَّخب الذي أحدثته الحكاية، كم هي معقَّدة منظومة وحدتنا المتنوِّعة ثقافيَّاً، بطوابعها، وذائقاتها الإسلاميَّة، والمسيحيَّة، والأرواحيَّة، وغيرها. فما من شعب، على وجه البسيطة، بالغاً ما بلغ ارتقاؤه في مدارج التطوُّر المادِّي، أو الاقتصادي، أو العلمي، إلا وتخالط ثقافته ضروب من الميتافيزيقيا، حيث مؤسَّسات البنية الفوقيَّة للمجتمع أبطأ في التغيُّر من مؤسَّسات بنيته التَّحتيَّة، والنَّاس، في هذه الدُّنيا، ما زالوا أسرى حاجتهم البكرة للأديان، وللسِّحر، ولما لا حصر له من التَّصوُّرات والأخيلة الميتافيزيقيَّة تعينهم على التَّماسك شيئاً إزاء نزق الطبيعة وتفلُّتاتها! لكن، بقدر ما تتكافأ وتتساوى القيمة الثَّقافيَّة والرُّوحيَّة لهذه التَّصوُّرات والأخيلة الميتافيزيقيَّة، ودلالاتها المعتقديَّة، بقدر ما تتنوَّع وتختلف الأشكال والطرائق التي تتمظهر بها هذه التصوُّرات والأخيلة، دون أن يكسبها ذلك ميزة نوعيَّة على بعضها البعض، فلا مناص، إذن، إن كان النَّاس يرومون إحسان التَّساكن، حقاً وفعلاً، من أن تسود علائقهم مقوِّمات الحوار السِّلمي، وصادق الاحترام المتبادل.

الجُّمعة

بولاد

أختلف مع كمال بولاد، مقرِّر «المجلس المركزي للحريَّة والتَّغيير»، في وصفه لـ «مؤتمر المائدة المستديرة لمبادرة الشَّيخ الطَّيِّب الجِّد»، والذي انعقد، مؤخَّراً، بقاعة الصَّداقة بالخرطوم، بأنه «عَرْضَة خارج الدَّلُّوكة»! ومدار اختلافنا هو رؤية كلٍّ منَّا لـ «الدَّلُّوكة» نفسها! فبولاد يرى ضرورة النَّظر إلى «أصل الأزمة  باعتبارها أزمة خرق للوثيقة الدُّستوريَّة التي كان متَّفقاً عليها كناظم لهياكل المرحلة الانتقاليَّة»، أو هي، بالأحرى والأصح، في رأيي، أزمة انقلاب كامل الدَّسم، بدأ في 11 أبريل 2019م، واستُكمل في 25 أكتوبر 2021م، بمواجهة ثورة يصرُّ شبابها على تخليصها من بين مخالب ذئاب الانقاذ، حتَّى لو كان مهر ذلك مهجهم وأرواحهم! لكنَّ «دلوكة المبادرة» ليست هذه، وإنَّما هي حَمْلُ الثَّورة، حمْلاً، على التَّخلي عن أهدافها، وشعاراتها، والتَّنازل عن أرواح شهدائها، ودماء جرحاها، والتَّسليم، في أفضل الأحوال، بشراكة بين جنرالات البشير السَّابقين، وبين القوى السِّياسيَّة دون فرز! و .. «دون فرز» هذه هي «كلمة السِّر» التي تشمل «حزب المؤتمر الوطني» بإسلامويِّيه، وانتهازيِّيه، وقتلته، وحراميَّته، بما يتيح لهم استعادة  سلطتهم المقبورة كاملة لا تنقص «شَوْلَة»، ولو بطريق انتخابات مفبركة، وصناديق اقتراع مخجوجة! لذلك كان من الطَّبيعي أن يتداعى إلى «دلُّوكتها» عبدالرحمن الصَّادق، ومبارك الفاضل، والتيجاني السٍّيسي، وأحمد سعد عمر، وموسى محمَّد احمد، وهاشم الشَّيخ قريب الله، وهلُمّجرَّا!

الجد

تلك، إذن، «دلُّوكة»، وهذه «دلُّوكة»، فانظر بأيِّ آلاء «الدَّلُّوكتين» تُكَذِّب يا بولاد!

السَّبت

للعاملين في «الشَّركة التُّركيَّة للكهرباء» بنيالا قضيَّة عادلة تستوجب منَّا، على الأقل، لفت الأنظار إليها؛ وقد دخلوا بسببها في إضراب مفتوح عن العمل احتجاجاً على تصرُّفات إدارتها التُّركيَّة وبعض موظَّفيها الأتراك! فسلوك هؤلاء تجاه العاملين السُّودانيِّين، كما يقول المحتجُّون، يتَّسم بالتَّمييز العنصري، وإهانة الكرامة، والإذلال! ولولا إيراد المحتجِّين لوقائع ملموسة يسهُل التَّحقُّق من صدقيَّتها أو عدم صدقيَّتها، لأصبح التَّشكيك في الأمر برمَّته ممكناً! فتمييز الشَّركة بين مستخدميها الأجانب والسُّودانيِّين تكفي لفضحه مجرَّد نظرة عابرة لكشف المرتَّبات. إذ أن مِن هؤلاء مَن هُم في درجة واحدة، ويؤدُّون نفس الوظيفة، ومع ذلك فالمرتَّب الشَّهري للتُّركي منهم يبلغ 1500 دولار، وللهندي 1000 دولار، بينما لا يتجاوز، بالنِّسبة للسُّوداني، 250 دولاراً!

وثمَّة مسألة أخرى تكشف عن منهج الإدارة المتعالي في التَّعاطي مع مطالب العاملين المضربين. فعلى الرُّغم من أن هذه المطالب غاية في التَّواضع والمعقوليَّة، بل وكان متصوَّراً أن تنجزها الإدارة حتَّى دون أن يطلبها العاملون، حيث لا تتجاوز إصدار لوائح تحكم العمل، وبيان وصف وظيفي ينظِّمه، وضمان جو آمن للعمل، وعدم التَّجسُّس على العاملين أثناءه، فضلاً عن إعادة النَّظر في المسائل المتَّصلة بالمساواة في المعاملة، وعلى رأسها المساواة في الحقوق الماليَّة، إلا إن الإدارة تواصل تجاهلها للإضراب، والمضربين، ومطالبهم!

ثمَّة تاريخ من سوء معاملة السُّودانيِّين انتهجها قدامى الأتراك، مِمَّا يجدر بالأجيال  الجَّديدة منهم معرفته، واستيعاب ما يمكن أن يثير من حساسيَّات يتوجَّب عليهم تفاديها لدى كلِّ خطوة من خطوات مسيرة علاقاتهم في هذه البلاد، وإلا فإن هذه المسيرة ستكون كلها غير محسوبة، فلن تنتج سوى الخراب!

الأحد

عبدالله

حدث، على أيَّام النِّظام البائد، أن أقيم تكريم لعبد الله الطَّيِّب، فجاء إلى الحفل مرتدياً حُلَّةً  أفرنجيَّة. وتناوب المتحدِّثون على منصَّة الخطابة يقرنون اسمه، حين يذكرونه، بألقاب مختلفة، منها «شيخ»، و«بروف»، و«دكتور»! وعندما جاء دوره في الحديث، علَّق ضاحكاً بقوله: فأمَّا بالنِّسبة للقب «شيخ»، فقد قصدتُّ أن أجئ بهذا الزَّي الأفرنجي لأؤكِّد أنني فسَّرت القرآن الكريم وأنا، في الأصل، أفندي! وأمَّا بالنِّسبة للقب «بروف»، فقد حدث أن عيَّنوا لنا مديراً للجَّامعة، فكان أوَّل شئ طلبه منَّا أن نمنحه لقب «بروفيسور»، فزهدتُّ في اللقب! وأمَّا بالنِّسبة للقب «دكتور»، فحين عدتُ به، أوَّل الأمر، من انجلترا، كنت أكاد أطير زهواً به؛ ثمَّ كُلِّفت بالذِّهاب إلى الجَّنوب لأرى إمكانيَّة تأسيس جامعة هناك. فركبت الباخرة. وفي الليل أيقظتني جلبة أمام باب «قمرتي»، فخرجت لأتبيَّنها، فوجدتُنا متوقِّفين عند بلدة صغيرة، وثمَّة أناس يحملون «رتينة»، ومعهم مريض، ويبدو أنهم سمعوا بأن في الباخرة «دكتوراً»، فجاءوا يطلبونني لعلاجه! لكنني اعتذرت لهم بأنني لست دكتوراً في الطِّب البشري، وإنَّما دكتور في الأدب! فغادروا الباخرة، محبطين، وهم يصيحون لذويهم المنتظرين على الرَّصيف: «الزول طلع ما دكتور .. طلع دكتور ساكت»! ومن يومها باخ اللقب في نفسي!

***

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى