الرأي

السودان بعد نقطة اتخاذ القرار

فاروق كمبريسي
مسار الصعود الطويل لرسم مقتضيات مشهد اقتصادي جديد: بعد الوصول لنقطة اتخاذ القرار، ما مقدار الإعفاء المتوقع من إجمالي رصيد الدين الخارجي عند الوصول إلى نقطة الإنجاز؟ وما هي الفوائد المتوقعة؟
مُلخّص تنفيذي
نود إفادة الجميع أن الهدف من تخفيف أعباء الديون عبر آلية الهيبك هو الوصول بمستوى ديون السودان الحالية والجدول الزمني لسدادها إلى مستوى يمكن الاستمرار في تحمله (أي تخفيض أعباء ديون السودان ليصل صافي القيمة الحالية للدين إلى 150% من صادراته في سياق إطار الهيبك حتى تتماشى مع قدرته على السداد)، والوصول بمدفوعات خدمة الدين إلى مستوى يتسق مع قدرته المحدودة على السداد. وهذا أصبح متاحاً خلال الفترة الانتقالية لإعفاء الدين (يونيو 2021- يونيو 2024)، بعد صدور موافقة مجلسي الصندوق والمؤسسة الدولية للتنمية (آيدا- بنت البنك الدولي) في 28 يونيو 2021، وإقرارهم بوصول السودان لنقطة اتخاذ القرار، وتعهداتهم بشأن تقديم الدعم في شكل حزمة شاملة لتخفيف ديون السودان في إطار مبادرة الديون المُعزّزة (Enhanced HIPC Initiative).
ويحتاج السودان إلى أكبر عملية إعفاء ديون تتم في إطار مبادرة الهيبك، وبعد تطبيق آليات تخفيف الديون التقليدية على نحوٍ كامل، تقدّر ديون السودان، بصافي القيمة الحالية بمبلغ 26.3 مليار دولار كما في ديسمبر 2019 (ولا نقصد هنا إجمالي رصيد الديون البالغ 58.8 مليار دورلار)، وعليك التمييز أيها القارئ/ة الحصيف/ة. وبما أن السودان حالياً غير مؤهل لإعفاء الدين في إطار النافذة المالية (Fiscal Window)، لأنها تتطلب أن تكون نسبة صافي القيمة الحالية للإيرادات الحكومية 250% (وحالياً تبلغ 1,260%). فإن الخيار الممكن هو إعفاء الدين عبر نافذة الصادر (Export Window) لمبادرة الهيبك، وبالرغم من أن نسبة صافي القيمة الحالية للدين إلى الصادرات السودانية هي 495% (وتفوق العتبة المحددة بنسبة 150%) كأحد المؤشرات الهامة لاستدامة الدين (الحد الآمن)، إلا أنه يمكن تخفيضها إلى المستوى المعياري المطلوب، ومن المتوقع أن تنخفض النسبة إلى 61% في يونيو 2024 (وهي أقل من النسبة المعيارية المطلوبة لاستدامة الدين) وهنا يكمن جمال القصة.
بناءً على ما تم ذكره أعلاه، يستدعي تخفيف معدل صافي القيمة الحالية للديون إلى الصادرات من 495% إلى 150% تخفيف الديون في إطار الهيبك يتطلب إعفاء 18.4 مليار دولار من إجمالي صافي القيمة الحالية البالغة 26.3 مليار دولار. كما يستدعي ذلك معامل تخفيض (CRF) قدره 70%. واستناداً إلى تقاسم الأعباء بالتناسب، ستبلغ المساعدات المتعددة الأطراف 3.9 مليارات دولار، ومساعدات دول نادي باريس 13 مليار دولار، ومساعدات من الدائنين التجاريين 1.4 مليار دولار بصافي القيمة الحالية (وهي تعادل جميعها مبلغ 18.4 مليار دولار المذكور).
الخُلاصة (زيت المقال)، بافتراض التطبيق الكامل لتخفيف أعباء الديون سيتم إعفاء ديون السودان الخارجية، واعتماداً على موقف الدين في ديسمبر 2019، سيتم تخفيض الديون من حوالي 49,7 مليار دولار إلى 8 مليارات دولار عند بلوغ نقطة الإنجاز (Completion Point) في يونيو 2024م.
واعتماداً على موقف الدين في ديسمبر 2020، فإن إجمالي الديون التي من المتوقع إعفاؤها هي 42.7 مليار دولار (أي يتم إعفاء جميع المتأخرات والتي تمثل 86% من إجمالي الدين البالغ 58.8مليار دولار)، وسيبقى أصل الدين في حدود 16 مليار دولار (كالتزام قائم على السودان). ولكن وفق مؤسسة التمويل الدولية- بنت البنك الدولي IDA) فقد أشارت إلى احتمالية إعفاء ما يعادل 50 مليار دولار وذلك وفق رأيهم المنشور في 21 مارس 2021.
أولاً: ما تعني قصة الهيبك ذات المرحلتين (نقطة اتخاذ القرار + نقطة الإنجاز)؟
أها القصة دي وصلناها كيف؟ طبعاً القصة دي تمت بعد النجاح الذي حققه السودان بشأن البرنامج الاقتصادي الذي يراقبه الصندوق (SMP) وإجراء كافة الإصلاحات، وسداد الدين السيادي، ورضا المجتمع الدولي وتطورات الاندماج الحالي بعد خروج السودان من قائمة الإرهاب، والفراغ من إعداد ورقة استراتيجية خفض الفقر، وغيرها، وببركة الثورة المجيدة وصل السودان لنقطة قرار الهيبك (HIPC Decision Point) وهي نقطة الانطلاق لتخفيف أعباء الديون (أول خطوة رسمية في عملية الهيبك). وبلوغ هذه النقطة يعني باختصار الموافقة المبدئية على منح السودان مساعدات مالية جزئية بموجب عملية الهيبك.
وتأتي بعدها المرحلة الثانية وهي الوصول إلى نقطة الإنجاز (Completion Point) والتي تعني الحصول على تخفيض كامل ونهائي للدين القائم في إطار مبادرة هيبك، وفي سبيل تحقيق ذلك يجب على السودان أن ينشئ سجل أداء إيجابي آخر على صعيد السياسات والتأكد من تنفيذها من خلال برامج مدعمة بقروض من صندوق النقد والبنك الدوليين، وفق ما اتفق عليه عند نقطة اتخاذ القرار، ومُضي عام كحد أدنى من تطبيق استراتيجية خفض الفقر، وإضافةً لذلك، مراجعة الإنفاق العام وتعبئة الإيرادات المحلية وتنفيذ برامج الحماية الاجتماعية، وإرساء دعائم الاستقرار الاقتصادي الكلي.
وبمجرد استيفاء المعايير أعلاه، يمكن الوصول إلى نقطة الإنجاز، التي تتيح له الحصول على التخفيف الكامل لأعباء الديون الذي تم التعهد بتقديمه عند نقطة اتخاذ القرار، وبعد مرور مدة زمنية في حدود 3 سنوات سيكون التتويج بنقطة الإنجاز، حيث يتم الشروع في إعفاء فوائد الدين التعاقدية والمتأخرات (الفوائد الجزائية) والتي تعني أن نسبة الديون الخارجية متأخرة السداد حوالي 86% (أي يتم إعفاء 42.7 مليار دولار).
ثانياً: ماذا يحدث بشأن خدمة الدين في أعقاب الوصول لنقطة اتخاذ القرار؟ وما الأثر المباشر على الموازنة العامة خلال الفترة الانتقالية لإعفاء الديون (يونيو 2021- يونيو 2024)؟
لدى وصول السودان إلى نقطة اتخاذ القرار سوف ينخفض رصيد ديونه ولكن الأرجح أن مدفوعات خدمة الدين سترتفع مع استئناف السودان سداد مدفوعات خدمة الدين التي لا يقوم حالياً بسدادها. وعليه، خلال الفترة الانتقالية من يونيو 2021 إلى يونيو 2024 سيكون الأثر المباشر لعملية تخفيف أعباء الديون على الموازنة هو من خلال زيادة مدفوعات خدمة الدين الفعلية. كما يجب أن يعلم الجميع أن السودان لم يقم بسداد الفوائد على ديونه الخارجية منذ وقت طويل للغاية.
ويجب على الحكومة الانتقالية استئناف سداد خدمة الدين خاصةً بعد تسوية المتأخرات. وبناءً على السيناريو الجديد بعد وصول نقطة القرار، سيكون السودان مطالباً بسداد مدفوعات خدمة دين في المتوسط حوالي 128 مليون دولار سنوياً خلال الفترة 2021-2024. وبالطبع هذه المبالغ ستمثل استنزافًا للحيّز المالي (Fiscal Space) المتاح للإنفاق التنموي، ولكن هذا الأثر على الموازنة سيتم تخفيفه من خلال الزيادة المتوقعة في الدعم المالي الخارجي بمجرد أن يقوم السودان بتطبيع العلاقات مع المؤسسات المالية الدولية بالشكل الأمثل. وبشكل عام، ومن المتوقع أن تتدفق الموارد المالية الضرورية للإنفاق التنموي والاستثماري خلال هذه الفترة. وبالتحديد من المتوقع أن تحافظ مؤسسة التمويل الدولية (آيدا- بت البنك الدولي) على تقديم تدفقات موارد أجنبية إلى السودان، من خلال عمليات تمويل التنمية. كما أنه من المتوقع أن يقدم دائنون آخرون، من بينهم بنك التنمية الأفريقي تمويلاً إضافياً عبر المنح.
ثالثاً: هل يوفر تخفيف أعباء الديون تدفقات موارد أجنبية للسودان في شكل مساعدات ومنح وقروض؟
نود إفادتكم في هذا الشأن أن الاقتراض العام الخارجي ظل محدوداً في السنوات الأخيرة، فقد كان السودان مستبعداً إلى حد كبير من فرص الحصول على التمويل الخارجي بسبب متأخراته للدائنين. وقد تمكّن من التعاقد على ديون جديدة بنسبة لا تذكر حوالي 1% من الناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة 2012-2015. وكما أسلفنا، فالهدف من تخفيف أعباء الديون هو الوصول بمستوى ديون السودان الحالية والجدول الزمني لسدادها إلى مستوى يمكن الاستمرار في تحمله والوصول بمدفوعات خدمة الدين إلى مستوى يتسق مع قدرته على السداد. ومع ذلك، فإن عودة اندماجه في المجتمع التمويلي الدولي ومواظبته على أداء التزامات خدمة الدين التي تصبح مستحقة سيفتح له المجال للاستفادة من التمويل المُيسّر والمنح من المانحين متعددي الأطراف والثنائيين، ومع تحسّن مناخ الأعمال بعد الاندماج فنتوقع مزيداً من الفرص لجذب الاستثمارات الأجنبية.
وفي المُجمل، سيكون متاحاً للسودان الوصول للتمويل والمساعدات الضرورية للقيام بعملية التنمية ومكافحة الفقر وذلك من خلال الحصول على القروض المُيسّرة (Concessional Loans) من مختلف المؤسسات والصناديق المالية الدولية بما فيها صندوق النقد والبنك الدوليان وبنك التنمية الأفريقي. ومن المتوقع أن تحصل الحكومة على موارد مالية مقدّرة لسد عجز الموازنة والوصول به إلى الحدود الآمنة (أقل من 3% من إجمالي الناتج المحلي)، نظراً لأن استمرار مشكلة عدم الحصول على تلك التمويلات خلال فترة وجود السودان بالقائمة، أجبرت الحكومة على الاعتماد على تمويل العجز بأدوات الدين المحلية (ضمانات، صكوك، شهادات شهامة، وغيرها)، ونتوقع أن تقل هذه الظاهرة ونتحول لمرحلة الانضباط المالي (Greater Budgetary Discipline) بعد الاستفادة من تدفقات الأموال والمساعدات في المستقبل المنظور.

رابعاً: ما الأثر المتوقع على مؤشرات الاقتصاد الكلي الأساسية في أعقاب الوصول لنقطة اتخاذ القرار وما يليها؟
القطاع الحقيقي: نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، بعد ثلاث سنوات متتالية من الانكماش 2018-2020، من المتوقع أن ينتعش النمو تدريجياً ابتداءً من 2021 واستعادة الاستقرار الاقتصادي، وإزالة التشوهات المتبقية، وسوف يستمر النمو إيجاباً وسيبلغ ذروته في عام 2027 مع تسارع الاندماج في الاقتصاد العالمي، ونمو التمويل المقدم للقطاع الخاص، والتحسينات على مناخ الأعمال وتعزيز الاستثمار، ومن المتوقع أن يستقر النمو في نطاق 4.5% على المدى الطويل.
معدل التضخم: من المتوقع انخفاض في الأجل المتوسط من ثلاثة أرقام إلى حوالي 20% في عام 2023، واستقراره في المدى الطويل في نطاق يتراوح في حدود 6% و9% وذلك نتيجة للوصول المتجدد إلى تمويل المؤسسات المالية الدولية، وضبط أوضاع المالية العامة وتعزيز استقلالية بنك السودان المركزي (كما منصوص عليه كمطلوبات في البرنامج المراقب).
قطاع المالية العامة: سيوفر إصلاح دعم المحروقات وإلغاء الدولار الجمركي، إلى جانب التدابير في جانب السياسات الضريبية وتدفقات المنح، حيزاً مالياً، ومن المتوقع أن تزيد الإيرادات المحلية من 7% إلى 10% بعد الوصول لنقطة القرار، ومن المتوقع أن ترتفع المنح بشكل كبير في المدى القريب، للإسهام في برنامج دعم الأسر. وفي نهاية المطاف، من المتوقع أن يتقلص العجز في الموازنة إلى 2% من إجمالي الناتج المحلي، وفي ظل هذه الافتراضات من المتوقع أن تكون نسبة الدين المحلي إلى إجمالي الناتج المحلي على مسار يمكن الاستمرار في تحمله.
وعلى صعيد الدين المحلي، من المتوقع أن يوفر تنفيذ النظام المصرفي المزدوج (أي عودة الخدمات المصرفية التقليدية) بعض المساحة للتمويل المحلي، والذي يمكن أن يساعد بنك السودان المركزي في إدارة السيولة، ومن المتوقع ارتفاع رصيد الدين المحلي إلى حوالي 20% من إجمالي الناتج المحلي على المدى المتوسط.
القطاع الخارجي: تشير التوقعات إلى أن عجز الحساب الجاري سيظل في حالة عجز كبير على المدى القصير مما يعكس انخفاض القدرة على الإنتاج المحلي واستمرار الحاجة إلى الاستيراد، وكذلك انخفاض مستوى الاستثمار. ولكن بمرور الوقت وزيادة الاستثمار في القطاع الزراعي، من المتوقع أن ترتفع الصادرات، مما يقلل عجز الحساب الجاري إلى ما بين 4.5% إلى 5% على المدى المتوسط إلى المدى الطويل (وهذا هو الحد الآمن 5% من إجمالي الناتج المحلي).

خامساً: هل يعمل تخفيف أعباء الديون على خروج الاقتصاد السوداني من حالة الانكماش إلى الانتعاش؟
وهذا هو سؤال البحث: لأن معظم الدراسات المتخصصة التي أُجريت حول هذا الشأن توصلت إلى أن عبء الديون الثقيل أدى بشكل مباشر إلى تثبيط جهود الحكومات لتنفيذ الإصلاحات الهيكلية والمالية التي من شأنها أن تخلق مناخاً للانتعاش الاقتصادي، وبشكل غير مباشر أدى إلى إضعاف الاستثمار. ولحالة السودان فإن عبء الدين الخارجي بدأ في التأثير سلباً على النمو خاصةً عندما تجاوز صافي القيمة الحالية 170% من حجم الصادرات، و 40% من إجمالي الناتج المحلي، وتسبب في تخفيض نمو الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج، وتخفيض نصيب الفرد من إجمالي الناتج الإجمالي. كما أن ارتفاع خدمة الدين شكّل عائقاً أساسياً أمام تلبية الاحتياجات الأساسية التي تهم معاش الناس، وتقليص الموارد المتاحة للاستثمار في مشاريع البنية التحتية ورأس المال البشري.
بناءً عليه، فإن عملية الهيبك التي تستهدف تخفيض أعباء ديون السودان ليصل صافي القيمة الحالية إلى ما دون 150% من صادراته ما يضمن قدرته على السداد والاستفادة من تدفعات موارد أجنبية جديدة، وهذا أحد أهم القنوات التي يمكن أن تستفيد منها الحكومة الانتقالية في مساعيها الرامية إلى دفع النمو الاقتصادي إلى الأمام، عبر تخصيص حصة كبيرة من موارد النقد الأجنبي والمساعدات المتوقعة بعد إعفاء الديون، وتوجيهها للإنفاق على التنمية والاستثمار الرأسمالي وذلك من أجل تسهيل النمو وخفض الفقر، كما أن تخفيف أعباء الديون له انعكاسات إيجابية ومهمة للحكومة للمضي قدماً في تنفيذ برامجها الإصلاحية التي يمكن أن تحدث التعافي التدريجي للاقتصاد خلال الفترة الانتقالية.
وختاماً نبارك للشعب السوداني المعطاء الذي تكبد مشاق تكلفة التصحيح (الإصلاح)، الوصول لهذا المكسب الكبير، والذي سيفتح آفاقاً رحبة له في المستقبل المنظور. وعلى الحكومة الانتقالية مواصلة الجهد في إنجاز الاسايمنت الداخلي وتخفيف تلك التكلفة على معاش الناس.
*خبير اقتصادي متخصص في إدارة سياسات الاقتصاد الكلي، الاقتصاد الرقمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى